شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
استقوى بالفرس وتحالف مع المعتزلة والعلويين... عن براغماتية الخليفة عبد الله المأمون

استقوى بالفرس وتحالف مع المعتزلة والعلويين... عن براغماتية الخليفة عبد الله المأمون

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الخميس 11 أغسطس 202210:15 ص

بويع عبد الله المأمون بن هارون الرشيد بالخلافة في الرابع من صفر 198هـ الموافق للـ27 من آب/ أغسطس 813م، وتوفى في الـ19 من رجب 218هـ الموافق للعاشر من آب/ أغسطس 833م في طرسوس الواقعة في تركيا الحالية، أثناء عودته من قتال البيزنطيين، فكان بالتالي على رأس الدولة العباسية لمدة 20 سنة.

عُرف المأمون بحثّه على ترجمة كتب الفلسفة والمنطق، وبتأثره بأفكار المعتزلة، كما اشتهر بحربه ضد أخيه محمد الأمين، وبميله -في بعض الأحيان- للعلويين. كل هذه السمات أثمرت حضوراً مهماً لشخصية المأمون في الوجدان السياسي الإسلامي الجمعي، باعتباره أحد أهم خلفاء الدولة العباسية على الإطلاق.

البعد الفارسي في شخصية المأمون

ولد المأمون من أم فارسية تُدعى مراجل، وقيل إنها ماتت أثناء ولادته. منذ صغره، نشأ في حجر البرامكة الفرس، بعدما عهد الرشيد بتربيته إليهم. وقد لعب البرامكة دوراً مهماً في تعظيم البعد الفارسي في شخصية المأمون، وأسهموا بقدر وافر في تقريبه من دوائر السلطة والحكم.

من هنا، لم يكن من الغريب أن نجد أن الرشيد عندما حج سنة 186هـ، كتب المواثيق بأن يتولى محمد الأمين الخلافة من بعده، كما ولى عبد الله المأمون جميع الولايات المشرقية فضلاً عن تعيينه في منصب ولاية عهد الأمين. وعلق الرشيد تلك المواثيق في الكعبة بعد أن أشهد الجميع على ما فيها.

حملت تلك المواثيق اعترافاً ضمنياً بالنفوذ المتزايد للفرس في الدولة العباسية. فقد نُظر إلى الأمين بوصفه ممثلاً للعرب، بينما اعتُبر المأمون الأمير الذي يحمل على عاتقه الطموحات الفارسية المؤجلة منذ سنين.

في سنة 193هـ، توفي هارون الرشيد، ليقع الصدام الأول بين الأخوين. أرسل الأمين إلى أخيه في خراسان طالباً منه الرجوع إلى بغداد بناء على نصيحة من وزيره الفضل بن الربيع، فرفض المأمون الأمر بناء على مشورة من مستشاره المقرب الفضل بن سهل السرخسي.

وزادت الأوضاع اشتعالاً مع تمسك المأمون بسلطته المطلقة على بلاد خراسان ورفضه الانصياع لأوامر الخليفة الجديد. وفي بدايات سنة 195هـ، تفجر الوضع بعدما أحرق الأمين المراسيم المعلقة في صحن الكعبة، وخلع المأمون من ولاية العهد.

على مدار ما يقرب من السنوات الثلاث، دارت حرب طاحنة بين الأخوين. وصف شمس الدين الذهبي (ت. 748هـ) في كتابه "سيّر أعلام النبلاء" ما دار بين الأخوين بقوله: "جرت بينهما أمور وخطوب وبلاء وحروب تشيب النواصي". واستمر صراع الأخوين حتى سنة 198هـ، عندما اقتحم الخرسانيون بغداد ليقتل الأمين ويبايَع المأمون بالخلافة في شتى أنحاء الدولة العباسية، ليسدل الستار على المشهد الدموي.

"طرح السواد ولبس الخضرة"

لم ينتقل المأمون إلى بغداد بعد خلافته كما جرت عادة مَن سبقوه من خلفاء بني العباس. آثر الخليفة الجديد المكوث في معقله في مدينة مرو (عاصمة إقليم خراسان)، بين أتباعه ومناصريه من الفرس. وفي رمضان 201هـ، أقدم على واحد من أكثر الأفعال التي أثير حولها النقاش والجدل، حينما بايع الإمام العلوي علي بن موسى الرضا بولاية العهد.

يختلف المؤرخون اختلافاً واسعاً حول تفسير ذلك الحدث. على سبيل المثال، ذكر جلال الدين السيوطي (ت. 911هـ)، في كتابه تاريخ الخلفاء، أن المأمون ما قام بذلك إلا "لإفراطه بالتشيع"، بينما قال آخرون إنه أقدم على ذلك الفعل لأنه كان قد عاهد الله أن يصرف أمر الخلافة لأفضل آل أبي طالب، إنْ انتصر على أخيه الأمين، وهو أمر يشي بحرص المأمون على الصالح العام لدولة الإسلام، كي تتجنب صراعاً آخر.

من الممكن أن نجد تفسيراً شافياً يبرر إقدام المأمون على اتخاذ تلك الخطوة الجريئة وغير المسبوقة في التاريخ السياسي الإسلامي إذا ما رجعنا إلى الظروف التي شهدتها الخلافة بعد مقتل الأمين ومبايعة المأمون.

عُرف الخلفية العباسي عبد الله المأمون بحثّه على ترجمة كتب الفلسفة والمنطق، وبتأثره بأفكار المعتزلة، كما اشتهر بحربه ضد أخيه محمد الأمين، وبميله في بعض الأحيان للعلويين... كل هذه السمات منحته مكانة مهمة في الوجدان السياسي الإسلامي الجمعي

كانت ظروف الحرب الأهلية الدامية التي وقعت بين العباسيين وبعضهم البعض، وما تمخض عنها من استنزاف لطاقاتهم البشرية والمادية، قد مهدت السبيل لاشتعال الثورات العلوية في شتى أنحاء الدولة الإسلامية. فعلى سبيل المثال، ثار زيد بن موسى بن جعفر الصادق في البصرة، وثار أخوه إبراهيم في اليمن، بينما ثار عمهما محمد بن جعفر في الحجاز. كل تلك الثورات عصفت بمركزية السلطة في الدولة العباسية، ولم تتح للعباسيين فرصة التقاط الأنفاس بعد الحروب التي خاضوها.

في تلك الظروف، عمل المأمون على الاستفادة من المكانة الكبرى التي شغلها علي الرضا عند قطاع واسع من الشيعة في تثبيط الحركات الشيعية الثورية التي وقعت في كل من اليمن والعراق والحجاز.

وفي رواية شيعية لتلك الواقعة، يذكر الشيخ المفيد (ت. 413هـ)، في كتابه "الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد"، أن المأمون استقدم علي الرضا من المدينة المنورة، فلما وصل الرضا إلى خراسان، قال له: "إني أريد أن أخلع نفسي من الخلافة وأقلدك إياها، فما رأيك في ذلك؟"، ولمّا رفض الرضا، عرض عليه المأمون أمر ولاية العهد، فرفضها الرضا أيضاً.

ويذكر المفيد أن المأمون ألح في طلبه، وقال للرضا: "إن عمر بن الخطاب جعل الشورى في ستة أحدهم جدك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وشرط فيمن خالف منهم أن تضرب عنقه، ولا بد من قبولك ما أريده منك، فإني لا أجد محيصاً عنه". وأمام ذلك الإلحاح المشوب بنبرات التهديد الواضحة، وافق الرضا على عرض المأمون.

خطة المأمون سرعان ما أتت بثمارها بعدما هدأت الثورات العلوية في كل مكان. فرح العلويون بمبايعة علي الرضا بولاية العهد، وفكروا في أن السلطة ستقع في أيديهم عما قريب، وفقدت الثورات العلوية بذلك زخمها ومواردها البشرية، وسهّل هذا من مهمة المأمون في القضاء عليها.

في سياق آخر، كان لبيعة الرضا بولاية العهد أثر جانبي مهم. لمّا عرف العباسيون في بغداد أن المأمون بايع الرضا بولاية العهد وأنه خلع السواد -شعار العباسيين- ولبس الملابس الخضراء -شعار العلويين- هاجوا وغضبوا، "وخلعوا المأمون، ثم بايعوا عمه إبراهيم بن المهدي ولقبوه المبارك"، بحسب ما يذكر الذهبي.

وكعادته، عمل المأمون على حل ذلك الإشكال بأيسر السبل. غادر مرو وتحرك صوب بغداد. وبحسب بعض الروايات، حرّض بعض أعوانه على وضع السم للرضا في العنب أو في عصير الرمان، قبل أن يصل إلى وجهته، فمرض عدة أيام ثم توفى، ودُفن في مدينة طوس بجوار قبر هارون الرشيد.

في رمضان 201هـ، أقدم الخليفة العباسي عبد الله المأمون على واحد من أكثر الأفعال التي أثير حولها النقاش والجدل، حينما بايع الإمام العلوي علي بن موسى الرضا بولاية العهد

في طريقه إلى بغداد أيضاً، تخلص المأمون من وزيره الفارسي الفضل بن سهل والذي كرهه العباسيون كثيراً. يذكر أبو الفداء (ت. 732هـ) في كتابه "المختصر في أخبار البشر" أن المأمون لمّا اقترب من أسوار بغداد، استدعى واحداً من قادة جيشه، وقال له: "أعلمهم (أي أهل بغداد) بموت علي الرضا، إنما نقمتم عليّ بسببه وقد مات".

وسرعان ما نجحت خطة المأمون في تهدئة الغضب العباسي، عندما خلع أهل بغداد طاعة إبراهيم بن المهدي ودخلوا في طاعته بدون مقاومة أو عنف.

محنة خلق القرآن

ارتبط اسم المأمون بحدث مشهور في عصره، ألا وهو ذلك الذي عُرف بـ"محنة خلق القرآن". بدأت تلك المحنة سنة 218هـ عندما أرسل الخليفة العباسي من دمشق إلى عامله في بغداد: "فاجمع مَن بحضرتك من القضاة، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، فابدأ بامتحانهم في ما يقولون وتكشيفهم عمّا يعتقدون، في خلق الله القرآن وإحداثه... فإذا أقروا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه، وكانوا على سبيل الهدى والنجاة فمرهم بنص مَن يحضرهم من الشهود على الناس ومسألتهم عن علمهم في القرآن، وترك إثبات شهادة مَن لم يقرّ أنه مخلوق محدث ولم يره، والامتناع من توقيعها عنده...".

يرى كثيرون أن وقوع تلك المحنة كان بسبب التأثير المعتزلي على المأمون. يذكر الذهبي أن المأمون كان محباً للجدل والنقاش الفكري، فكان "يجلّ أهل الكلام، ويتناظرون في مجلسه".

وفي كتابه "عصر المأمون"، يتحدث أحمد فريد الرفاعي عن الدور المعتزلي المهم الذي اضطلع به المتكلمون المعتزلة في بلاط المأمون ويقول إن المأمون "كان محُوطاً بشيوخ الاعتزال والكلام، أمثال ثمامة بن أشرس ويحيى بن المبارك وغيرهما...".

من هنا، نظرت الأغلبية الغالبة من الباحثين إلى محنة خلق القرآن على أنها محاولة معتزلية، مُسلّحة بالسلطة، لإجبار علماء وشيوخ أهل السنّة والجماعة على القول بأن القرآن مخلوق.

على الجهة المقابلة، رفض بعض الباحثين ذلك الرأي، وقال إن المأمون إنما استعان بالمعتزلة وبرأيهم في خلق القرآن لتعزيز سلطته ولضرب منافسيه. على سبيل المثال، ذكر الدكتور فهمي جدعان في كتابه "المحنة: جدلية الديني والسياسي في الإسلام" أن محنة خلق القرآن يجب أن تُفهم في "إطار منطق الدولة أو منطق المُلك"، وأشار إلى أن المأمون استغل فكرة خلق القرآن لضرب "أئمة القوى الموازية"، وهم العلماء المشهورين من ذوي المكانة بين العامة. بحسب هذا الرأي، أراد المأمون القضاء على مراكز القوى الدينية في شتى أنحاء الدولة.

أياً يكن الأمر، أعلن الخليفة أن القول بخلق القرآن هو القول الموافق للشرع وأن رفضه يُعَدّ نوعاً من أنواع التجديف والزندقة، وقاد حملة شعواء على جميع علماء أهل السنّة الذين رفضوا ذلك القول، فاضطر بعضهم للرجوع عن آرائهم المعارضة، الأمر الذي تسبب في تقليل شعبيتهم وسط العامة من جهة، كما عثر الخليفة على ما اعتبره مسوغاً شرعياً للتنكيل بكل مَن رفض القول بمقالته من جهة أخرى.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard