شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
بين التنمّر والعنف والتحرش… تداعيات عمالة الأطفال في لبنان

بين التنمّر والعنف والتحرش… تداعيات عمالة الأطفال في لبنان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والمشرّدون

الجمعة 28 أكتوبر 202203:00 م

يجمع رصيف "مستديرة النور" على مدخل مدينة طرابلس اللبنانية طفلين، أحمد وهو شاب لبناني (16 عاماً)، وبهاء وهو لاجئ سوري (15 عاماً). يدخنان السجائر وهما يتبادلان أطراف الحديث: عملهما في غسل السيارات يعيل عائلتيهما.

إن عمل الأطفال بحدّ ذاته في ظروف قاسية تنعدم فيها شروط السلامة الجسدية، وضمن بيئة غير مؤاتية، بل خطرة قد تُهدّد حياتهم، لا يشكّل سوى عنصر واحد من تركيبة معقّدة من المشاكل المتراكمة والمتداخلة: كثيرة هي الأسر التي باتت لا تجد قوت يومها، فتجبر أطفالها على ترك المدارس للعمل كبديل مقنّع للتسوّل، بما أنّ أجرهم لقاء عملهم المضني لا يسدّ جوعاً ولا يبعد شبح المرض، بل قد يشكّل ذريعة واهية لتعنيفهم واستغلالهم والإساءة لهم.

الأرقام والدراسات تثبت حجم الكارثة

إن عمالة الأطفال هي ظاهرة قديمة لكنها لا تذوي ولا يطويها الزمن، لا بل تفاقمها الأزمات السياسية والاقتصادية التي تخنق لبنان، وقد تضاعفت حدّتها بسبب جائحة كورونا وارتفاع معدّلات الفقر وارتفاع كلفة التعليم، وما إلى ذلك من مشاكل اجتماعية تحملها موجات اللجوء السوري المتواصلة منذ سنوات طويلة بسبب الحرب الدائرة في سوريا.

لا تقتصر مكافحة هذه الظاهرة على جهة محدّدة، بل تقع مسؤولية تطويقها، إن انتفت إمكانية تداركها ومعالجتها بشكل جذري، على عاتق معنيّين كثر، نظراً لانعكاساتها السلبية وتداعياتها السيئة وعواقبها الخطيرة.

كثيرة هي الأسر التي باتت لا تجد قوت يومها، فتجبر أطفالها على ترك المدارس للعمل كبديل مقنّع للتسوّل، بما أنّ أجرهم لقاء عملهم المضني لا يسدّ جوعاً ولا يبعد شبح المرض، بل قد يشكّل ذريعة واهية لتعنيفهم واستغلالهم والإساءة لهم

تفيد الأرقام بأنّ أكثر من 100 ألف طفل/ة تحت سن الـ 18 عاماً يعملون/ن على الأراضي اللبنانية. 35 ألفاً منهم لبنانيون يعملون في قطاعات مختلفة، على الرغم من أنّ قانون العمل الحالي يحظّر عمل الاطفال في الأعمال الصناعية تحت سن الخامسة عشرة، ما يجعل لبنان من الدول التي تسجّل النسبة الأعلى في العالم للأطفال العاملين بين 10 و17 عاماً.

يكشف تقرير صادر عن منظمة اليونيسيف في نهاية العام 2021 حول وضع الأطفال من المواطنين واللاجئين في لبنان، أنّ طفلاً واحداً من بين كل اثنين معرّض لخطر العنف الجسدي أو النفسي أو الجنسي.

واللافت أن عوز الأسر يفاقم المشكلة، فمتوسّط الأجر الشهري بات يتراوح بين 20 و30 دولاراً أميركياً، وهو دخل لا يكفي عائلة متوسّطة العدد سوى بضعة أيام لتأمين الطعام والشراب فقط، ما يجعل 28% من اللبنانيين يرزحون تحت خط الفقر، و8% منهم يعيشون في فقرٍ مدقع، فيدفع بعض الأهل بأطفالهم إلى العمل لمساعدتهم.

وفي الاستطلاع الذي أجرته اليونيسف، اعترفت 12% من الأسر المشمولة بالمسح أنها أرسلت طفلاً واحداً على الأقل إلى العمل، وهذه النسبة لم تكن تتجاوز 6% قبل ستة أشهر من إجراء الاستطلاع.

أكثر من 50% من هؤلاء الأطفال يعملون بالزراعة، والبقية في المتاجر والورش الصناعية، أو يتسوّلون. ولا توجد بيانات كافية حول أجور الأطفال العاملين، لكن أظهرت الدراسات أنّ أجور الأطفال لا تغطّي احتياجاتهم الأساسية، بمتوسطٍ يومي بين 20 ألف ليرة لبنانية و50 ألفاً.

عمالة الأطفال وآثارها

لا شك أنّ خروج الطفل إلى سوق العمل يجعله عرضةً لسوء المعاملة والعنف ولتعلّم سلوكيات غير حميدة، كما يؤثر سلباً على إمكانية الطفل على تطوير قدراته المعرفية، لا سيّما في مجالات القراءة والكتابة والحساب والإبداع. ويكون الطفل ضحية شتّى أشكال التنمّر والانتهاك الجسدي والنفسي، كالتحرّش الجنسي واستغلاله مادياً وتشغيله ساعات طويلة وهدر طاقاته. كما أنّ الطفل معرّض لما يعرف بـ "جنوح الأحداث" الذين يقترفون الجرائم والجنح، مثل السرقة وتعاطي المخدّرات. فمجرّد الاحتكاك بمجال العمل، بغضّ النظر عن نوع العمل، يجعل الطفل ضحية التهديدات والأخطار وصولاً إلى انحرافه، إن لم يكن موته.

تؤكّد التقارير الدولية، كما مصادر وزارة الشؤون الاجتماعية اللبنانية، بأنّ مدينة طرابلس في شمال لبنان هي من أكثر المدن اللبنانية فقراً، بل هي الأكثر فقراً على ساحل البحر المتوسط.

وينعكس هذا الواقع، بشكل مأساوي، على أحوال الأطفال في المدينة وجوارها، إذ يزداد وضع الأطفال سوءاً بوتيرة مضطردة، ما يدفعهم للانخراط بسوق العمل الأكثر قسوة وشقاء.

يقول أحمد، البالغ من العمر 16 عاماً: "أعيش وحيداً مع والدي وهو رجل كبير في السن، ونحن كما يقال (مقطوعان من شجرة). يعمل والدي على عربة صغيرة لبيع بعض المواد، ولكن حركته أصبحت بطيئة، وأنا أعمل في غسل السيارات".

أمّا بهاء فيختصر لرصيف22 وضعه بأنه يعيش مع أبيه وأمه وأخوته السبعة في حيّ من أحياء المدينة، بعد أن تركوا مدينة حمص منذ ثماني سنوات. هو الابن البكر وعليه مساعدة أبيه في تأمين مصروف أفراد العائلة.

يشكو أحمد وبهاء من المعاملة السيئة التي يتعرّضان لها من المارّة والزبائن، وهما إن نجَيَا من التنمّر اللفظي القاسي والشتائم الجائرة، فلا ترحمهما النظرات القاسية، ولا عمّال بعض المحلات التجارية الذين ينهالون عليهما بالضرب ليغادرا الشارع، لمجرّد أنهما يسألان الزبائن عن إمكانية غسل سياراتهم.

حياة الأطفال في مدينة صيدا، جنوب بيروت، ليست أفضل حالاً. فعمالة الأطفال فيها تشكّل ظاهرة عادية لا تستفزّ المشاعر ولا تثير الغضب، ولا من إجراءات رسمية لبنانية فاعلة بحقّ المشغِّلين المخالفين: يعمل الأطفال منذ ساعات الصباح الأولى في ورش الحدادة والنجارة وفي الدكاكين، كما في مسح الأحذية وبيع أوراق اليانصيب...

ومن المفارقات التي تجتاح مختلف المدن اللبنانية، أنّ الأطفال يجدون فرص عمل أكثر من الشباب والرجال، لأنهم يتقاضون مرتّبات زهيدة، ويعملون خارج الأطر القانونية والرقابة النقابية.

"عرّفتني صديقتي على الطبيب الذي عملت عنده مدّة عامين. كان في البداية لطيفاً، محترماً، وكما يقال (صاحب دين). كان عمري حينها 15 عاماً. بعد شهور من العمل معه، وإثر انتهاء المواعيد في أحد الأيام، اقترب مني ووضع يده على جسدي وطلب مني أن أقفل باب العيادة وألحق به إلى المكتب"

يعمل الطفل السوري قيس (15 عاماً) في ورشة لإصلاح السيارات المعطّلة في المدينة الصناعية قرب صيدا.

على محيّاه ترتسم علامات التعب والإرهاق. يتّشح وجهه بسواد شحوم السيارات وزيوتها، يمسحها بين الحين والآخر بيده، و"يعمل المستحيل" من أجل إرضاء رب العمل الذي يدفع له مبلغاً بسيطاً من المال يحمله في نهاية كل نهار خبزاً وطعاماً لأهله.

يقول لرصيف22: "نحن عائلة مؤلّفة من ستة أبناء بالإضافة إلى والدتي ووالدي. ارتفعت أسعار المواد الغذائية وحليب الأطفال والأدوية بشكل جنوني، ومرتّب والدي الشهري لا يكفي لشراء الخبز والأدوية لوالدتي، ما اضطرّني للعمل للمساعدة. ولكن ما يؤلمني أنني لا أذهب إلى المدرسة ولا أرافق أصحابي إلى الملاهي والسباحة في أيام الصيف. هم يذهبون ويفرحون، وأنا أقوم بعمل شاق، وأخاف من غضب (المعلّم) لأنه عصبيّ، ويصفعني أحياناً ويحسم من مرتّبي إذا تقاعست عن أداء مهامي، وأنا أضطرّ للصمت خوفاً من أن يطردني من الورشة".

قصة غادة (17 عاماً) تأخذ منحىً مأساوياً آخر. هي فتاة لبنانية تعيش مع والدتها في منطقة الكولا. انفصل والداها عندما كانت في سن العاشرة وسافر والدها دون أن يهتمّ بمصيرها.

مع ازدياد صعوبة الأوضاع المعيشية نهاية العام 2019، اضطرّت للعمل كسكرتيرة في عيادة طبيب أسنان في منطقة الحمرا، بمرتّب معقول يساهم في دفع إيجار الغرفة التي تقيم فيها مع والدتها وتكاليف الحياة.

تقول غادة لرصيف22: "عرّفتني صديقتي على الطبيب الذي عملت عنده مدّة عامين. كان في البداية لطيفاً، محترماً، وكما يقال (صاحب دين). كان عمري حينها 15 عاماً. بعد شهور من العمل معه، وإثر انتهاء المواعيد في أحد الأيام، اقترب مني ووضع يده على جسدي وطلب مني أن أقفل باب العيادة وألحق به إلى المكتب".

وتكمل غادة: "ارتجفت من الخوف وأصبت بصدمة ممّا فعله. بدأت بالصراخ والبكاء، فوضع يده على فمي ليسكتني وهو يحاول أن ينزع ملابسي عني، لكنني استطعت أن أهرب منه وأن أغادر العيادة. في اليوم التالي، اتصل بي وأخبرني أنني إذا تركت العمل أو أخبرت أحداً بما حصل سوف يتّهمني بسرقة مواد من العيادة وببيعها. خفت حينها أن أخبر صديقتي أو أمي عمّا حصل، فغيّرت رقم هاتفي وطلبت من أمي أن ننقل لغرفةٍ أخرى بحجّة ارتفاع إيجار الغرفة، لكي لا يعثر علينا. ومنذ ذلك الوقت، وأنا أعمل في محل لبيع لوازم الماكياج، لأنّ كل من في المحل موظفات والزبائن من النساء أيضاً".

تدخّل الجمعيّات في ظل عدم تطبيق القوانين

إنّ القوانين في لبنان تمنع، من حيث المبدأ، عمالة الأطفال وتحظّر عليهم "المهن الخطيرة"، كما تُفرض على أرباب العمل عقوبات مادية وجزائية في حال مخالفتهم للأنظمة.

وفي العام 1990، صادق لبنان على اتفاقيّة حقوق الطفل وأظهر التزاماً بتحسين أوضاع الأطفال وحماية رفاههم.

بدأ التصدّي لمشكلة عمل الأطفال في لبنان عبر أوّل مذكّرة تفاهم بين الحكومة اللبنانية ممثلةً بوزارة العمل، ومنظمة العمل الدولية – البرنامج الدولي للقضاء على عمل الأطفال، في العام 2000، وسرعان ما صادقت الحكومة اللبنانية على اتفاقية العمل الدولية رقم 182 (حظر أسوأ أشكال عمل الأطفال) في العام 2001 والاتفاقية رقم 138 (الحدّ الأدنى لسن الاستخدام) في العام 2003.

يشكو أحمد وبهاء من المعاملة السيئة التي يتعرّضان لها من المارّة والزبائن، وهما إن نجَيَا من التنمّر اللفظي القاسي والشتائم الجائرة، فلا ترحمهما النظرات القاسية، ولا عمّال بعض المحلات التجارية الذين ينهالون عليهما بالضرب ليغادرا الشارع

ورغم وجود وحدة مكافحة عمل الأطفال في وزارة العمل، واعتماد الخطة التي أطلقتها اللجنة الوطنية للقضاء على أسوأ أشكال عمالة الأطفال، إلّا أنّ الرقابة والسيطرة على الأمر بالشكل الرسمي أو عن طريق المنظمات والجمعيّات يبدو صعباً في ظل الظروف السياسية والاقتصادية الراهنة.

تتدخّل الجمعيّات الأهلية لانتشال الأطفال من وضعهم المزري وتأمين الدعم لهم عبر تحسين ظروف حياتهم، وتوعيتهم لحقوقهم، وتأمين مورد عيش بديل لهم. كما تعمل على تدريب الأهل مهنياً لمساعدتهم في إيجاد عمل، وتحفيز أرباب العمل لتحسين ظروف عمل الأطفال الذين يسمح القانون لهم بالعمالة.

وتعمل العديد من المنظمات والجمعيّات على حماية الأطفال من العنف وسوء المعاملة والاستغلال المترتّبين عن عمالتهم، من خلال الحدّ من الفقر، ومراجعة القوانين والسياسات، وتحسين فرص الحصول على خدمات الرعاية الاجتماعية والتعليم والرعاية الصحية، والعمل مع الحكومة لتعزيز خدمات الحماية. وفي موازاة ذلك، تُبذل جهود مكثفة لمعالجة المعايير الاجتماعية التي تطبّع العنف ضدّ الأطفال وتجعله مقبولاً اجتماعياً.

ومن الممكن أن تتأمّن مساعدة الأطفال العاملين عن طريق إيصال مشاكلهم للمعنيين وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من طفولتهم الضائعة ومستقبلهم المهدّد، فالعديد من المنظمات والجمعيّات تستقبل شكاوى ومطالبات بتحسين أحوال الحالات المشابهة لتلك الواردة في المقال أعلاه، ويبادر إلى مساعدة الأطفال بشكل أو بآخر. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image