قبل 39 عاماً في مدينة عدن باليمن، أمسك عوده ووقف أمام الحضور الذي كان بينهم الرئيس ياسر عرفات والقيادة الفلسطينية، ليعزف أغنية "التكتيك" التي أصبحت من أهم الأغاني في زمن الثورة الفلسطينية. ذلك الطفل الذي ولد في العام 1937 في مدينة حيفا، ما إن فتح عينيه على الدنيا حتى ضاع وسط آلاف الأطفال الذين ضاعوا في نكبة 1948 ليجد نفسه في المقاصد بلبنان، ذلك المكان الذي جمع الكثير من أطفال البلاد الضائعين، وقد استطاع أقرباؤه الوصول إليه ليحملوه إلى مدينة حمص في سوريا... لتبدأ من هناك، رحلة عبد الله حداد، الصّبي الذي عمل أثناء تعليمه، وكافح حتى أصبح بعد ذلك فنان الثورة الفلسطينية.
المشهد الذي صنع للثورة صوتاً
قد يكون ذلك المشهد الذي زرع في عبد الله حداد رغبةً في العزف والموسيقى، مشهداً سينمائياً تماماً، كتبه السيناريست ليرسم سيرةً ذاتيةً مقنعة لمغن بدأ حياته الفنية عندما رأى شخصاً كبيراً في السّن يعزف في أحد المقاهي. ولكن، ما حدث مع عبد الله حداد ليس مشهداً سينمائياً، وإنما مشهدٌ حقيقي جعله يعمل أثناء تعليمه من أجل اقتناء آلة عود يتدرّب عليها العزف. ثمّ لم يمض وقت طويل، حتى كان الفتى صاحب الستة عشر عاماً، يعزف العود بتمكن لافت، ثمّ كان من السّهل رؤيته وهو يقف في إحدى ساحات مدينة حمص، ليعزف أغاني من كلماته وألحانه. وبشغف كبير لم يتوقّف مع مرور العمر، وبعد محاولات عديدة، استطاع عبد الله حداد أن يكتب بعض البرامج الفنيّة التي وصلت إلى الإذاعة السورية، لتبدأ رحلته في التأليف والإعداد، التي قدّم فيها نموذجاً فنياً فريداً، أثرى الفن الفلسطيني في المسرح والتأليف والغناء.
فرقة حداد الشعبية
لم يكن عبد الله حداد شاعراً ومغنّياً فقط، بل كان مسرحياً أيضاً، فقد استطاع برفقة مجموعة من الشباب المسرحيين في سوريا، أن يظهر للعلن باسكتشات غنائية راقصة، حتى وصل صيته وصيت فرقته إلى منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، التي دعتهم لتكوين فرقة، تكوّنت فرقة ضمّت عبد الله حداد والشاعر أبو الصادق، بالإضافة للشباب المسرحيين الذين كانوا يقومون بعمل اللوحات الغنائية برفقته، ويقال إنّ عدد هذه الفرقة وصل إلى 80 عضواً.
ما إن فتح عينيه على الدنيا حتى ضاع وسط آلاف الأطفال الذين ضاعوا في نكبة 1948 ليجد نفسه في المقاصد بلبنان، ذلك المكان الذي جمع الكثير من أطفال البلاد الضائعين، لتبدأ من هناك، رحلة عبد الله حداد حتى أصبح بعد ذلك فنان الثورة الفلسطينية.
ثمّ في إثبات فرادة ما قدّمه عبد الله حداد، قام في ستينيات القرن الماضي بتأسيس فرقة عرفت باسم "فرقة حداد الشعبية" التي استطاعت أن تحقق انتشاراً واسعاً، عبر تقديمها لمجموعة من الأعمال والحفلات في مختلف المناطق والدّول، حتى أنّ استعراضاتها بثّت عبر التلفزيون اللبناني، ليصل عبد الله حداد برفقة فرقته إلى الجمهور بشكل كبير جداً محققاً نجاحاً مسرحياً مميزاً، كان له أثر واضح في مسيرته الفنية لاحقاً.
المشهد كان بحاجة إلى ممثل
دخل عبد الله حداد بعد ذلك في عالم التمثيل في الإذاعة اللبنانية والتلفزيون اللبنانيين، فشارك في العديد من المسلسلات التلفزيونية، كما أنّه قام بالعمل مع فرقته في دبلجة أفلام الكرتون، ومن أشهر المسلسلات التي شارك في دبلجتها للغة العربية، كان المسلسل الكرتوني الياباني "غريندايزر" الذي صنّف بأنه من أشهر مسلسلات الكرتون التي دبلجت للعربية، إذ تمت دبلجته ما بين عامي 1978 و 1979، وبدأ عرضه عبر الشاشات العربية في بداية ثمانينيات القرن العشرين.
وفي ظلّ إيمانه بالموسيقى وأهمّيتها للأجيال القادمة، شارك عبد الله حداد في تعليم الموسيقى للأطفال في العديد من الأماكن، أبرزها مؤسسة "بيت إسعاد الطفولة" في منطقة سوق الغرب بلبنان، والتي أصبحت تعنى بتربية وتعليم بنات وأبناء الشهداء الفلسطينيين بعد نكسة 1967، حتى دمّر الاحتلال الإسرائيلي مقرها أثناء عدوان العام 1982 على لبنان. لاحقاً، عندما أسس عبد الله حداد فرقة "زهرة المدائن" في لبنان، اعتمد في أغلب أعضائها على أطفال مؤسسة "بيت إسعاد الطفولة" الذين علّمهم الموسيقى، وقد قدّمت هذه الفرقة أغاني الفولكلور الفلسطيني بطريقة متميزة، ساعدت في انتشارها ووصولها للجمهور.
بيروت التي لم تغنّ...
اكتفى عبد الله حداد بالكتابة والتلحين عندما كان في لبنان، ولم تصدح حنجرته بكلمات أشعاره إلا بعد خروج منظمة التحرير الفلسطيني من بيروت عام 1982 ليبدأ منذ ذلك الحين مسيرة غنائية ممتلئة بالكلمات التي حفرت في وجدان الفلسطينيين وما زالت تردد حتى اليوم، ولعلّ أهمّ وأشهر الأغاني التي قدمها عبد الله حداد، هي "التكتيك" التي غنّاها عام 1983 في مدينة عدن باليمن، بحضور فنانيين يمنيين وعراقيين وفلسطينيين، فضلاً عن حضور قادة منظمة التحرير الفلسطيني.
يقول عبد الله حداد في أغنية التكتيك: "لازم تكون تكتكجي ابن تكتكجي، ابن تكتيك يا متكتك تكتكتك بتكتك كل المسائل" في أدق وصف للمشهد الفلسطيني بعد خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، حيث استطاع عبد الله حداد بكلماته الهزلية أن يصف حالة التّخبط التي رافقت الفلسطينيين في تنقلهم من دولة عربية إلى أخرى، بالإضافة إلى وصفه لحالة التّيه التي رافقت تلك المرحلة، ولم يعد يعرف الفلسطيني فيها عدوّه من صديقه، يغنّي: "أنا كنت أرعى الغنم في البراري، وأسمع أخباركم من راديو ترانزستور، أخباركم شوشت أفكاري، قلت أشوف بعيني واستخبر، وجيت تهت، صرت مش داري مين فيكم السيد، ومن فيكم المستر يا خلتي".
استطاع عبد الله حداد بكلماته الهزلية أن يصف حالة التّخبط التي رافقت الفلسطينيين في تنقلهم من دولة عربية إلى أخرى، بالإضافة إلى وصفه لحالة التّيه التي رافقت تلك المرحلة
عندما تزحلق عبد الله حداد في البانيو
تميّز عبد الله حداد بتقديم فن غير تقليدي، أسقط فيه الواقع على الكلمات وألصقه بها بطريقة هزلية مثيرة للضحك والوجع معاً، ويظهر هذا بتجلّ واضح في أغنيته "تزحلقت في البانيو" التي يقول في مقطع منها: "الرغوة حجبت عن عيني النظر، عشوية اتعلقت أحبال النجاة، ويا عاري أنا تغلبني الفقاقيع، والصابون تهدد حياتي بالخطر". جسّد من خلال هذه الكلمات عبثية ما يحدث على أرض الواقع، وما يواجهه الفلسطينيون مع الاحتلال الإسرائيلي، لهذا نجده في آخر الأغنية يقول: "لازم نصبح غطاسين مع أو من غير أوكسجين، لازم نغطس ولا نطلعش إلا ع شطوط فلسطين".
أمريكا إسرائيل
في وصف لحالة التّبني الدائمة التي تعيشها إسرائيل في أحضان الولايات المتحدة الأمريكية منذ عقود طويلة، يقول عبد الله في أغنيته "أميركا مش أميركا، أميركا إسرائيل": "اللوبي، اللوبي، اللوبي، الصهيوني اللعوبي، عشعش في الأنكل سام، خلاه نفس النوعية، وأكتر منه عصبية، وصار برتبة حاخام" وفي استهزاء واضح على قرارات هيئة الأمم المتحدة، يضيف: "وهيئة الأمم، يا حسرة عالأمم، في زحمة نيويورك، اسم بلا رقم". ليقدّم بذلك مثالاً مميزاً للأغنية السياسية الناقدة لسياسات وقرارات القادة، وقد برز هذا بشكل واضح عندما غنّى: "أميركا مش أميركا، أميركا إسرائيل، لا تطلب من أميركا، أكتر من إسرائيل، يا رايح ع واشنطن، أمرك والله عجيب، مشوارك لواشنطن، كإنه لتل أبيب، كلها اسمها أميركا، وبالأحرى إسرائيل".
"لبنيلك عكتف القمر بيت"
لقد وجّه عبد الله حداد جميع كتاباته تجاه فلسطين، حتى أنّه في المرة التي طلب منه أحد أصدقائه أن يكتب غزلاً، كتب: "لبنيلك ع كتف القمر بيت، يشرف على القدس مباشرة، تشوفي منه أقدس بيت، مع كنيسة المهد الطاهرة". في دلالة واضحة على تعلّق الفنان الذي لم ينقطع بفلسطين، والذي حمله معه عندما تاه وهو خارجٌ من حيفا، وعندما بكى قلبه وهو يعبر حدود لبنان متجهاً إلى سوريا، ليذهب بعدها كمهاجر لم تتوقف قدماه عن التيه، إلى اليمن، ثمّ إلى تونس بعدما أصبح ملتصقاً بمنظمة التحرير الفلسطيني أكثر من أيّ وقت مضى.
تأشيرة عبد الله حداد الأخيرة
لم يتوقّف عبد الله حداد عند هذا الحد، بل قدّم مجموعة كبيرة من الأغاني التي ما زالت تسمع إلى يومنا هذا، وتؤثّر في الأجيال الفلسطينية بكلمات عاميّة وألحان متميزة وأسلوب ساخر، ومنها: يا مهرتي، يا نبينا إيش رأيك فينا، لعب السياسة، واضحة، دخلني ع بلدي هات فيزا، وغيرها الكثير من الأغاني التي استحقّ عليها لقب "فنان الثورة الفلسطينية" بجدارة.
أنهك المرض عبد الله حداد، ليرحل في مدينة أوغوس بالدنمارك سنة 1994، بعد أن فشل في جمع فرقته مرةً أخرى في أوروبا. رحل تاركاً فناً فلسطينياً خالصاً ومختلفاً، رحل دون أن يجد طريقة للدخول إلى بلده التي وقف على أبوابها كثيرًأ كما يقول: "واقف عالبواب، وكيف أفتح الأبواب، مش لاقي طريقة"، في أغنيته "دخلني ع بلدي هات فيزا". رحل وما زال آلاف الفلسطينيين في انتظار "فيزا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...