لا يعرفه إلّا عدد محدود من المهتمين بالأرشيف الفلسطيني، وأولئك الذين عايشوا فترة السبعينيات والثمانينيات التي شهدت أوج الثورة الفلسطينية، وعلى الرّغم من بقاء سيرته مختفية عن الكثيرين إلى يومنا هذا، هناك العديد من الكتّاب والباحثين الذين كتبوا عنه محاولين فك شيفرة اختفائه فجأةً من السّاحة الفلسطينية، مكتفين بذكر بعض المعلومات الموجودة عنه، والمتمثلة في أنه مغنّ فلسطيني من مواليد البلدة القديمة في القدس، غنّى لمحمود درويش وسميح القاسم وراشد حسين وتوفيق زيّاد، وصدح بحماس كبير قصائد ثوريّة كان لها وقعٌ كبير على قلوب الثائرين في جميع أنحاء فلسطين.
الأغاني تصلّي على عتبات البيوت
في مقالته "عن الانتفاضة: كيف اختفى المواطن جورج قرمز" يقول الكاتب الفلسطيني مهنّد أبو غوش: "حدث ذلك ذات شتاء، لم ينتبه أحد، لكنّ جورج قرمز اختفى" مرفقاً ذلك بمشاهد من الثورة الفلسطينية اليومية، التي حضر فيها جورج قرمز بأغانيه التي شحذت حماس الملايين بصوت شجيّ وكلمات ثورية. حدث ذلك في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات ، تلك الفترة التي شهدتْ متغيّرات كثيرة على مستوى الكلّ الفلسطيني.
يضيف مهنّد: "في غرف بعيدة .. لمنازل متراصّة.. يغني جورج قرمز "ضدّ أن يجرح ثوار بلادي سنبلة" . وهذه قصيدة كتبها الشاعر الفلسطيني راشد حسين، واستطاع جورج قرمز أنّ يجعل الأعلام ترفرف والحناجر تصدح من خلالها. ثمّ يضيف مهنّد: "لن يعرف أحد أبداً، في طول الأرض المحتلّة وعرضها: من هو جورج قرمز.. لو حاولت تتبع اسم العائلة فلن تجد لها أثراً في فلسطين ولبنان". يرجِّح الكثيرون أنّ "جورج قرمز" هو اسم حركي استخدمه المغّني، وعلى الرّغم من مرور حوالي 40 سنة على اختفائه، لم يعرف أسمه الحقيقي قط، ولم يتحقق أحد إن كان فناناً لبنانياً، أم لبنانياً فلسطينياً.
العديد من الكتّاب والباحثين الذين كتبوا عنه محاولين فك شيفرة اختفائه فجأةً من السّاحة الفلسطينية، مكتفين بذكر بعض المعلومات الموجودة عنه، والمتمثلة في أنه مغنّ فلسطيني من مواليد البلدة القديمة في القدس
ذلك المغنّي الذي ظلّت كواليس تسجيله للأغاني مبهمةً حتّى اليوم، كان يقوم بتسجيل أغانيه في غرف بعيدة مغلقة خوفاً من أجهزة الموساد والشاباك التي لم تتوقّف يوماً عن ملاحقة أيّ حالة فلسطينية جادّة، تؤثّر في الشارع الفلسطيني ويمكن أن تتحول إلى أسطورة مع الوقت. ولكن وسط ذلك كلّه، يظلّ المدهش في حكاية جورج قرمز على الدّوام، هو أشرطة أغانيه التي كان يسجلها ويوزّعها على عتبات البيوت، كأنّه كان يعرف أنّ أغانيه تصلّي على عتبات بيوت الفلسطينيين فتولِد العتبات فدائيين.
الصور التائهة في الزّمن
لم يقتصر الأمر على اختفائه صوتاً وجسداً، بل امتد الأمر ليشمل اختفاءه صورةً أيضاً. فحتى وقت قريب لم تكن هناك أيّ صورة له على صفحات الإنترنت، لهذا لم يكن ممكناً أن يجسّده فنان في لوحة، أو يجسّده نحات في مجسّم يوضع في ساحة عامة. ظهرت أوّل صورة له في العام 2020 بعدما استطاع المتحف الفلسطيني الوصول إليها ونشرها عبر الإنترنت، حيث يظهر جورج في الصّورة - غير الملونة - حاملاً قيثارته.
كما وضّح المتحف أنّ الصورة التقطتْ لجورج قرمز في حفلة أقيمت على أحد المسارح في مدينة القدس، لفرقة البراعم الفلسطينية التي تأسست سنة 1966 تحت اسم "The Blooms"، ثمّ تغيّر اسمها بعد أن ترجم للعربية ليصبح "البراعم". وتعرف فرقة البراعم أنّها فرقة الروك الثانية في فلسطين، وهي الوحيدة أيضاً التي تخصصت بإنتاج الأغاني باللغة العربية وقتها. وقد كان جورج قرمز يعمل مع هذه الفرقة قبل أن يتركها ليصدر أغانيه، كما أرجِعتْ صورته برفقة الفرقة للمجموعة الأرشيفية التي يقتنيها المصوّر والموسيقي الفلسطيني إميل عشراوي.
جورج قرمز فعلها
على الرّغم من صعوبة تحويل قصائد محمود درويش إلى أغان، إلا أنّ جورج قرمز فعلها. ليس هذا فقط، بل إنّه فتح لها آفاقاً جديدة وغير متوقّعة، يظهر هذا بحرفيّة عالية في قصيدة "سجّل أنا عربي" التي استطاع بمهارته ومقدرته الغنائية الغريبة، على تحويل كلماتها البسيطة إلى أغنية أثّرت في الشارع الفلسطيني، واستطاعت أن توصل صورة عن المعاناة اليومية التي يعايشها النّاس إلى يومنا هذا بشكل أو بآخر.
حملت أغاني جورج قرمز معاني كثيرة، فهي لم تحمِل فقط طابعاً سياسياً ووطنياً كما هو الحال في قصيدة درويش، بل امتد الأمر ليشمل الطابع الثوري والإنساني أيضاً. يبرز هذا في أغنيته "ضد" التي ترجع كلماتها لقصيدة راشد حسين التي حملت العنوان نفسه، فالمستمع لهذه الأغنية سيدرك أنّ جورج أضاف لها صوتاً آخر بغنائه، لا سيما عندما يقول: "ولكن... بعد إحراق ِ بلادي، ورفاقي، وشبابي، كيف لا تصبح أشعاري بنادق". ينطق جورج الجملة الأخيرة وكأنّه يصوّب رصاصةً حقيقية تجاه الاحتلال الذي لم يتوقّف يوماً عن سفكِ الدماء.
كان صوت جورج قرمز بمثابةِ الطّرق المستمر على جِدار سميك، وقد كان لهذا الطّرق تأثيرٌ حقيقي وملموس مرّ بآذان الجمهور ووصل إلى المغنين في نفس المجال فيما بعد، يظهر هذا في ما قاله المغنّي الفلسطيني ثائر البرغوثي: "ورغم أنني فنان أدى الكثير من أغنيات الثورة والانتفاضة، إلا أن أغاني جورج قرمز كان لها بالغ التأثير في طفولتنا وما بعدها، كنا ننمو على الأغاني الثورية".
وبالرجوعِ إلى ما غنّاه جورج قرمز، نجد هذا التأثير في كلمات قصيدة سميح القاسم "أماه" التي حوّلها إلى جدار يكتب عليه ليقرأ الأطفال ما هو مكتوبٌ عليه ويتعرّفوا على الطريق وماهيته.
الوصية الأخيرة لجورج قرمز
استطاع جورج قرمز أن يقدّم فناً فلسطينياً خالصاً، ربما لم يقدّمه أيّ مغن فلسطيني بعده، لهذا كان غيابه فارقاً في التاريخ الفنّي الفلسطيني. فقد اختفى جورج تاركاً الكثير من الأغاني، منها: أغنية "أنا اسمي شعب فلسطين" وأغنية "أرضنا الجميلة" وأغنية "عشاق الأرض" وأغنية "الويل لكم" وأغنية "عنوان البيت" وأغنية "أنا يا سحابة عمري جبال الجليل". بالإضافة لأغنية "أيّ شيء يقتل الإصرار" وهي من كلمات الشاعر الفلسطيني توفيق زياد.
ذلك المغنّي الذي ظلّت كواليس تسجيله للأغاني مبهمةً حتّى اليوم، كان يقوم بتسجيل أغانيه في غرف بعيدة مغلقة خوفاً من الشاباك الذي لم يتوقّف يوماً عن ملاحقة أيّ حالة فلسطينية جادّة
وفي أغنيته التي جاءت تحت عنوان: "صبراً لن ينتصر الناب على بسمة طفلي" يغنّي جورج قرمز كلمات توفيق زياد التي كانت وما زالت محرّكاً لكلّ فلسطيني يستمع إليها. إذ يغنّي فيها المقطع الذي يقول: "سيغني البلبل، سيعشش فوق الأعتاب، وسيطلع فجر الشعب... ولن يطلعه غير الأحباب" فيما يشبه الوصيّة الأخيرة قبل الاختفاء الذي بدأ قبل أربعين سنة وما زال حتّى يومنا هذا.
الأغاني التي رحلت لا تعود
في مقالته "رحلة البحث عن جورج قرمز" المنشورة بجريدة الغد الأردنية، يقول الكاتب أحمد جميل عزم: "تبقى قصتي مع جورج قرمز ذكرى مدهشة جميلة، ولغزاً يبحث عن حل، وبذرة أنبتت داخلي سنابل. تعرفت على هذا المغني أثناء زيارة صيفية لفلسطين، ربما في سن الثانية عشرة. شدني في الشريط أغنية "أنا اسمي شعب فلسطين".
كما أنّه يتحدّث عن وقع أغاني جورج قرمز وتأثيرها، مجتهداً في الوصول إلى حل للغز اختفائه طوال هذه السّنوات، ولكنّه ككل الذين اجتهدوا في الوصول إلى إجابات، عاد خالي الوفاض ليكتب في نهاية مقالته: "هل يعثر على جورج قرمز وكل من ضاعت أخباره في تغريبات الشتات؟ هل تعود الأغاني؟" فلم يعثر على جورج قرمز بعد، وضاعت أخباره بالفعل وسط موجات الشتات الفلسطيني التي لا تنتهي، ولم تعد الأغاني وربما لن تعود أبداً.
الريشة السادسة والسابعة في حياة جورج قرمز
شكّل اختفاء جورج قرمز علامة استفهام بالنسبة لكل من سمع صوته عبر الراديو في ثمانينيات القرن الماضي، ولكلّ من عثروا على مقاطع من أغانيه وهم يبحثون في أرشيف الأغنية الفلسطينية سواءً للمعرفة أو للدراسة، وعلى قلّة ما نشر حول اختفائه عبر الإنترنت وفي الجرائد والصّحف ظلّ هذا الاختفاء لغزاً لا حلّ له، يشبه لغز ضياع ريش الطاووس السادسة والسابعة في رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا".
وعلى الرّغم من المعلومات التي تحدّثت عن وجوده بولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية حيث أكمل تعليمه، وأنّ له شقيقاً وشقيقتين، ووالده كان يعمل في الخليج، في مقال نشره الكاتب يامن النوباني، إلا أنّه لم يٌعرف إن كان بالفعل هناك ولمٌا يزل على قيدِ الحياة أم أنّه فارقها منذ زمن، ليظلّ أمر اختفائه شبيهاً باختفاء الرّيش الذي ربما تطاير من رياح شديدة في ليلة شتوية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...