لطالما آمنت أن الذكريات تبقى حية في قلب الأمكنة وباطن الجدران، مهما ابتعدنا عنها أو شغلتنا الحياة فتساقط بعضها من ذاكرتنا وغلفها غبار النسيان. لذا أتماهى معها ويؤلمني أن يتم تدميرها وتشويهها ومحوها من الوجود، دون ذنب اقترفته، فقد كانت حنونة وأمينة على أسرارنا وذكرياتنا، إلاّ أننا خذلناها وتركناها تتحول إلى ركام بسبب أطماع بعض البشر. وذلك في عصر طغت الماديات على كل شيء، ومجتمع يبدو أنه مصمم على محو كل أثر للزمن الجميل، ويتجرد من ثوبه التراثي بينما يسير بسرعة في موكب ما يسمى بالجمهورية الجديدة.
لطالما آمنت أن الذكريات تبقى حية في قلب الأمكنة وباطن الجدران، مهما ابتعدنا عنها أو شغلتنا الحياة.
كانت المرة الأولى التي أتألم فيها للأمكنة وأنا في المرحلة الإعدادية، حين رأيت الجرافات تُزيل نباتات مزهرة وأشجاراً مثمرة في حديقة جيراني ليضعوا مكانها حمام سباحة، بدا مشهد مذبحة الشجر مؤلماً لدرجة دفعت زوجة الغفير إلى محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من شتلات ونباتات قبل أن تمزقها الجرافات، وتقوم بتوزيعها علينا، نحن الجيران، لنغرسها لدينا ونرعاها.
وما كادت سنوات قليلة تمضي حتى تبدلت معالم هذا المكان الساحلي الهادئ بأكمله مع قدوم جرافات وعمال هدم برفقة مقاولين وتجار عقارات من صعيد مصر، ليستثمروا أموالهم في المجال العقاري.
وأثناء ثورة كانون الثاني/ يناير 2011 راحوا يشترون الأراضي والبيوت بنهم شديد، ويهدمون الفيلات ويجرفون الحدائق ويشيدون سريعاً مكانها أبراجاً عالية رديئة الخامات قبيحة الطراز زاهية الألوان ولم يتركوا شجرة واحدة على قيد الحياة. وخلال عامين، كان القبح قد حل مكان الجمال، وهرب أصحاب البيوت القدامى ونحن معهم وبرفقتنا ذكرياتنا الجميلة التي لم تعد تنتمي إلى هذا المكان. وقبل ثلاثة أعوام، أخذني حنين الذكريات إلى هناك، لكني لم أجد سوى شعور بالغربة والغرابة معاً.
كانت المرة الأولى التي أتألم فيها للأمكنة وأنا في المرحلة الإعدادية، حين رأيت الجرافات تُزيل نباتات مزهرة وأشجاراً مثمرة في حديقة جيراني ليضعوا مكانها حمام سباحة
لكن، ما حدث مع ذكريات فترة محببة من طفولتي ومكان عشت فيه خمس سنوات، تكرر في أمكنة كثيرة خلال السنوات الأخيرة، ولكن ليس بأيدي مقاولين جنوبيين هذه المرة، بل بفعل جرافات تنتمي للحكومة ممثلة في الحي والمحافظة. كان آخرها بيتي الذي عشت فيه سبع سنوات مع زوجي ورزقنا فيه طفلينا. ومررنا فيه بكثير من الذكريات، بعدما أخلاه الحي لأن المحافظة قررت هدمه وهدم الكثير من العمارات السكنية من حوله لبناء كوبري.
محو ذكريات جيلي الثمانينيات والتسعينيات
كواحدة من جيل التسعينيات في مصر، كان طبيعياً أن تُشكّل مدينة ملاهي السندباد جزءاً من ذكريات الطفولة الجميلة بالنسبة لي ولجيلين على التوالي، فهذه الملاهي الأقدم في تاريخ القاهرة ويرجع تاريخ افتتاحها إلى مطلع الثمانينيات بألعابها الممتعة كالغربال والأرجوحة والسيارات المتصادمة وبيت الرعب. كانت شاهدة على أجمل الرحلات المدرسية التي تدفقت عليها من مختلف أنحاء مصر، بجانب ارتياد الأسر والأصدقاء في العطلات الأسبوعية والإجازات الرسمية.ولأنها تقع في مكان حيوي أمام سور مطار القاهرة الجديد بحي النزهة وعلى بعد أمتار من الكلية الحربية، اختار الابن الوريث بعد وفاة والده بيعها كقطعة أرض لإحدى الشركات بـ 108 ملايين جنيه لتنشئ عليها أبراجاً سكنية. وفي عام 2017 راحت جرافاتها تهدم كل شيء وتساويه بالتراب، وكأن الذكريات الجميلة تُقدّر بثمن!
وكأن لعنة تطارد أبناء جيلي التسعينيات والثمانينيات وتُصرّ على محو ذكرياتهم وتشويهها، فملاهي "المعمورة لاند" بالفسطاط هي الأخرى التي كانت مليئة بالألعاب المسلية للأطفال مقابل تذاكر دخول منخفضة التكاليف. ولسنوات طويلة، اعتُبرت من أرخص الملاهي في مصر، إلاّ أنها أزيلت وهدمتها جرافات الحكومة، ونقل أصحابها الألعاب إلى موقع آخر بمنطقة المريوطية.
وكأن لعنة تطارد أبناء جيلي التسعينيات والثمانينيات وتُصرّ على محو ذكرياتهم وتشويهها
أما حديقة الفسطاط، فعلى الأرجح لم يتخلف طفل في القاهرة والجيزة من أبناء هذين الجيلين وكثير من أطفال العقد الأول من الألفية الثالثة عن زيارتها مرة واحدة على الأقل في حياته، سواء خلال رحلة مدرسية أو مع العائلة. وكانت تُشكّل أركانها وأشجارها وألعابها جزءاً من ذكرياته.
وقبل عدة أشهر، صُدمت أثناء مروري بمنطقتي الفسطاط وعين الصيرة بوجود مساحة أرض رملية شاسعة حلت محل الحديقة ومدينة الملاهي التي كانت بجوارها وجزء من نادي الأبطال. شعرت وكأن دلو ماء بارد سقط على رأسي، لأعلم لاحقاً أن ما حدث ضمن خطة لتطوير المنطقة بغرض إنشاء مشروع تلال الفسطاط.
تبدل الملامح المعمارية وخلع الكسوة الخضراء
ما زلت أحتفظ بصوري لذلك اليوم. أظنني كنت في التاسعة أو العاشرة من عمري، حين اصطحبنا والدي بسيارته في رحلة أسرية إلى محافظة الفيوم، لنقضي واحداً من أجمل أيام العمر أمام بحيرة قارون وفي محمية وادي الريان لنتأمل روعة شلالاتها ومياهها النقية الصافية ونأكل ألذ وجبة سمك بلطي مقلي. ونشتري بعض الحلي والهدايا التذكارية ونزور ساقيات الفيوم الأثريّة، الشهيرة، والتي يبلغ عمرها 2000 سنة وتعود إلى العصر البطلمي.لكن لا شيء يبقى على حاله هذه الأيام في مصر، التي تتبدل ملامحها المعمارية وتخلع كسوتها الخضراء وتغزو شوارعها الأبراج والمولات والمطاعم والكافيهات وتستبدل روائح الماضي بكومباوندات مخملية مغلقة ومشروعات سكنية جديدة ومنتجعات تظل حكراً على أثرياء القوم.
وككثير من المصريين، صدمني العام الماضي منظر الكتل الخراسانية الضخمة والبنايات التي لم تظهر معالمها بعد، والتي غزت المكان، بدءاً من ميدان قارون بوسط مدينة الفيوم وقصر الثقافة حتى "لوكاندة قارون" الأثرية. وبمشهد سواقي الهدير الملقاة على جانب الميدان والتي انتُزعت من ترعة بحر يوسف، الذي احتضنها لقرون طويلة، ضمن ما أطلقت عليه المحافظة خطة تطوير ميدان قارون، والتي زعمت أن النقل مؤقت.
اتساع قائمة مقابر الأمكنة والذكريات
أثناء دراستي الجامعية، اعتدت الذهاب مع رفيقات الدراسة لمشاهدة الأفلام الجديدة بدور السينما في نهاية الأسبوع، مرة أو مرتين كل شهر. وكانت لنا وجهتان معتادتان بحكم القرب الجغرافي من جامعة القاهرة، الأولى هي سينما رينيسانس بشارع عماد الدين في وسط البلد، والتي نصل إليها بمترو الأنفاق حتى محطة أنور السادات بميدان التحرير، ثم سيراً وصولاً للسينما.أما وجهتنا الثانية والمفضلة بالنسبة لي فهي سينما فاتن حمامة، التي لم نكن نجد صعوبة في الوصول إليها سيراً، خلال هذا العمر المفعم بالحيوية والشباب، على طول المسافة الممتدة من منطقة بين السرايات مروراً بشارع الجامعة وميدان الجيزة وصولاً إلى منطقة منيل الروضة، حتى نصل إلى سينما فاتن حمامة، المطلة على نهر النيل.
لا شيء يبقى على حاله هذه الأيام في مصر، التي تتبدل ملامحها المعمارية وتخلع كسوتها الخضراء وتغزو شوارعها الأبراج والمولات والمطاعم والكافيهات
كنا نصل إلى هناك عادة في وقتٍ أبكر من موعد عرض الفيلم، فنقصد شباك التذاكر ونقوم بشراء تذاكرنا، ثم نتجه إلى مطعم الأسماك الملاصق للسينما ونشتري ساندويشات الجمبري والسبيط/ الحبار المقلي، والتي لم تكن أسعارها في ذلك الوقت خرافية كما هي عليه الآن، إذ كانت في متناول الطبقة الوسطى بسهولة، ونجلس على المقاعد المطلة على كورنيش النيل لتناولها. وإذا كان لا يزال هناك وقت متبقٍ قبل بدء الفيلم، نواصل التمشية ذهاباً وعودة بامتداد الكورنيش نستمتع بمنظر الأشجار العجوز الكثيفة ومياه النيل ونحن نثرثر بأحاديث الفتيات، ثم نعود للسينما لمشاهدة الفيلم ونعود بعد ذلك لبيوتنا والسعادة تملؤنا.
وخلال هذا العام، كنت أمر مصادفة بمنطقة المنيل. وهناك، وقعت عيناي على محيط سينما فاتن حمامة التي كانت قد أُغلقت منذ العام 2015 وتوقفت عن عرض الأفلام لأول مرة منذ العام 1977، فلم أرَ غير حطام وأطلال المبنى. وعرفت بعدها أن الجرافات التابعة لأجهزة محافظة القاهرة قد أزالت السينما وبددت معها أجمل الذكريات.
لم أعد أعرف أي الأماكن المحببة لي، فقد اتسعت قائمة مقابر الأمكنة والذكريات، لكن ما بت أكيدة منه هو أن علينا أن نبقي الأقواس مفتوحة استعداداً لإضافة المزيد من ضحايا الجرافات والكتل الخرسانية القبيحة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...