شهدت فترة حكم الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد (1971-2000)، محاولة اغتيال واحدةً موثَّقةً، اتّهمت السلطات عناصر من جماعة الإخوان المسلمين بتنفيذها في سياق الحرب الأهليّة المصغّرة التي كادت تمزّق البلاد بين عامَي 1979 و1982، في ما عُرف بـ"تمرّد الإخوان المسلمين". وقد استُثمِرَت هذه المحاولة بوصفها مؤشّراً على تهديد داخليّ واسع النطاق، الأمر الذي مهّد لتبنّي الدولة خطاباً أمنيّاً أتاح لها شنَّ حملة قمع منهجيّة استهدفت طيفاً واسعاً من الفاعلين السياسيّين، المنتمين إلى المعارضة السلميّة والمنتمين إلى الحركات المسلّحة. وقد تُوِّج هذا المسار بـ"مجزرة حماة" في عام 1982، والتي تُعدّ من أبرز تجليّات الاستخدام المفرِط للقوّة ضدّ المدنيّين في التاريخ السوري المعاصر.
في المقابل، وخلال بضعة أشهر فقط، تتردّد روايات حول تعرّض الرئيس غير المنتخَب للمرحلة الانتقاليّة في سوريا، أحمد الشرع، لمحاولات اغتيال متكرّرة. غير أنّ غياب المصادر الموثوقة التي تؤكّد هذه الروايات، يطرح تساؤلات حول دقّتها، كما يدفع إلى التفكير في الدور الذي قد تلعبه هذه السرديّات في إنتاج خطاب سياسيّ مشابه لذاك الذي ساد خلال عهد الأسد الأب، بعد محاولة الاغتيال المشار إليها سلفاً.
منذ إعلان جبهة النصرة فكّ ارتباطها بـ"داعش"، بدأت حرب "إخوة النهج" التي شهدت معارك داميةً بين التنظيمَين. ومع إسقاط نظام الأسد عادت المخاوف من تجدّد نشاط "داعش". فإلى أي مدى يشكّل التنظيم خطراً على حياة الشرع؟
وتعزّز هذه المخاوف المجازر وحوادث الاستهداف والقمع التي واجهها المدنيّون العلويّون والدروز، في سياق ما قُدِّم بوصفه عمليّات أمنيّةً أو ردود فعل على تحرّكات مشبوهة لـ"فلول النظام السابق". إلّا أنّ القراءة المتأنّية لهذه الوقائع، في ظلّ الخطاب السائد، توحي بأنّنا إزاء بنية سلطويّة آخذة في الترسّخ، تُعيد توظيف أدوات النظام السابق تحت غطاء مغاير ظاهرياً، لكنه مماثل في بنيته ومخرجاته.
"نحن بحاجة إلى تنسيق نظام حماية حول الشرع"
يوم الأحد 29 حزيران/ يونيو الماضي، نفت وكالة الأنباء السورية "سانا" صحّة ما تناقلته وسائل إعلاميّة عن موقع TRT Golbal التركي، عن "إحباط الجيش العربي السوري والمخابرات التركية محاولةً لاغتيال السيد الرئيس أحمد الشرع خلال زيارته درعا"، في السادس من حزيران/ يونيو 2025.
وكانت يوميّة L'Orient Le-Jour اللبنانيّة الناطقة بالفرنسيّة قد نقلت عن مصادر دبلوماسية خبر نجاة الشرع من محاولتَي اغتيال، في آذار/ مارس ومطلع حزيران/ يونيو الماضيين، مشيرةً إلى تورّط جماعات جهاديّة، بما فيها تنظيم "داعش"، في الأمر. ونسبت الصحيفة إلى أحد الدبلوماسيّين قوله: "يحاول تنظيم داعش حشد مقاتلي هيئة تحرير الشام المعادين للتغييرات التي أجراها الشرع".
مخاوف هؤلاء الدبلوماسيين هذه يتشاركها المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا توم باراك، إذ سلّط الضوء في لقاء أجراه معه موقع المونيتور الأمريكي، على التهديد الذي تشكّله الفصائل المنشقّة من المقاتلين الأجانب الذين انضمّوا إلى الشرع في عملية "ردع العدوان" التي أطاحت بنظام بشار الأسد مطلع كانون الأول/ ديسمبر 2024. وقال باراك إنّه كلّما طال أمد تقديم الإغاثة الاقتصادية لسوريا، "زاد عدد الفصائل التي ستقول: هذه فرصتنا لإحداث بلبلة"، مضيفاً: "نحن بحاجة إلى تنسيق نظام حماية (للشرع)".
هذا النقاش يطرح السؤال حول جدّية التهديد الذي تمثّله الجماعات المتطرّفة، ولا سيّما المعارِضة منها للإدارة الجديدة، لحياة الشرع؟
فصائل منشقّة؟
بالعودة إلى تاريخ الفصائل التي تشكّلت في أتون الحرب الأهلية السوريّة، برزت جبهة النصرة بوصفها التنظيم الأكثر تماسكاً في بداياته، إلى أن حدث الشرخ في عام 2013 عن تنظيم "داعش" الذي انحازت إليه أكثرية "المهاجرين والأجانب وعدد من السوريّين. وبعد إعلان النصرة فكّ ارتباطها بتنظيم القاعدة، في عام 2016، ظهرت فرصة التحرّر من مندوبيه بعد استخدامهم لاكتساب الشرعيّة في أوساط المجتمع الجهادي. كما سمح تأسيس هيئة تحرير الشام مطلع عام 2017، بالاتّحاد مع فصائل حليفة ورموز مشيخيّة غادرت التنظيم لاحقاً بأشكال مختلفة، إذ تخلّى الكثيرون عن عضويته لصالح "الاعتزال"، نتيجة خلافات أيديولوجية أو إدارية، فيما أسّس منشقّون عنه حركة "حرّاس الدين"، الفرع الرسميّ (المنحلّ) لتنظيم القاعدة في سوريا.
يبدو أنّ التهديد الذي تمثّله أيّ من الجماعات المتطرفة على حياة الشرع أو سلطته أقلّ أهميةً وتأثيراً مما يروّج له البعض. إلّا أنّ ذلك لا يلغي واقع أنّ "داعش" والتنظيمات المماثلة تزدهر في ظروف الفوضى وغياب الاستقرار، وتُجيد اغتنام الفرص واستغلال الثغرات
لم تكن هيئة تحرير الشام يوماً "جسماً صلباً على قلب رجل واحد"، وفق تعبير الباحث السوريّ المتخصّص في الحركات الإسلاميّة، حسام جزماتي، إذ تتكوّن من شرائح عديدة ومتباينة، من كتل قائمة على المناطقيّة كجماعة الشرقيّة وتيار بنّش، وأخرى على الأصل العرقيّ في حالة المهاجرين، كالتركستان والأوزبك، وفيها اختلافات بين المتشدّدين والأكثر انفتاحاً، وبين القادة العسكريين والشرعيين والواجهات المدنية.
مع ذلك، يؤكّد جزماتي في مقاله المعنون: "هل تغيّرت هيئة تحرير الشام؟"، والمنشور عبر موقع تلفزيون سوريا، أنّها لا تحوي كتلاً متماسكةً أو شخصيات ذات شعبية فئوية منافِسة، ويرى أنّ إمساك الشرع بخيوط اللعبة داخل تنظيمه يبدو قويّاً ومستمرّاً وغير قابل للانقلاب عليه في المدى المنظور.
من جهة أخرى، لا توجد أيّ مؤشّرات على حدوث شقاق بين الهيئة والمقاتلين الأجانب المنضوين في صفوفها أو المتحالفين معها مثل الحزب الإسلامي التركستاني.
خطر "داعش"؟
وعقب الإطاحة بنظام الأسد، تسلّمت "إدارة العمليات العسكرية" بقيادة الشرع (المعروف حينذاك بـ"الشيخ أبي محمد الجولاني") زمام السلطة، في ما عُرِفَ إعلاميّاً بـ"الإدارة السوريّة الجديدة". وفي "مؤتمر النصر" المنعقد يوم 29 كانون الثاني/ يناير 2025، عيّنت الفصائل المجتمِعة الشرع رئيساً للمرحلة الانتقالية، وأعلنت هيئة تحرير الشام حلَّ نفسها، إلّا أنّها واصلت خلال الأشهر التالية العمل على إحكام الإمساك بمفاصل الإدارة الجديدة، حتى بات في الإمكان الحديث عن إحداهما بدلالة الأخرى.
تتّخذ إدارة الشرع من "داعش"، الذي تقدّر القيادة الوسطى الأمريكيّة عدد منتسبيه بـ2،500 مقاتل في العراق وسوريا، دون غيره من الجماعات المسلّحة، شمّاعةً تعلّق عليها فشلها الأمنيّ، وعجزها - في أفضل السيناريوهات - عن ضبط فصائلها المنفلتة، وضلوعها المباشر - في أسوأ السيناريوهات وأرجحها - في جرائم تلك الفصائل.
بعد التفجير الانتحاريّ الذي استهدف كنيسة مار إلياس في حيّ الدويلعة في العاصمة دمشق، في أثناء أداء قدّاس الأحد 22 حزيران/ يونيو الماضي، والذي أودى بحياة 27 شخصاً، فضلاً عن عشرات المصابين، سارعت وزارة الداخليّة السوريّة إلى اتّهام "داعش"، الخصم اللدود لهيئة تحرير الشام، بالوقوف وراءه، حتّى قبل إعلان بدء التحقيقات.
وقدّم المتحدّث باسمها نور الدين البابا، خلال مؤتمر صحافي، عُقِدَ بعد يومين من التفجير، روايةً لتفاصيل العمليّة الإرهابيّة لم تخلُ من ثغرات أشار إليها ناشطون عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إذ أكّد أنّ الانتحاري الذي نفّذ التفجير، والانتحاري الآخر الذي أُلقِي القبض عليه قبل تنفيذ عمليّته، ليسا سوريَّين، ووصلا إلى دمشق عبر البادية السوريّة قادمَين من مخيّم الهول، بمساعدة سوريّ يتزعّم المجموعة التي تتبع لـ"داعش"، وليست لها أيّ صلة بجهات دَعَويّة أو محلية.
في اليوم التالي، نشر المركز الإعلاميّ التابع لقوّات سوريا الديمقراطية (قسد)، بياناً أشار فيه إلى أنّ مخيّم الهول يؤوي عائلات منتسبي "داعش" من السوريّين والأجانب ومعظمهم من النساء والأطفال، لا الإرهابيّين الأجانب، مضيفاً أنّ ذلك "ينفي الفرضيّة التي تقدّم بها المتحدّث باسم وزارة الداخليّة حول انتقال الإرهابيَّين من جنسيّة غير سوريّة من مخيّم الهول".
في المقابل، لم يتبنَّ "داعش" العمليّة الإرهابيّة على الرغم من احتفاء أنصاره بها وإصدار مدوّنة صوتيّة وبيان يحضّان على استهداف الكنائس.
ونقلت صحيفة الشرق الأوسط السعوديّة، في تقرير بعنوان "دمشق في مواجهة عودة مفاجئة لداعش"، نُشِر يوم 25 حزيران/ يونيو الماضي، ادّعاء قياديّ في "الجيش السوري الجديد"، أي مجموع الفصائل المنضوية شكلياً في وزارة الدفاع السوريّة، أنّ الجيش كشف مخططاً لـ"داعش" لتنفيذ عمل عسكريّ واسع ومفاجئ من خلال السيطرة على أحياء عدّة في مدن رئيسة في وقت واحد.
منذ إعلان جبهة النصرة فكّ ارتباطها بـ"داعش"، بدأت حرب "إخوة النهج" التي شهدت معارك داميةً بين التنظيمَين. ومع إسقاط نظام الأسد، عادت المخاوف من تجدّد نشاط "داعش" إذ عادت سوريا منذ انطلاق "ردع العدوان" إلى صدارة اهتمام صحيفة التنظيم الرسمية، "النبأ"، بشكل متواتر. إلا أنّ الافتتاحيات، والإصدار المرئيّ الذي واكبها، خلت من أيّ وعيد بالعمل ضد حكومة الشرع أو التحريض على ذلك، على ما يلاحظه حسام جزماتي في مقاله المعنون: "هل نخشى من خطر داعش؟"، المنشور عبر موقع تلفزيون سوريا أيضاً.
وباستثناء عمليّتَين تبنّاهما التنظيم ضدّ قوّات الحكومة الجديدة في أيّار/ مايو 2025، توقّفت العمليّات التي كان يشنّها في البادية خلال سيطرة النظام السابق في السنوات الماضية، واقتصرت عملياته على هجمات متفرّقة قليلة الأهميّة ومحدودة التأثير في مناطق سيطرة قسد.
كذلك، يرى جزماتي أنّ الضعف المتزايد للتنظيم لا يكفي لتفسير غياب عمليّاته عن منطقة البادية على الرغم من أنّها كانت أقوى مناطق نفوذه وقوّته الضاربة، ولا يستبعد أن يكون تحييد "داعش" نتيجة اتفاقات قسريّة مخفيّة لعب فيها توازن القوى دوره الحاسم.
"سرايا أنصار السنّة"
في اليوم التالي لتفجير كنيسة مار الياس، أصدر تنظيم "سرايا أنصار السنّة" بياناً أكّد فيه أنّ "ما نُشِر في إعلام حكومة الجولاني عارٍ عن الصحّة، ملفّق لا يسنده دليل، ولا يستقيم في ميزان العدل"، وتبنّى العمليّة ونسبها إلى "الأخ الاستشهادي، محمد زين العابدين، أبي عثمان". في المقابل، عدّ نور الدين البابا الجماعة "تنظيماً وهميّاً"، زاعماً أنّه "لم يتبنَّ العملية إلّا بعد صدور التحقيقات الأوّليّة عن وزارة الداخليّة"، بخلاف حقيقة تبنّي التنظيم العملية في الساعات القليلة التالية لها.
بحسب معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، تشير المعلومات المتوافرة إلى أنّ سرايا أنصار السنّة أعلنت عن وجودها ككيان منفصل في كانون الثاني/ يناير 2025 (وتدّعي أنّها كانت تنفّذ عمليات اغتيال منذ إسقاط نظام الأسد).
يقود هذه الجماعة أبو عائشة الشاميّ، والشرعيّ أبو الفتح الشاميّ. ويُقدَّر عدد منتسبيها ببضع عشرات يتوزّعون في مدن وبلدات وأرياف عديدة، بعضهم من المقاتلين السابقين في هيئة تحرير الشام.
وهناك مؤشّرات على أنّها استوعبت بعض أعضاء "حرّاس الدين"، الذي أعلن قبل يوم من "مؤتمر النصر" حلَّ نفسه "بقرار أميريّ من القيادة العامّة لتنظيم قاعدة الجهاد" بعدما "أَذِن الله أن ينتصر هذا الشعب المسلم السنّي على طاغية من أظلم طواغيت العصر الحديث، ممّا يعلن عن اكتمال مرحلة من مراحل الصراع بين الحقّ والباطل".
يكمن السبيل الوحيد إلى إقامة "نظام حماية حول الشرع"، وفق تعبير المبعوث الأمريكي، في تأسيس حكومة انتقاليّة تمثيليّة وتشاركيّة، تعتمد الشفافية، وتستجيب للمظالم، وتصون الحقوق والكرامات؛ حكومة تمثّل السوريين جميعاً
وبينما أبدت "سرايا أنصار السنّة" تقارباً مع "داعش"، ولم تعارض العمل معه لأسباب أيديولوجيّة، إلّا أنّها تنفي انتماءها إليه. في الوقت نفسه، تمتلك الجماعة وسيلةً إعلاميةً تُسمّى مؤسّسة دابق الإخباريّة، تُحاكي عنوان مجلّة "داعش" الناطقة بالإنكليزيّة "دابق".
وعلى الرغم من تحذير الجماعة حكومة الشرع من إعاقة عمليّاتها، التي ركّزت على استهداف أعضاء سابقين في نظام الأسد والمدنيّين العلويّين والمرشديّين، واتّهامها بأنّها "انسلخت من ربقة الإسلام انسلاخ الأفعى من جلدها، نكصت على أعقابها، وارتدّت على أدبارها، قد خلعت بيعة الله من أعناقها، ورفعت راية الشِّرك على منابرها"، قالت إنّها لن تهاجم قوّات ومؤسّسات الحكومة ما لم تبادر الأخيرة إلى الصدام، لـ"تتحمّلوا نتيجة حرب أنتم من أشعلها".
في ضوء ما تقدّم، تبدو الإجابة الأقرب إلى الواقع هي أنّ التهديد الذي تمثّله أيّ من الجماعات المتطرفة سالفة الذكر على حياة الشرع أو سلطته أقلّ أهميّةً وتأثيراً مما تروّج له بعض الوسائل الإعلاميّة والمصادر الدبلوماسيّة. إلّا أنّ ذلك لا يلغي واقع أنّ "داعش" والتنظيمات المماثلة تزدهر في ظروف الفوضى وغياب الاستقرار، وتُجيد اغتنام الفرص واستغلال الثغرات. وعلى هذا، يكمن السبيل الوحيد إلى إقامة "نظام حماية حول الشرع"، وفق تعبير المبعوث الأمريكي، في تأسيس حكومة انتقاليّة تمثيليّة وتشاركيّة، تعتمد الشفافية، وتستجيب للمظالم، وتصون الحقوق والكرامات؛ حكومة تمثّل السوريين جميعاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.