في سوريا… النكتة إعلان نجاة

في سوريا… النكتة إعلان نجاة

رأي

السبت 5 يوليو 20257 دقائق للقراءة

في خضم الواقع السوري، ظهرت "الهوية البصرية لسوريا" كمحاولة لتجميل وجه محترق؛ خطوط أنيقة، ألوان وطنية، وشعارات مصقولة كأنها إعلان لمعجون أسنان لا لبلدٍ ينهار.

ولأنّ السوري يعرف الفرق بين الجمال والتجميل القسري، لم يمرّ العرض مرور الكرام. صارت "الهوية البصرية" نكتةً جماعيةً، ومادّةً أوليةً للسخرية على فيسبوك، و"ميمز" تنتقد كيف يمكن لحكومة أن تصمم لافتةً لبلدٍ بلا خبز.

لم تكن النكتة على التصميم، بل على الفجوة بين الخط الجميل وخط الكهرباء المقطوع، وعلى أن سوريا تبدو في الشعار "مشرقةً"، بينما تسبح في الظلام حرفياً. حتى البصر، لم يعد محايداً... صار أداةً للضحك.

ومن هذه الفجوة بين الصورة الرسمية والواقع، تولد النكتة السورية، لا كترف، بل كوسيلة مقاومة، لتصبح السخرية سلاحاً، والضحكة فعلاً يستدعي العقوبة.

ولأنّ السوري يعرف الفرق بين الجمال والتجميل القسري، لم يمرّ العرض مرور الكرام. صارت "الهوية البصرية" نكتةً جماعيةً، ومادّةً أوليةً للسخرية على فيسبوك، و"ميمز" تنتقد كيف يمكن لحكومة أن تصمم لافتةً لبلدٍ بلا خبز.

حين تصبح الضحكة تهمةً

في سوريا، تضحك فـ... تُعتقل. تهمتك؟ "السخرية من هيبة الدولة". سلاحك؟ نكتة. توقيتها؟ خطأ دوماً.

في هذا البلد العالق بين جغرافيا الخوف وتاريخ الطوابير، لا يوجد ما يُضحك، ومع ذلك... نضحك. كما لو أننا نُجرّب الحبال الصوتية قبل أن تُشلّ. كما لو أنّ الضحكة هي التمرين الأخير على النجاة.

أطلق أحدهم نكتةً على "سعر البندورة"، فدخل بيته عناصر أمن مدججون وكأنهم يداهمون خليّةً داعشيةً. لم يجدوا طماطم، لكنهم وجدوا "إساءةً للوطن". في رواية المزحة، يُرسل البطل بطاقةً فيها: "التفاؤل أفيون الشعب"... فيُفصل من الحزب، ومن الحياة. أما في سوريا، فلا تحتاج حتى إلى أن ترسل بطاقةً؛ يكفي أن تُهمس نكتة... في أذنك.

مرحباً بك في القوقعة، حيث جدران السجون تسمع أكثر من البشر، والضحكة تُعامَل كقنبلة صوتية.

الضحك تحت الرقابة… تاريخ مختصر للابتسامة المخنوقة

قبل الثورة، كانت النكتة تُقال مثل طقس محرّم، بنبرة منخفضة، على أطراف المجالس، مع نظرات جانبية للتأكد من خلوّ الغرفة من "العناصر غير المرئية". وكانت الضحكة نفسها تُقصّ بالمقصّ الأمني قبل أن تكتمل. فأن تضحك يعني أنك نسيت مكانك في الهرم الاجتماعي للموت.

مصطفى خليفة، في "القوقعة"، لا يسرد كيف اعتُقل بسبب "مزحة" فحسب، بل كيف تحوّل الإنسان في المعتقل إلى كائن يُجرّب اللغة ليعرف إن كان لا يزال حيّاً. النكتة في روايته لم تكن أكثر من وخزة... لكن في بلد حسّاس للوخز، تتحول إلى طعنة في "جسد الوطن".

بعد 2011، خرجت السخرية من سراديب الحذر، وانتقلت إلى المساحات العامة. البعض راح يضحك كما لو أنه ينتقم من سنوات الكبت، والبعض الآخر راح يبني جمهوره على منصة يوتيوب، بالضحك على مأساته.

ما بعد الثورة… الضحكة تخرج من الجدار

بعد 2011، حدث أمر غريب: كأنّ الضحك نفسه ثار. لم تعد النكتة تُقال همساً، بل صارت منشوراً، "ستاند أب"، "ميمز"، "غرافيتي"، وربما... وشاية.

خرجت السخرية من سراديب الحذر، وانتقلت إلى المساحات العامة. البعض راح يضحك كما لو أنه ينتقم من سنوات الكبت، والبعض الآخر راح يبني جمهوره على منصة يوتيوب، بالضحك على مأساته. النكتة صارت ثورةً داخل الثورة، ثورة على الكآبة الوطنية المفروضة بقوة الطوارئ.

لكن كما في المزحة، لا أحد يغفر لمن يضحك بجدّية. من لم يُقتل في المعركة، لاحقوه بسبب تعليق فيسبوكي.

في سوريا... الضحك ليس ترفاً بل غريزة بقاء

لا يضحك السوريون لأنّ الحياة مضحكة، بل لأنّ البديل قاتل. الضحكة، هنا، طريقة لقياس درجة احتراق الروح. كل نكتة عن الكهرباء، ليست فقط سخريةً، بل وثيقة انهيار للدولة. كل "قفشة" على الغاز، هي دراسة لحالة فشل اقتصادي.

حين يقول أحدهم: "اللي صام رمضان بيقدر يعيش بلا كهرباء 30 سنة"، فهو لا يحاول إضحاكك، بل يقنع نفسه بأنّ الانهيار الجماعي لا يزال يُحتمل.

الضحك، كما في جبهات الحرب، شكل من أشكال الدفاع. وكما في القوقعة، هو الحبل الوحيد الذي قد تربط به نفسك كي لا تسقط إلى قاع اللامعنى.

السخرية بوصفها عدالةً رمزيةً

في بلد لم تنصفه المحاكم، النكتة هي القاضي. الكلّ تحت المقصلة: النظام، المعارضة، الحلفاء، الضحايا، وحتى المهرّب على الحاجز. لا توجد حصانة إلا للضحك السيئ. أما النكتة الذكية، فتُعاقب.

طفل سُئل عن حلمه، فقال: "أعرف مين اللي قصفنا!". نكتة؟ ربما. لكنّها تُخبرك عن فشل التعليم، وعن قصف الطفولة. لا توجد نكتة بريئة في سوريا، لأنها تُكتب بدم المعنى.

مثلها مثل النكتة التي طردت بطل كونديرا من الحزب،  لا تتطلب سوى سوء توقيت... ومَن لا يحترم الإشارات.

في بلد لم تنصفه المحاكم، النكتة هي القاضي. الكلّ تحت المقصلة: النظام، المعارضة، الحلفاء، الضحايا، وحتى المهرّب على الحاجز. لا توجد حصانة إلا للضحك السيئ. أما النكتة الذكية، فتُعاقب.

حتى النكتة تحتاج إلى تصريح عبور

السوري يضحك على الجوع، القصف، الطوابير، الدولار، والتصريحات الرسمية، لكنه لا يضحك على أشياء "معيّنة". هناك تابوهات لم تُكتب، لكنها تُعرف. من يضحك على الشهيد؟ على الأمّ الباكية؟ على "اللافتة البيضاء" التي خرجت في أول مظاهرة؟ تلك هي الحدود غير المعلنة للضحك. ضميرنا، لا السلطة، هو من يمنعنا.

ومع ذلك، تُطارَد النكتة وكأنها "تغريدة تنظيم مسلّح". في سوريا، لا شيء يُقال بلا إذن. ولا شيء يُضحك بلا خطر.

"ستاند أب" في المنفى

نضحك على الوجع... ونبيعه  خارج حدود سوريا.

ظهرت عروض "ستاند أب" لممثلين سوريين يروون قصصهم، عن البراميل، التنقل بين الحواجز، الهجرة غير الشرعية، اللهجة، الشنطة، والحرج 

في السوبر ماركت الأوروبي.

ضحك لا يشبه ضحك الداخل. أقل وجعاً، لكنه أكثر تنظيماً. في الغوطة، كانت النكتة تُقال مع الخبز اليابس. أما في المنفى، فهي تُباع بتذكرة. والضحكة تصبح "منتجاً"، كأنّما تباع الذكريات… لا بأس. لكل ضحكة ظروفها الاقتصادية.

السوري يضحك على الجوع، القصف، الطوابير، الدولار، والتصريحات الرسمية، لكنه لا يضحك على أشياء "معيّنة". هناك تابوهات لم تُكتب، لكنها تُعرف. من يضحك على الشهيد؟ على الأمّ الباكية؟ على "اللافتة البيضاء" التي خرجت في أول مظاهرة؟ تلك هي الحدود غير المعلنة للضحك. ضميرنا، لا السلطة، هو من يمنعنا.

لكن... هل كل النكات بريئة؟

قطعاً لا. تحوّلت بعض النكات إلى أدوات تنمّر على الفقراء، النساء، واللاجئين الجدد. صار الضحك على الضحية بدلاً من الجلّاد. في خضمّ الدراما، هناك من قرر أن يضحك فوق الألم، لا من خلاله. والنكتة، مثل القنبلة، تحتاج إلى أخلاقيات الاستخدام، فمثلما تملك النكتة قوةً تحريريةً، تملك القدرة على الجرح…

من يوثّق النكتة؟

في أرشيف الموت السوري، هناك مكان للضحك لم يُصنّف بعد. لا توثّقه الصحف، ولا تتبنّاه المنظمات، ولا يدخل ضمن "السردية الوطنية". لكنه موجود. في جدران المدن، في تعليقات فيسبوك، وفي أصوات الجدّات وهنّ يسخرن من "غلاء البيض".

لو جُمعت هذه النكات، لكانت كتاب تاريخ بديل. لكنه تاريخ يُروى بالضحك... ولا يُحفظ.

لو جُمعت هذه النكات، لكانت كتاب تاريخ بديل. لكنه تاريخ يُروى بالضحك... ولا يُحفظ.

الضحك الأخير... رغماً عن الجميع

في القوقعة، الضحك تهمة. في المزحة، الضحك لعنة. وفي سوريا؟ الضحك إعلان نجاة. قد لا يُسقط نظاماً، ولا ينقذ حياةً، لكنه يُذكّرك بأنك لست حجراً، وبأنك لم تتحوّل بعد إلى ظلّ في نشرة الأخبار.

حين تضحك، تعلن أنك لم تمت بعد.  وقد يكون هذا، في سوريا، أكثر الأفعال ثوريةً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image