أسست الديمقراطية الشكلية للأحزاب الكردية لإجهاض مرحلي ومستقبلي لأي تجربة سياسية شبابية فتية منذ عقود عديدة خلت، معتمدةً كمصدر لقوّتها على أنها تمتلك زمام الأمور والقيادة أكثر من كونها تُقدّم وتخدم، ليستمر بذلك مسلسل تفكيك بنية العمل الحزبي للشباب، بالرغم من معرفة تلك القيادات بأن الفئة الشابة ضمن أحزابها تمتلك من الكفاءات التنظيمية والأكاديمية والخبرة ما يكفي لتحظى بالتمثيل السياسي فيها، خاصةً مع خبرتهم في مجتمع التكنولوجيا والنشاط الميداني والمعرفي والسياسي.
مع بداية الحراك الشعبي في سوريا عام 2011، ازداد انخراط الشباب في الأحزاب الكردية، أملاً بتحقيق تطلعاتهم السياسية، وتغذية عميقة لشعور التمكين الشخصي والقومي، خاصةً أنهم يشكلون حمولةً تاريخيةً، وواقعيةً، وسياسيةً، ومعرفيةً واجتماعيةً للقضية الكردية ولأي حزب ينتمون إليه. لكن العراقيل والصعوبات منعتهم من تفعيل دورهم ومكانتهم ضمن تلك الأحزاب. في المقابل، تزعم وتتحدث القيادات عن إيمانها بأهمية بقاء النُخب الشبابية، لكن تريد لهذا البقاء أن يكون شكلياً فقط، من دون أيّ تقدم في السلم التنظيمي.
ولم يدُر في خلد قسم ليس بالقليل من القيادات الكردية، أن تسأل نفسها أسئلةً محوريةً وهي تجتهد في استقطاب الشباب؛ كالعواقب المختلفة على مسار تواجد الشباب ضمن الأحزاب في سياق الصراع السياسي؟ وكيف ستنفذ الوعود بالمستقبل الوردي الذي وعدوهم به، مع اشتداد الصراع السياسي؟ وكيفية الرد على آراء الشباب والإستراتيجيات التي يتبنونها في رسم ملامح مستقبلهم السياسي والحزبي في ظل بنى تنظيمية متهلهلة؟
تحولت ظاهرة إقصاء الشباب في الأحزاب الكردية إلى ديناميكيات مُخطط لها بعناية وحبكة متماسكة من قبل القوّة المعارضة لأي تغيير يضرّ بمصالحها ومناصبها
ولا بد من التوقف عند معدل الأعمار للقيادات الحزبية، وغياب أي قيادي يقلّ عمره عن 40 عاماً، إذ إن الغالبية العظمى من قيادات الصف الأول والثاني وإلى حدٍ ما الثالث، ينتمون إلى مواليد أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، ولم يفسحوا المجال لنفاذ النُخب الشابة إلى مراكز قيادية، ويُعيد الشباب السبب في ذلك، إلى خشيتهم من قدرات وطاقات وأفكار الشباب وتجاوزهم للمسنّين، وهو مؤشر على بقاء الأحزاب الكردية في الحالة الهرمة التي تعيشها.
ديناميكية الإقصاء
تحولت ظاهرة إقصاء الشباب في الأحزاب الكردية إلى ديناميكيات مُخطط لها بعناية وحبكة متماسكة من قبل القوّة المعارضة لأي تغيير يضرّ بمصالحها ومناصبها، ما دفع بالشباب إلى اختيار طرق جديدة للتعبير القومي والدفاع الهويّاتي بعيداً عن العمل الحزبي، وتفكيك ربط قضية الالتزام القومي بعضويتها في الأحزاب الكردية، فواجهوا تجاهل الأحزاب لهم من خلال الانخراط في مسارات عمل جديدة، كحقول الثقافة والكتابة الصحافية والبحثية بتفرعاتها وأجناسها، أو من خلال تأسيسهم وعضويتهم في منظمات المجتمع المدني، التي وجدوا فيها ضالتهم للدفاع عن هويّتهم وقوميتهم وحقوق الشعب الكردي، فكانت تلك المسارات بديلاً أكثر حيويةً واندفاعاً ومجالات متنوعةً للارتقاء على سلم العمل، وصاروا من الشخصيات المفتاحية في الشأن العام.
فبعد اليأس من حصول أيّ تغيير، اعترف الشباب بخسارة رهانهم على الوقت ككفيل في تغيير نمطية التعامل بينهم وبين القيادات الكردية التي خلقت محاصصةً ومحسوبيات أقصت الكفاءات وأصحاب الإمكانات والخبرات، ولو تمعنت تلك القيادات في مصلحة القضية الكردية ومستقبل أحزابها، لوجدت نفسها أكبر الخاسرين؛ فغالبية الشباب انفضت عن العمل الحزبي، بل إنهم يحملون من النقمة ما يُعقّد الالتفاف الذي تقوم به الأحزاب من وقت إلى آخر، خاصةً أن النمطيات القديمة ما عادت تجد مكانةً لدى القواعد الاجتماعية، وفقدان العنصر الشبابي ضمن الأحزاب، يُفقدها احترامها لدى المجتمع المحلي.
عقل سياسي جليدي
الأحزاب الكردية لا تتأثر ولا تهتم كثيراً بالبنية النفسية والمجتمعية للمحيط الاجتماعي، وفاتها أنّ تغوّل ثقافة العنف في المجتمع الكردي، قلب أدوارها التقليدية من دون أن تتغير هي ضمنياً. حيث صاحبت العنف المنتشر سلوكيات جديدة كانت غائبةً عن المجتمع الكردي، كالانتحار، والهجرة المتزايدة، وإرسال الأهالي أطفالهم القصّر إلى أوروبا للقيام بلمّ شمل ذويهم لاحقاً، وتقلص أعداد الشباب المنتسبين إلى الأحزاب الكردية، وضعف التزام القواعد الاجتماعية بقرارات الأحزاب، واليأس الذي اكتسح المجتمع الكردي نتيجة الخلافات الكردية، وضبابية مستقبل القضية الكردية في سوريا.
تغوّل العنف هذا، خلق ذهنيات جديدةً، وكان منتظراً من الأحزاب أن تقوم بتغيير عملها التقليدي نحو نوع جديد ومغاير لما كان سائداً حتى قبل بداية الربيع العربي، كخلق منظمات رديفة شبابية ونسائية، وإعلام عصري، وتوعية ثقافية بمخاطر الانزلاق صوب العنف ومظاهره وغيرها، لكن عوضاً عن ذلك، خُلقت ديناميكيات خاصة بالصراع ضمن الأحزاب للوصول إلى مراكز صناعة القرار والمراكز القيادية، فاقت ديناميكية البحث عن حلول للمشكلات ضمن المجتمع الكردي، أو اقتراح آليات لعمل تغييرات تتناسب والوضع الأمني والسياسي الجديد.
الأحزاب الكردية لا تتأثر ولا تهتم كثيراً بالبنية النفسية والمجتمعية للمحيط الاجتماعي، وفاتها أنّ تغوّل ثقافة العنف في المجتمع الكردي، قلب أدوارها التقليدية من دون أن تتغير هي ضمنياً
كذلك، يعود جذر المعضلة في العمل السياسي الكردي إلى بنية الأحزاب وهيكلياتها، التي لا تفسح أيّ مجال أمام النُخب الشابة للارتقاء على سلم العمل الحزبي، سواء عبر الهيئات التنظيمية الكثيرة التي يجب على الشباب الخوض فيها لسنوات عديدة، يكونون خلالها قد فقدوا بريقهم السياسي وعنفوانهم الشبابي، أو عبر الفساد والمحسوبيات والمؤامرات التي تؤدي بالغالبية إلى "الهروب"، فضلاً عن الغياب المستمر للجندرة ضمن دوائر صناعة القرار، وفك هذا التعقيد أمر بالغ الأهمية إذا أرادت الأحزاب الكردية تجسيد العمل الديمقراطي السلمي والخروج من مأزقها وفشلها، وكي تدرك أهمية وأثر ونمط المشاركة السياسية للشباب على المستوى السياسي المستقبلي.
قوى التغيير
واقع القيادة الهرمة والإقصاء الذي تمارسه، لا يُلغي أو يعني أن الأحزاب الكردية فارغة تماماً من الطاقات الشبابية وغير الشبابية، فهناك نُخب سياسية قيادية تطوّر من معارفها بشكل مستمر، وتواكب مفاهيم الحداثة والحضارة والعالم الرقمي، ولم تكتوِ بلوثة انشقاق الأحزاب عن بعضها البعض، ولا تزال تتمتع بشعبية ضمن قواعدها الحزبية، لكنها للأسف تعيش حالةً نفسيةً مزدوجةً بين الرغبة في التغيير والمخاوف من أن تتحول إلى قرابين أمام القوة المعطلة لأيّ تغيير حزبي سياسي.
أما شريحة الشباب التي تتمتع بوعي سياسي واجتماعي، فهي منقسمة على نفسها ما بين الهروب من الواقع الحزبي وانخراطها في أعمال أخرى، وبين من يزال يقارع الظلم، والواقع أن تلك الأطراف أصبحت واضحة المعالم وتعبّر عن نفسها ضمن الأطر التنظيمية بشكل واضح.
لم يعد بإمكان القيادات الحالية تقديم أيّ شيءٍ جديد، لكنها لا تزال تحلم بالنزعة الأبوية السلطوية، وتتجاسر على نفسها لتنسى خلافاتها فيما بينها من أجل منع أيّ تغيير
ولطالما سعت هاتان القوتان إلى التغيير لكنهما لم تصلا إلى أهدافهما حتّى الآن لسببين متشابكين: الأوّل، لم يستمر الشباب بكثافة (كماً ونوعاً) ضمن الأطر الحزبية، وملّوا من الوعود بتحسين أوضاعهم ضمن الأحزاب، فمثلاً تمتلك الأحزاب الكردية "ديمقراطيةً خاصةً"، تُمكّنها من تغيير نتائج الانتخابات أو منع الشباب الذي يُفكرون وينتقدون من التقدم فيها، فوجدت شرائح شبابية عديدة ضالتها ومقصدها عبر الدور الذي لعبته منظمات المجتمع المدني في استقطابها ومنحها مساحةً للتعبير عن آرائها والعمل على بناء أفرادها، أو انتعاش خيّار الهجرة إلى أوروبا وما يشكله من حلم بالاستقرار "الحقيقي" وتحوّله إلى قناعة جمعية لدى الشباب، الذين ما عادوا يصدقون حديث الأحزاب حول خيارات الصمود والبقاء والتشبث.
والثاني، القيادات التي لم يعد بإمكانها تقديم أيّ شيءٍ جديد، ولا تزال تحلم بالنزعة الأبوية السلطوية، وإن كانت تعيش حالات صراع في ما بينها، لكنها تتجاسر على نفسها لتنسى خلافاتها لمواجهة تطلعات الشباب، ومنع أيّ تغيير.
ديمقراطية ونفور
وسط ذلك كله، يتردد بين الكرد سؤال أساسي واحد: لماذا لا تعتمد الأحزاب الكردية على كفاءات وخبرات الشباب الكردي، ويتبادل الطرفان بذلك النفع المشترك من حيث تقسيم العمل، وتقديم مادة جديدة، عوضاً عن الاعتماد على منتمين إلى عوالم ساحقة في القِدم التاريخي من دون تمكنهم من اختراق مفاهيم الحداثة وما تتطلبه الأحزاب العصرية؟
وبالرغم من أن المسار التاريخي للحركة السياسية الكردية لم يكن معبّداً سوى بالمسامير والعذابات، إلا أنها بقيت أسيرة نزعات ستاتيكية ثابتة، وتنظر إلى أي ديناميكية سريعة وعملية على أنها شرّ مطلق، وهو ما يضع الحلفاء والداعمين المعنويين والسياسيين لها داخل البلاد وخارجها، أمام امتحان صعب لوضع الأحزاب المحددة على السكة الصحيحة وحماية العمق المطلوب.
وسط هذا الواقع السوداوي، ستبقى نظرية أن الشباب الكردي الكفؤ ليس سوى لوكيميا في الأحزاب الكردية السورية، مستمرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين