شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
في الانتظار... مقاربة فلسفيّة

في الانتظار... مقاربة فلسفيّة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 25 أكتوبر 202202:03 م

تندرج المادة ضمن ملف "الانتظار... رنينُ هاتفٍ في صحراء"، إعداد وتحرير تمّام هنيدي.


الانتظار حالةٌ مُلازِمة لوجودنا الإنساني، كملازمة القلق والزمن والهشاشة. ومن هنا، تتقاطع هذه الحالات مع بعضها في أكثر من موقع. ومع أن الانتظار يجسد هذه الحالات إلّا أنه يجسد أيضاً حالة توقّع الشيء (التطلع إلى حصوله أو الترقب لحدوث شيء ما كنا نتوقعه أو نأمله أو نرغبه أو وُعِدنا به أو أُمِرنا به، إلخ)، على الرغم من أنه يخلو من التأكيد على حدوث الشيء المُنتظَر، ويقتصر على علاقته بزمن المستقبل والقلق منه بوصفه مُنتظِراً هشّاً.

ضروب الانتظار

ولهذا، يمكننا النظر إلى الانتظار بكونه على أربعة ضروب:

الأول، انتظار وجودي: يطال كل البشر، وننتظر فيه الموت والولادة، المرض والشفاء، الحب والكره، الخير والشر، إلخ. إننا ننتظر حدوث المتناقضات وتعاقب الفصول وحصول المعجزات وكأننا فُطِمنا عليه.

والثاني، انتظار مفروض: فرضته علينا قوى نعجز عن مواجهتها لهشاشتنا. وهو انتظار تفتعله هذه القوى افتعالاً ممنهجاً. وخير مثال عليه هو ما تفتعله السلطات السوريّة: فبالإضافة إلى ما تفرضه من انتظار للسِّلم ونتائج الحرب وإعادة الإعمار وعودة اللاجئين والحل السياسي، هناك اليوم انتظار لرسائل إلكترونية في سياق سياسة التقْنين: يُفرَض على السوريين هذه الأيام انتظار مقيت لرسالة أسطوانة الغاز كلَّ أكثر من تسعين يوماً، أو لرسالة البنزين لتعبئة خمسة وعشرين ليتراً في الشهر، أو رسالة المازوت لتعبئة خمسين ليتراً منه سنوياً. ناهيك عن رسائل المواد التموينية كلّ شهرين كيلو غرام من السكر والرز. ولكن يبقى انتظار رسالة SMS من مكتب الهرم للحوالات، معشوقَ الجماهير. فهي رسالة تزف للأهالي خبرَ استلام حوالة نقدية من المغتربين في الخارج وقد باتوا رئة للسوريين.

والثالث انتظار إيمانيّ: أُمِرنا به وأذكتْه المذاهب الدينية بلهيبِ العشق الصوفي، كما نجده في انتظار المهدي الذي تأمر به بعض المذاهب الإسلامية.

أمّا الرابع فانتظار عملي: نقوم به في يومياتنا، ولكنه برغم تداخله مع الأنواع الثلاثة السابقة، إلّا أنه ينطوي على شيءٍ من الاختيار والإرادة، فهو الوحيد من بين الأنواع الأخرى الذي يُمكِّن من تحمل المسؤولية لظهور الدور الشخصي فيه.

وإذ يختلف كلُّ نوع عن الآخر -من ناحية الشروط والأهمية ودرجة المشاعر المصاحبة عند المُنتظِر والموضوع المُنتَظَر والهدف من الانتظار ووقت الانتظار- غير أن هذه الأنواع الأربعة تتشارك في مشاعر القلق وحالة الهشاشة والعلاقة بالوقت المستقبل، مع غياب التأكيد على حصول المُتوقّع، سواءً كان وعداً أم موعداً أم أملاً أم رغبةً، إلى آخر ما هنالك من مواضيع.

بهذا المعنى، فإن الانتظار قضمٌ للوقت. إنه حالة تختص بقضم الوقت أو تزجيته فحسب، لأننا ننتظر في زمننا الحاضر ما سيأتي في زمن المستقبل، من جهة، أو كنا قد انتظرنا شيئاً ما قد أتى أو لم يأتِ في زمننا الماضي، من جهة ثانية، أو أننا سننتظر من أجل شيء ما في المستقبل القريب أو البعيد، من جهة ثالثة.

الانتظار يرفع رصيد القلق والمخاوف عند الفرد، ويقلل في الوقت نفسه من قدرته على التحكم بواقعه. ثم يُلقي بالمسؤولية على كاهل المُنتظِر، على الرغم من أنه لم يختر الانتظار

إننا نقول في حياتنا اليومية، مثلًا في الفعل الناقص: "كان ينتظر"، وفي الفعل الأكثر من كامل: "كان قد انتظر"، وفي فعل المستقبل السابق: "سيكون قد انتظر". إننا ننتظر ونحن غير متأكدين من وقوع ما ننتظره. فقد يقع أو لا يقع، لأنه احتمال غير متعين، ونحن في حالة انتظار. وهنا انحشر الزمن في فعل الانتظار وانحشر أيضاً عدم التعيين أو الاحتمالية.

قد يكون الزمن الفاصلُ عن وقوع المُنتظَر طويلاً أو قصيراً، ثابتاً أو متمدداً، جامداً أو سائلاً، ولكنه زمنٌ قابل للقياس بدقةٍ بساعاتنا بعد الوقوع. وما الصفات التي نسبغها على الوقت سوى مشاعرنا النسبية والمتذبذبة واللحظية. وكما قال أينشتاين ذات يوم في شرح النظرية النسبية بطرافة: "عندما أجلس مع من أحب لمدة ساعتين، أخالها دقيقة واحدة فقط. ولكني عندما أجلس على موقد ساخن جداً لمدة دقيقة واحدة أخال أنها ساعتان".

هدف الانتظار، موضوعه، وآثاره

بات من المفروغ منه أن الشعور الفردي شعورٌ لحظي ومتذبذب ومتغير ونسبي، ولا يمكن قياسه إلّا بصفات كيفيّة غير دقيقة. ومع أن الانتظار مفهوم غير قابل للقياس من ناحية المشاعر المصاحبة للمُنتظِر، إلّا أنه يمكن تقسيم هذه الحالة، حالة الانتظار الوجودي والمفتعل التي نعيشها إلى أقسام ثلاثة هي:

1- هدف الانتظار

ما هدفنا من الانتظار؟

هدفنا من الانتظار هو تحقق (حصول، حدوث) ما نتوقعه (نترقبه، نأمله، نريده، نتطلع إليه ونصبو له، إلخ). ومع أن الهدف قد لا يتحقق ويفشل ساعتها الانتظار، إلّا أننا لا نستطيع توحيد الهدف في جميع حالات الانتظار. ولذلك لا يعوّل على الهدف من الانتظار لتشكيل رأيٍ مانع جامع حوله.

2- موضوع الانتظار

ما الموضوع الذي ننتظره؟

موضوع الانتظار متنوع ومتعدد، حتى أنه متشظٍّ إلى مواضيع لا حصر لها. فقد يكون الانتظار لحصول موعد ما، أو لتحقيق وعدٍ قطعه شخص ما أو حكومة، لا على التعيين أو مرُشِّح من دون تسميته. وربما يكون الانتظار انتظاراً لشيء جيد أو لآخر سيئ، كانتظار ولادة أو انتظار موت وانتظار نصر أو هزيمة، لا فرق، فكل أنواع الانتظار ما هي إلّا قضم للوقت.

ومثل هذا التعدد في مواضيع الانتظار، يجعل من كل شيء قابلًا لأن يصبح موضوع انتظار في سياق ما وعند شخص ما. والحق يقال، إننا لا نعرف عن موضوع الانتظار سوى اختلافه وتعدده فحسب، ولا نستطيع أن نتعرف على الوحدة في موضوعه ككل.

3- الآثار الجانبية للانتظار

ما الآثار الجانبية التي يخلفها الانتظار على المُنتظِر؟

إن الانتظار يرفع رصيد القلق والمخاوف عند الفرد، ويقلل في الوقت نفسه من قدرته على التحكم بواقعه. ثم يُلقي بالمسؤولية على كاهل المُنتظِر، على الرغم من أنه لم يختر الانتظار، وإنما فُرض عليه فرضاً أو أٌمِر به أمراً أو كان من طبيعة الأشياء كالانتظار الوجودي.

لا نختلف على أن هناك بعض الحالات في الانتظار العملي تكون من اختيار الفرد كانتظار صديق/صديقة، حبيب/حبيبة، إلخ، ولكنه هنا سيكون في غالبه مفروضاً وليس اختياريّاً، لكونه متداخلاً مع الأنواع الأخرى. ولهذا ستقتصر المسؤولية الفردية على الانتظار العملي الذي تم اختياره فحسب. فالمسؤولية أساساً تقع على كاهل أفراد يُفترض أن يكونوا أحراراً في انتظارهم، ومن هنا عليهم أن يتحملوا تبعات انتظارهم مهما كان نوعه. ولكن، وكما وجدنا فإنّ أغلب حالات الانتظار ليست اختيارية. ومع ذلك فإن المُنتظِرَ مسؤولٌ عن انتظاره، وهذه إحدى مفارقات المسؤولية لانعدام الخيار في الانتظار.

ومن مخاطر الانتظار أيضاً تلك التي تفرضها قوىً تتجاوز حدود المُنتظِر في الفهم والفعل لهشاشة المُنتظِر. ومع أن هذا المُنتظِر هو من سيدفع ثمن انتظاره مقابل لا شيء، إلّا أنه ما من وصفاتٍ مضمونة لتقليل الثمن، حتى لو أتقن المُنتظِر تعلُّمَ هذه الوصفات والتزم بها. كما أنه ما من وصفات يمكن للمُنتظِر أن يلومها في حال فشل انتظاره. ولذلك ستكمن فضيلة المُنتظِر في مرونته، وليس في الامتثال إلى وصفات ما، أو مجرد تطبيقها حرفيًاً. ومثل هذه المرونة ستجعله يتكيف مع الانتظار المفروض الذي سيسلبه جزءاً كبيراً من كرامته وحريته وجهده ووقته وأمواله.

الانتظار قضمٌ للوقت. إنه حالة تختص بقضم الوقت أو تزجيته فحسب، لأننا ننتظر في زمننا الحاضر، ما سيأتي في زمن المستقبل، من جهة، أو كنا قد انتظرنا شيئاً ما قد أتى أو لم يأتِ في زمننا الماضي، من جهة ثانية، أو أننا سننتظر من أجل شيء ما في المستقبل، من جهة ثالثة

لقد مرّت آلاف الأعوام على حالة الانتظار من دون فلسفته. لكن في ستينيات القرن العشرين، أظهرَ لنا صموئيل بيكيت، خلال مسرحيته الأشهر "في انتظار غودو"، أن الانتظار عبث. فلا معنى لانتظارنا بغضِّ النظر عن الموضوع الذي ننتظره، ولا قيمة له سواء كان الهدف عظيماً أم هزيلاً.

وكأن الانتظار عموماً من اختيارنا، بحسب بيكيت، وليس مُقدراً علينا في أغلب أنواعه. وسواء وعينا ذلك أم لا، لنسأل: هل فعلاً انتظارنا عبثي؟ وإذا كان كذلك فلماذا ننتظر؟ أظن أن مشكلة غودو تكمن في تعميم صفة العبث على الانتظار من دون تمييز بين أنواعه غير الاختيارية. والحقيقة، أننا مضطرون للانتظار، ولا نملك رفاهية الاختيار بين الانتظار وعدمه. فهو، كما قلنا، حالة ملازمة للموجود الإنساني من جهة ومفروضة علينا من جهة أخرى. فإذا كانت بعض حالات الانتظار عبثاً، فهذا لا يعني أن باقي الحالات هي عبث أيضاً. وعلى الرغم من أن الانتظار يكون مُوعى أحياناً، فإن الوعي لا يقدم أو يؤخر في تغيير ماهيته الوجودية، كما لا يؤثر وعي الزمان أو القلق أو الهشاشة في ماهيته.

الانتظار يولِّد القلق عند المُنتظِر الهشّ. وبتكراره يتكيّف المُنتظِر مع القلق والهشاشة. وبالمحصلة يتكيّف مع قضم الوقت من دون كرامة وحرية.

وهذا يطرح علينا هذين السؤالين:

لماذا لا نكتفي إذاً بالفرضِ الصادر عن طبيعة وجودنا، ونلغي الفرض الصادر عن قوى الأمر الواقع أو عن الأوامر العليا التي تدعو للانتظار؟ لأننا قد تكيفنا مع الفرض والإجبار أو تطبعنا عليه.

ولماذا لا نزيد من مساحة الاختيار في انتظارنا؟ لأن الانتظار الصادر عن اختيارٍ عبثٌ.

فالانتظار مأزق وجودي وقع فيه الموجود الإنساني بمجرّد وجوده، أمّا المصادفة فمنفذ وجودي لأنها تخلو من الانتظار.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image