تندرج المادة ضمن ملف "الانتظار... رنينُ هاتفٍ في صحراء"، إعداد وتحرير تمّام هنيدي.
مُتربّعاً على عرشه، يجلسُ كرونوس جدّ الآلهة جميعاً مستمتعاً بمراقبتنا، الزمان، المولود من رحمِ الوجود، المُحتال المُقامر، بسلاحهِ الحظّ ولعبته الأماني، ليس لهُ من بدءٍ ولا نهاية. على كتفهِ يقفُ طيرٌ أبكم، ذاك هو الانتظار.
تضيء شاشة المحمولِ عند الخامسةِ صباحاً من كلّ يوم لتحملَ معها أخبار الصباح من جريدة نيويورك تايمز (the Morning new york times). على الأخبار أن تصلنا -لسببٍ أجهله- مُبكّراً جدّاً قبل تناولِ القهوة وتنظيف الأسنان. لحسنِ الحظّ لا أنام كثيراً وأقضي معظم الليل مستيقظة، أعيدُ خلالهُ ترتيبَ أولويّاتي بعيداً عن صخبِ النّهار والأعمالِ المنزليّة التي لا تنتهي، أُنجِزُ عملي أمام شاشة اللابتوب بانتظار أن يطلع الفجر ويمدّني بتلك الطاقةِ العجيبة التي أدمنتها منذ سنوات.
الأخبارُ لا تنتظر ولا أدري من اخترعَ فكرة أنّ علينا معرفة كلّ ما يجري في العالم بأقصى سرعةٍ ممكنة. يفيضُ سيلُ المعلومات مُتدفّقاً يوميّاً من كلّ مكانٍ: من المواقع الإخباريّة والمحطات ومواقع التواصل الاجتماعي. ها نحنُ نعرفُ كلّ شيءٍ قبل أن ننطقَ جملة "صباح الخير"، ومع ذلك ما زالت مشكلات العالم قائمةً، لا بل وفي تفاقم مستمر. كلّ تلك السرعة في ضخِّ الأخبار العاجلة لم تزد من عمقِ معارفنا، ولم تبطئ تلوّث سنتمتر واحد على سطح الأرض، ولم تمنع حرائق الغابات ولا وقوع حربٍ، ولم تستطع إنقاذ طفل من مَجزرة.
لكنّ انتظاراتنا مُرهِقة أيضاً
في رحلةِ انتظارٍ مُملّة بدأَت منذ خمس سنواتٍ ونصف، أنتظرُ أن تدعوني محكمةُ الهجرة لتُقرّر إن كنتُ جديرةً بالحصولِ على إقامةِ البلدِ الذي لجأتُ إليه أو إن كان يتوجّبُ عليّ الرحيلُ إلى بلدٍ آخر. لم تسمح لي القوانينُ بمغادرةِ الحدودِ الأمريكيّة ولا حتى إلى الجارةِ كندا التي تبعدُ عنّي ساعة ونصف الساعة، تحديداً عند شلّالات نياغارا. أعملُ وأنتظر، أركضُ وأنتظر، أبكي وأنتظر، أكتبُ وأنتظر، يُخيّل إلي أنّ الانتظار باتَ غلوتين حياتي.
مُتربّعاً على عرشه، يجلسُ كرونوس جدّ الآلهة جميعاً مستمتعاً بمراقبتنا، الزمان، المولود من رحمِ الوجود، المُحتال المُقامر، بسلاحهِ الحظّ ولعبته الأماني، ليس لهُ من بدءٍ ولا نهاية. على كتفهِ يقفُ طيرٌ أبكم، ذاك هو الانتظار.
لكن أبي لم ينتظر أحداً يومَ رَحل، فالموتُ لا يفهمُ منطقَ الطير!
لكن أبي لم ينتظر أحداً يومَ رَحل، فالموتُ لا يفهمُ منطقَ الطير!
"ثلاثيّة خطوة الزمن" هذا ما قاله شيلر على لسان كونفوشيوس، لا بدّ أن الانتظار رابعها.
حَدّثتني عَمّتي عن عَمّتها التي انتَظَرت موسم الحصاد لتحظى بفرصة الخروج لشراء ثيابٍ جديدة بعد أن عاقَبَها إخوتها بالحبسِ والضّرب لأنّ زوجها طَلّقها بحجّة مَرضِها.
انتظرتُ خروج طفلتي ذات العامين من غرفةِ العمليات، استسلمتُ للزّمن الذي امتدّ بلا نهايةٍ ومَارَس أشدّ أنواعِ التعذيب داخل عقلي وأَجبَرني على الاعترافِ بأنّ وجودي لا يساوي شيئاً بدونها، ثمّ أخذ مني تَعهّداً، بألّا أحزن على شيء يصيبني إن هي خرجَتْ حيّة
الانتظارُ رفيقُ الظّلم وشقيقُ اليأسِ وعرّاب الأحلام. ظلّ الأفكارِ في العتمة حيثُ يمتدّ الزمن أضعافَ ما هو عليه في الحقيقة، عن هذا يُخبرنا السجناء.
كلّ ما يؤجِله الانتظار يُغيّر من ماهيته وكلّ ما يُطلق سراحه يُظهر عيوبه. لكننا ننتظرُ الربيع ويأتي، والصيف والخريف والشتاء، كلّ شيءٍ في ميعاده يأتي، الطبيعةُ لا تخلف في مواعيدها، انتظارنا معها محدّد وواضح. كلّ ما عدا انتظار الطبيعة احتيال.
الانتظار استسلامٌ لما قد يحدث أو لا يحدث
الوعيُ يقول إنّ النضج هو ألا ننتظر شيئاً، أن نفعل ما يَتوجّبُ علينا فعله وأن ننسى أنّنا ننتظر، لكن كيف نفعل؟
انتظار الأحبة
في الفراقِ، تصيرُ المسافةُ ساحةَ الجريمةِ، والانتظار أداتها. في فضاءٍ واسعٍ للخيبة ننتظر أن تحدث معجزة ما، نمدُّ أيدينا أقصاها ننشدُ العناقَ الأخير، ثمَّ لا نقبضُ إلا الريح. لن يـ/تصدّقَ الحبيبُ/ة أنّنا مجروحين لفقده/ا، حتى وإن ارتكبنا جريمةً بحقّ أنفسنا، مرةً تلوَ الأخرى نحترقُ وحيدين ليحيلنا الانتظار رماداً، يـ/تطردُنا الحبيبُ/ة من الرّغبة، نصيرُ حياديين، يـ/تترك لنا الذكرى، ويـ/تقول: افعل/ي بها ما شِئت.
تقول فيروز لنا إنّها انتظَرَت حبيبها في الصيف والشتاء، لكن اللقاء سيكون خلفهما، ولا ندري أين يقعُ بالضّبط ذلك المكان. والستّ أمّ كلثوم تقول معاتبةً حبيبها إنّها ملّت انتظاره ودموعها على خدّها تقيسُ غيابه بالثواني ومع ذلك لم يأتِ، لتدخل في تمني عدم الوقوع في الحب أبداً. رغم أنّ سيرة الستّ تفيدُ بأنّها امتلكتْ شخصيّةً "يصعب حبّها"، وبالتالي كانت أحقّ بالحبّ -حسب مفهوم سقراط-، لكنّ الواقع دائماً ما أجبَرها وأجبرَ مُحبّيها الكثر على الانتظار.
كانت حكايةُ الأجيال لتتغيّر بالكاملِ لو أنّ روميو انتظَرَ ليفْهمَ ما حدثَ لحبيبته قبل أن يشربَ السمّ. ولو أنّ فلاديمير وأستراغون لم ينتظرا غودو لربما جاءَ من تلقاءِ نفسه، لكنّ بيكيت أرادَ القولَ إنّ في الانتظار يمكنُ لأيّ شيءٍ ولكلّ شيءٍ أن يَحدث.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...