بين الشخصي والموضوعي، في مدح الحاكم، مسافة مرتبطة بلحظتها التاريخية. في المواقف الانفعالية تذوب هذه المسافة، فيختلط الثناء على الشعب بمدح حاكم اتخذ قراراً حكيماً في ظرف صعب. وبعد ست سنين على الهزيمة، حمل السادس من تشرين الأول/أكتوبر 1973 معجزةَ عبور القوات المصرية قناة السويس إلى سيناء. التهبت الأعصاب وانصهرت. والطرب بالنصر استخف الكتاب، فكتب توفيق الحكيم "عبرنا الهزيمة"، وعبد الوهاب المسيري "لا نهاية للتاريخ"، ونجيب محفوظ "عودة الروح"، ويوسف إدريس "الخلاص". ومن الترف أن نطالب، هنا والآن، بهذه القاعدة الذهبية: "لا تمدح حاكماً على قيد الحياة ولو كان نبياً رسولاً". تجاوز الأمر آنذاك شخصَ الرئيس أنور السادات إلى دلالته الرمزية.
مقارنة ما كتبه محفوظ وإدريس عن السادات أيام الزهو بما كتباه لاحقاً، لا تستدعي الإساءة إليهما، ولا تحتمل شبهة نفاق. كانا صادقين في الحالين. كتب محفوظ عن ست سنوات من الموت، منذ هزيمة 1967، "ثم رُدّت الروح... روح مصر تنطلق بلا توقع، تتجسد في الجنود، بعد أن تجسدت فى قلب ابن من أبر أبنائها، اتخذ قراره ووجه ضربته، ووقعت المعجزة... استرد المواطن كبرياءه، سارت مصر من عصر إلى عصر، ومن عهد إلى عهد، ومن موت إلى خلود. أيها الزعيم لقد وفّرتَ السلاح، ولعلمك بأن الإنسان لا يحارب بالسلاح وحده، سلّحتَ شعبك بالقانون والديمقراطية والحوار الحر، فإلى الأمام مهما تكن العواقب".
محفوظ ونقد السادات
ولم ينتظر نجيب محفوظ موت السادات لكي ينتقد سياساته. وفي أعماله سجلٌّ دراميّ لكوارث الانفتاح الاقتصادي. في مجموعته القصصية "الحب فوق هضبة الهرم" (1979)، في قصة "أهل القمة"، يقول اللص زعتر لضابط الشرطة: "ما كان تهريباً أصبح بفضل الانفتاح تجارة مشروعة". صار زعتر "لصّاً قانونياً"، وهزم الضابط. وفي قصة "الحب فوق هضبة الهرم" رثاء للطبقة الوسطى التي هبطت إلى الطبقة الدنيا. ويعزف النغمة ذاتها في مجموعة "الفجر الكاذب"، ففي قصة "ذقن الباشا" يتحول الرواي، مع أصدقائه المثقفين، إلى "الطبقة الكادحة الجديدة" بسبب انفتاح السادات: "لم نكن نفرح بالنصر إلا يوماً أو بعض يوم. ولا بالسلام إلا ساعة أو بعض ساعة".
المطرقة المحفوظية هوت على عشرية السادات، فتناثرت طبقات الصدأ. في رواية "يوم قُتل الزعيم" يقول علوان فواز محتشمي إن السادات "زعيم مضاد" أخرجنا من الهزيمة، وأفسد علينا "لذة النصر. نصر مقابل هزيمتين". ويأسف لرؤية السياح الإسرائيليين، ويسمع سخطاً على بطل النصر والسلام "النصر يتكشف عن لعبة والسلام عن تسليم". وبعد أن تأكد له موت السادات يقول: "الموت أنقذه من الجنون". وفي رواية "قشتمر" يصف الراوي حكم السادات بأنه "عصر المنابر والنصر والسلام والانفتاح وعصر أكبر درجات سجلها الفساد في تماديه واستفحاله". ويقول إن صديقه طاهر عبيد أساء الظن بالسادات "منذ أول ساعة، وعدّه عميلاً لجميع القوى الرجعية في الداخل والخارج".
مشاعر متطرفة ليوسف إدريس
مشاعر يوسف إدريس متطرفة، تذهب إلى الأقصى. في تشرين الأول/أكتوبر 1973 كتب: "بضربة واحدة تمت المعجزة، تحولنا من كائنات لا كرامة لها... كائنات كالسائمة إلى بشر ذوي كرامة، بضربة إرادة واحدة رُدّت إلينا كرامتنا وعادت إنسانيتنا". وقال إنه لم يكن يؤمن بدور الفرد في التاريخ، ولا يعلم أن باستطاعة الفرد أن يحتوي في إرادته "إرادة أمة وتاريخ شعب وقدرة حضارة، ولكن البطل أنور السادات غيّر من مفهومي بسحق الهزيمة الكامنة في كل منا حين قرر العبور، فبقراره لم يعبر جيشنا القناة فقط ولكن شعبنا عبر معه فيافي الذل والمسكنة... عبر الآلام التي لا يطيقها بشر... آلام العجز، كان العبور هو الخلاص".
مقارنة ما كتبه نجيب محفوظ ويوسف إدريس عن السادات أيام الزهو بما كتباه لاحقاً، لا تستدعي الإساءة إليهما، ولا تحتمل شبهة نفاق لأنهما كانا صادقين في الحالين
وتساءل: "أحقاً عبرنا القناة ونحرر سيناء ونحطم المدرعات ونسقط الطائرات ونأسر منهم مئات... أحقاً يحدث هذا كله بأيدي مصريين مثلي ومثلك؟ ألم أقل إنها المعجزة... معجزة إرادة الأمة حين تحتويها إرادة بطل فبهذا وبهذا وحده تتحقق المعجزات". لا يمتلك يوسف إدريس قدرة نجيب محفوظ الفيلسوف، على التروّي الذي يحوّل تراب الوقائع إلى ذهب الأدب. الأعصاب العارية لا تمنحه ترف انتظار كتابة قصة أو رواية. وبكتابه "البحث عن السادات" أشعل النار في الجسد السياسي للسادات. الكتاب أصدرته المنشأة العامة للنشر والتوزيع في ليبيا. وقبل صدوره، بل قبل نشر فصول الكتاب في صحيفة "القبس" الكويتية في نيسان/أبريل 1983، تلقى يوسف سهام التخوين.
في 8 آب/أغسطس 1991 كتب محفوظ أوجزَ رثاء عنوانه "وداعاً يوسف إدريس": "كان ميلاده الأدبي ثورة، كما كانت حياته الأدبية ثورة مستمرة، ثورة على القوانين الفنية والاجتماعية، يقتحم كل شيء بجرأة، ويعالجه بطلاقة، فيثير من حوله زوابع الإثارة والانفعالات دون مبالاة بشيء، إلا ما يمليه عليه وجدانه". بهذه الجسارة خاض معركة "البحث عن السادات"، متحدياً القطيع الصحفي للسادات/مبارك. التقطوا إعلاناً عن نشر المقالات، فاتهموه بوصف حرب تشرين الأول/أكتوبر بأنها تمثيلية. وسخر حسني مبارك، في خطبة عيد العمال، أيار/مايو 1983، من "الزبون"، واتهمه بتقاضي أموال من القذافي. تعالى على تسمية يوسف الذي سيفاجأ يوماً بمبارك وحافظ الأسد أمام بابه، فيستضيفهما بثياب المصيف.
"البحث عن السادات" شهادة على عصر، مقذوف غادَر فوهة بندقية وتواصلت اختراقاته، فأربك ورثة كامب ديفيد "البداية الحقيقية لفترة طويلة قادمة هي فترة السيادة الإسرائيلية، بالقوة الغاشمة، على المنطقة... كامب ديفيد بمثل ما حررت إسرائيل من التهديد المصري، كبلتنا نحن بالتهديد الإسرائيلي الذي لا نستطيع الرد عليه بتهديد مماثل أو حتى الشكوى منه". وقد لعب السادات دوراً خطيراً في تحويل مصر "من دولة مستقلة ذات سيادة إلى دولة تابعة للنفوذ الأمريكي والإسرائيلي... عقب حكم أخطر زعيم مصري أعاد اكتشاف عروبة مصر ودورها التاريخي المحتم". واعتبر "الثغرة" لغزاً، وعلامة استفهام وراءها "مؤامرة كبرى، مؤامرة ضد الجيش وانتصاره تمهيداً لفرض الاستسلام عليه".
لعب السادات دوراً خطيراً في تحويل مصر "من دولة مستقلة ذات سيادة إلى دولة تابعة للنفوذ الأمريكي والإسرائيلي... عقب حكم أخطر زعيم مصري أعاد اكتشاف عروبة مصر ودورها التاريخي المحتم"
إدريس اتهم هنري كيسنجر، صاحب جريمة تسخين القصف في فيتنام لتهيئة الرأي العام الأمريكي للانسحاب، بأنه "واضع إستراتيجية وتكتيك حرب 73 لتسخين الموقف بين إسرائيل ومصر بالذات تمهيداً لصلح تام منفرد... والكيسنجرية لا تزال سارية حتى بغير كيسنجر". تأمّل أداءَ السادات بعد "الانتصارات الأولى"، فرآه "يفعل المستحيل ليتخلص وبأسرع ما يستطيع من حالة الحرب، وكأنه الطالب المرعوب من امتحان. ما إن يجيب على السؤال الأول فيه حتى يبلغ به جنون الفرحة حد أن يقف يعلن للعالم أن الامتحان انتهى وأنه نجح، ويعلن لكيسنجر أنه راض بأقل القليل مقابل أن تفرج أمريكا وبالتالي إسرائيل عن مصيره المربوط بإحلال السلام، أي سلام".
بشكل ما، اعتذر يوسف إدريس. فماذا لم يعتذر أنيس منصور، وأحمد رائف، والسيد يسين، وجابر عصفور، وأنور الهواري، ومرسي عطا الله؟
أرادوا اغتيال يوسف بدعوى وصفه للحرب، افتراء، بأنها تمثيلية. واتهم السادات بإنهاء الحرب، "وكأنها حرب نجح فيها بضربة حظ لن تتكرر، وليس بأداء عظيم لقوات وطنية مسلحة أذهلت ببسالتها العدو والصديق". أراد طيَّ صفحته مع السادات الذي كان رئيس لمجلس إدارة صحيفة "الجمهورية" حين تقابلا، وأعجب به "ككاتب إلى درجة أنه عهد لي بكتابة عموده اليومي الذي كان يشكل افتتاحية الجمهورية موقعاً باسمه"، وكتب للسادات ثلاثة كتب، "واعتبرتها أنا مهمة وطنية عليا إذ إن أحدها كان عن حرب السويس الوطنية والعدوان الثلاثي، وقع في خمسمائة صفحة وترجم ونشر باسم أنور السادات في دار نشر هندية وزعته بالإنجليزية على العالم أجمع".
كانت أمامه سنوات لإعلان خيبة أمله في السادات، وإيضاح ظرف كتابته للمقال اليومي للسادات رئيس تحرير صحيفة "الجمهورية"، وأكثر من عامين بعد توقيع معاهدة السلام، للمطالبة بالحقوق الأدبية لكتب ألفها وحملت اسم السادات. لا ألوم إدريس، فالسادات طاووس خرج من الحرب بجرح الثغرة التي أوصلت القوات الإسرائيلية إلى مسافة 101 كليومتر من القاهرة، ثم هرب من الغاضبين في مظاهرات الخبز في كانون الثاني/يناير 1977، ولن يراعي صداقة قديمة، سوف يعصف، وقد عصف بأكثر من 1500 من المعارضين في أيلول/سبتمبر 1981. بشكل ما، اعتذر يوسف إدريس. فماذا لم يعتذر أنيس منصور، وأحمد رائف، والسيد يسين، وجابر عصفور، وأنور الهواري، ومرسي عطا الله؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه