في سبعينيات القرن الماضي، كان العلم ببلاد الشرق الأقصى محدوداً، وكل ما هو متداول عنها في الصحف أخبارٌ عن معاركها ومجاعاتها وكوارثها الطبيعية، وندر وقتئذ أن نجد رحّالة عربياً يطوف بلدان آسيا لتدوين انطباعاته ولقاءاته داخلها، للوقوف على مآثر ومآخذ مواطنيها، رغم أن على أراضيها يعيش أكثر من نصف عدد سكان العالم تقريباً!
عام 1972، قُدّر للأدب العربي أن يظفر برحلة للأديب البارع في زمنه يوسف إدريس، والمُقدّر حتى بعد وفاته، حين أصدر كتاب "اكتشاف قارة"، الذي ترك فيه انطباعاته عن الثقافة الآسيوية، ولماذا هو هكذا، وما هي طبيعته.
هدف الرحلة الظاهر والخفي!
"بهذه الرحلة أكون قد غطيتُ تقريباً سطح الكرة الأرضية، وتعرفت إلى معظم أوطانها وشعوبها. والحقيقة أني بدأتها مجرد رحلة أخرى من الرحلات؛ ولكني حين انتهيت منها أحسست أنها فريدة، بل رُحت أؤنِّب نفسي أني أجلتها إلى هذا الوقت، بينما هناك بلاد كثيرة معظمها في أوروبا رأيتها أكثر من مرة، وضيعت فيها أكثر من وقت".
هكذا استهل الدكتور يوسف إدريس حديثه عن ندمه على تأخيره زيارة قارة آسيا، رغم أن نصف هدفه من الرحلة كان "لحضور مؤتمر الكتَّاب الآسيويين الأفريقيين"، ونصفها الآخر "موفداً لتغطية المنطقة ثقافياً وفنياً وحضارياً"، على حد تعبيره.
أجمل ما في رحلة يوسف إدريس إلى آسيا هي رؤاه الفلسفية والأدبية إلى الشرق الأقصى، خاصة في اللحظة التي اعتبر فيها الموقف من الحياة والموت هو ما يحدد فهم الإنسان للكون
لم يَفُت الأديب الكامن بداخل يوسف إدريس أن يبوح بحقيقة أن له مآرب أخرى من تلك الرحلة، وهي أن يلتقي وجهاً لوجه بالإنسان "الذي صنع المسير الطويل، وثورة الصين العظيمة، والذي يخوض بنجاح تجربة الاشتراكية الديمقراطية في الهند، الذي بعد قسوة الهزيمة في اليابان سمقَ وانتصر، وأصبحت به ثالث دولة في العالم بعد أمريكا وروسيا، والذي يتبدى لنا الآن وعلى مسمع ومرأى من العالم أجمع كنهُ هذا الكم من البطولة الذي يحتويه وهو يناضل الاستعمار الأمريكي في فيتنام".
ذهب إدريس ليعرف أكثر عن الثقافة الأسيوية، ومن أين جاءت "هذه الطاقات الروحية الخارقة حتى ليحوّل [شعبها] الهزيمة إلى انتصار، وحتى ليُرسي الرعب ـمهما كان قليل العددـ في قلب دولة كبرى كأمريكا نفسها"؟ وتأكد الأديب أنه حتماً سيعثر على الجواب.
وبكلمات أديب لا يُشق له غبار، حاول إدريس الإجابة على تلك الأسئلة المحيرة، بقوله: "البلد الذي خلبَ لُبي في آسيا هو الهند؛ الشعب، والحضارة. وفي البطولات ليس أعلى من فيتنام، وفي التحلل هناك تايلاند وهونج كونج. في الطموح المخيف نرى اليابان. في أي مكان لا بد أن تعثر على نموذج، والنموذج صارخ، وفي كل مكان تلحظ حركة التاريخ سادرة سريعة، لا يوفقها شيء. في الواقع آسيا كونٌ، ومهما دُرتَ مع أفلاكه في الشرق والجنوب والشمال، فأنّى تذهب فستشعر حتماً أن لهذا الكون مركزاً ثقله من ثقل الشمس، ومكانه الصين".
بصمات جينية آسيوية في نسل المصريين!
عادة أي مسافر الوقوف على مكمن الاختلاف وأوجه الشبه بين من تركهم في بلده، وبين من يعيش بينهم الآن، وهو ما فعله يوسف إدريس خلال رحلته في الشرق الأقصى، أو في "القارة المُكتشفة" في عالمه بحسب تعبيره، فيقول: "الإنسان في آسيا ليس غريباً من الناحية الشكلية البحتة عنّا في مصر، في الهند مثلاً وفي تايلاند وفي الفلبين وحتى في طوكيو كنتُ أرى دائماً وجوهاً مصرية، أو لا بد في رأيي أن تكون مصرية، أو وهذا هو الأصح، نحن قطعاً ـ وبالذات وجهنا البحري ـ آسيويون مئة في المئة".
يعتقد يوسف إدريس أن المغول والتتر والآسيويين تركوا بصماتهم الشكلية في نسل المصريين، وبالذات البنات والسيدات، فالملامح التي نسميها مصرية أو عربية ليست كذلك في الحقيقة، فحقيقة أمرها أنها آسيوية "جاءت من الصين، وبالذات من أواسط آسيا"، على حد تعبيره.
رغم التشابه، وجد يوسف إدريس اختلافاً جوهرياً في شكل عيون الآسيويين، فيقول: "ما أجملها من عيون! لقد حزّ في نفسي أنّ بعض اليابانيات يلجأن لجراح العيون لمدّ فتحتها كالعيون الغربية أو الأوروبية، في حين أن جزءاً لا يتجزأ من جمال تلك العيون هو ذلك الحيز الجلدي الذي يفصلها عن الأنف، والذي تتميز به معظم العيون الآسيوية".
حقيقة الموت والحياة عند الإنسان الآسيوي
أجمل ما في رحلة يوسف إدريس إلى آسيا هي رؤاه الفلسفية والأدبية إلى الشرق الأقصى، خاصة في اللحظة التي اعتبر فيها الموقف من الحياة والموت هو ما يحدد فهم الإنسان للكون، أو كما يقول: "الحياة في عالمنا قصيرة، ومرة واحدة تنتهي الحياة الدنيا إلى الأبد، لهذا كان محتماً أيضاً أن يكون موقف إنساننا من الحياة هو موقف النهم الجشع الذي يستعد للعب منها ومن مباهجها قبل أن يهبط عزرائيل ليقتلع روحه من جسده. إنه موقف المستمتع الذي لا وقت لديه حتى للاستمتاع، موقف من يريد في أقل فترة من الوقت أن يجمع أكبر ثروة ويحصل على أكبر مركز ويُشبع أكبر قدر من شهواته. دافعه لهذا خوف أصيل من موت مفاجئ، وعمر ليس في مقدوره أو بيده، وإحساس محض بالزمن وبمضي الزمن، ورعب هائل من المشيب أو المرض أو الإحساس باقتراب المنون".
حدد يوسف إدريس نهاية الحضارة الأوربية ومصير أمريكا، بقوله: "مآلها سيتحدد هنا، الرأسمالية نفسها، بل حتى الماركسية وشكل ونتيجة ونهاية الصراع بينهما، أمور أبداً لن تتحدد إلا هنا، بل حتى قضية فلسطين ووجود كالوجود الإسرائيلي..."
يقول إدريس: "الموت لدينا بُعبع (كلمة مصرية تعني الشيء المُخيف) والموت هناك أمر مرغوب ومطلب. البقاء لدينا نصل برغبتنا فيه إلى حد الهوَس، والبقاء هناك لعنة. العمر هنا سرّ محجوب عن صاحبه وعن البشر أجمع، وأمر يقرره الله سبحانه، والعمر هناك مرهون بقدرة شخص على إخضاع ذاته لإرادته، وكبح الرغبة في المتعة واللذة لكي يأتي التحرر والإفراج أسرع".
وضرب إدريس مثالاً واقعياً عايشه بنفسه عن تلك المفارقة في النظر إلى الموت عند أبناء ثقافات الشرق الأقصى، بقوله: "رأيت بنفسي جنازة هندوكية تُشيّع ميتاً إلى حيث تضعه في المحرقة تمهيداً لنثر رماده في النهر المقدس الذي يغسل ماؤه الخطايا، ولم أكن أستطيع أن أمنع نفسي من الشعور بأن من يُشيّعون الجثة ليسوا حزانى على الميت فقط، ولكنهم في الحقيقة يحسدونه على خلاصه من حياة هي في الواقع سقيمة ومُضنية ولا شيء فيها سوى العذاب"!
على أعتاب آسيا ستُحلّ القضية الفلسطينية!
أما أهم بُعد يمكن ملاحظته في رحلة يوسف إدريس فقد يكون اعتقاده بأننا على أبواب عصر آسيا، "عصر الإنسان الذي سميناه الأصفر، وعِشنا لا تُثير فينا أية أحداث هائلة تقع فيه إلا أوهى الانفعالات والاهتمام، وكأن ما يحدث في كوكب آخر. بل إننا لمضطرون أن نفهم الفهم الصحيح، وندرك الإدراك الحق، أن مستقبل الإنسان في عالمنا نفسه يتقرر هنا".
لم يكتفِ الأديب المصري بذلك، بل حدد نهاية الحضارة الأوربية ومصير أمريكا، بقوله: "مآلها سيتحدد هنا، الرأسمالية نفسها، بل حتى الماركسية وشكل ونتيجة ونهاية الصراع بينهما أمور أبداً لن تتحدد إلا هنا، بل حتى قضية فلسطين ووجود كالوجود الإسرائيلي إذا كان اليوم أمره مرهوناً بإرادة أمريكا وما بينهما وبين الاتحاد السوفييتي من صراع حوله، وإذا كان الشد والجذب بيننا وبين إسرائيل هنا، فإن الحل النهائي للقضية أيضاً هناك في آسيا".
كيف لم يعر أحد أي اهتمام برأي مثل هذا؟ فمرّ دون أن يلقى اهتماماً من قبل المفكرين والمنظرين: أن تحلّ شعوب آسيا أزماتها عبر خلق توازنات سياسية ومن خلال معرفة بعضها ببعض، مستخدمة قواها السياسية وبُناها المعرفية ومشتركاتها الثقافية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون