اليوزباشي جمال الدين حماد المدرس بالمدرسة الحربية الملكية هو اللواء أركان حرب جمال حماد. اليوزباشي رتبة عسكرية تركية هي نفسها رتبة "النقيب"، وحائزها تتزين كلتا كتفيه بثلاث نجوم. ويحظر على أفراد الجيش الاشتغال بالسياسة، وإبداء الآراء السياسية والحزبية، والنشر في الصحف. المنع مبدئي ولا يخص محتوى ما يريد العسكري نشره، ولو دفاعاً عن حاكمٍ أو جيش مهزوم.
ولا أظن الضابط جمال الدين حماد اضطُرّ إلى الثناء على الملك فاروق، في ظرف جنائزي أتمّت فيه العصابات الصهيونية احتلال فلسطين عام 1948. المدح اختيار. في تلك الأجواء، لا أتخيل أن يوحي "القصر" إلى شاعر محترف، أو هاوٍ يتحسس دروب النفاق، بكتابة قصيدة.
مكر التاريخ
يتجاهل الكثيرون مكرَ التاريخ، وقسوة الذاكرة، وفذلكةَ مصادفات تكاد تُخضع كلَّ شيء تقريباً لقانون الحتمية، ولو بعد حين. وقبل سنوات فوجئنا بإتاحة مشهد محذوف من فيلم "غرام وانتقام" بطولة وإخراج يوسف وهبي، عام 1944.
لا أظن الضابط جمال الدين حماد اضطر إلى الثناء على الملك فاروق، في ظرف جنائزي أتمّت فيه العصابات الصهيونية احتلال فلسطين عام 1948. المدح اختيار. في تلك الأجواء، لا أتخيل أن يوحي "القصر" إلى شاعر محترف، أو هاوٍ يتحسس دروب النفاق، بكتابة قصيدة
مشاهدو الفيلم، بعد غرق "فقيدة الفن" أسمهان، عاصروا اختفاء ذلك المشهد منذ إجبار الملك فاروق على التنازل عن العرش، ومغادرة البلاد في 26 تموز/يوليو 1952. مات العارفون بتلك الحقيقة، ولم يمت السرُّ الذي كتموه. وكان صوت الثورة هادراً يطغى على المشاهد الباقية أو المحذوفة في أيّ فيلم، ورقابة التلفزيون تطمس صورةَ الملك في الأفلام. وفي "موسوعة الأغنيات في السينما المصرية" لا يَذكر محمود قاسم الأغنيةَ المحذوفة.
الرقابة التي حذفت "مواكب العز" فاتها طمسُ عنوان الأغنية في لوحتين في بداية الفيلم. بتروا جسداً مدته نحو ست دقائق، ونسوا عنواناً يُعرض في ثوان، محتمياً ببيانات ست أغنيات أدّتها أسمهان. تلك الثغرة ربما دفعت باحثاً هاوياً إلى العثور على النسخة الكاملة للفيلم، لنرى ونسمع هذه الأغنيةَ التي كتَبها أحمد رامي، ولحّنَها رياض السنباطي. ليس على الملحنين ولا على المغنين حرج كبير، لكن يوسف وهبي يمهد للأغنية بحوارٍ تعليمي، لتوعية بطلة الفيلم أسمهان بمآثر أسرة محمد علي، وكيف أنهم "رفعوا مصر إلى القمة، وخدموا أمتهم خدمةً عظيمة. ربّ الأسرة العلوية محمد علي، جدّ فاروق العظيم". ويبدأ استعراض مارسيليز الأسرة العلوية:
لم يعتذر اليوزباشي جمال الدين حماد عن قصيدته المنشورة في مجلة "الرسالة"، عام 1948، وعنوانها "الفاروق في أرض السلام". الاعتذار ثقافة، فضيلة لا تنتقص المعتذر، ولا تسيء إليه. ولعلّه فريضة غائبة، وإحياؤها يقتضي جسارةَ بيرم التونسي
عصر زها وتباهى بالأسرة العلوية
المجد فيه تناهى إلى أبي المدنية
حيُّوا معي ذكرى الزعيم الأول
حيّوا معي ذكرى محمد علي
تحيا لنا ذكراه يا نعم ما
أدّاه بالفتح والعمران
ومن "العزيز الأكمل" تنتقل الأغنية إلى الخديو إسماعيل، وابنه فؤاد "المليك الأفضل"، وصولاً إلى فاروق:
حيّوا معي عهد الربيع المقبل
حيّوا معي فاروق كنز الأمل
دامت لنا نعماه يا نعم ما
أسداه للبرّ والإحسان
يا مليك العصر يا حليف النصر
عـش بِوادي النيل واقبلْ حبه
خالصاً للعرش موفورَ الولاء
وامض للعلياء سباق الخطى
نحن من حولك للتاج الفدا
نفاق مجاني
نفاق مجاني من صانع الفيلم، ربما للحصول على لقب "بك"؛ لقبٌ داعب أحلام محمد عبد الوهاب، وأراد أن يناله غلاباً، بأغنية "الفن" التي كتبها صالح جودت:
بيرم التونسي ـ الذي أضناه الإبعاد عن مصر ـ امتلك شجاعة الاعتذار، في الإذاعة على الهواء مباشرة
والفن مين أنصفه/غير كلمة من مولاه
والفن مين شرّفه/غير الفاروق ورعاه
مشاهدو "غرام وانتقام" لم يلاحظوا شيئاً ينقص الفيلم. ما يمكن الاستغناء عنه، في الدراما والإبداع عموماً، هو دهون فائضة، على صانع العمل أن يتخلص منها. وبالنشر أو العرض العام يصبح العمل ملكاً للناس، ولا يحق لصاحبه التعديل فيه. وليس من الأمانة، في العهد الثوري ولا الآن، تهذيب عمل صار جزءاً من تاريخ الفنّ وذاكرته. أتمنى إعادة المشهد إلى فيلم "غرام وانتقام"، عبرةً ودرساً لأحفاد يوسف وهبي، ليتأكد لهم أن المشهد المفتعل لم يضف إلى الدراما، وأن استبعاده لم يؤثر على بناء الفيلم. تراث النفاق الغنائي لا يهذّب، ويشمل نحو أربعمة أغنية أحصاها أحمد السماحي الصحفي بالأهرام، في مدح الملك فاروق.
المسكوت عنه في الغناء، في عهد آخر ملوك مصر، لا يسرّ معظم المغنين. أغمض عيني، وأتخيل مساراً آخر للتاريخ، فأرى عبد الحليم حافظ مطرباً للملك. وقد راهن عبد الحميد توفيق زكي، في برنامج خاص باكتشاف المواهب، على عبد الحليم شبانة، ولحن له قصيدةَ "تهاني"، كلمات محمد عبد الغني حسن، وأذيعت مساء الخميس 3 أيار/مايو 1951، ضمن برنامج خصصته الإذاعة استباقاً للاحتفال بعيد الجلوس الملكي، ومباركة زواج الملك فاروق والملكة ناريمان، في السادس من أيار/مايو 1951. واحتلت صورة ناريمان غلاف مجلة "الهلال"، أيار/مايو 1951، بعنوان "ملكة وادي النيل"، وكتب عباس محمود العقاد مقالاً افتتاحياً عنوانه "سُـنّة الديمقراطية في زواج الملك فاروق".
صال العقاد في ثلاث صفحات، وفي الرابعة قال إن أسرة محمد علي "في مقدمة الأسَر المالكة التي شرعت زواج ملوكها وأمرائها على شريعة الديمقراطية الإسلامية... وتشاء العناية لصاحب عرش مصر أن يرعى سنةَ الديمقراطية ويجدد سنة الإسلام باختيار مليكة شعبِه من كريمات شعبِه... وعما قريب يحتفل العرش المصري بربِّه وربَّتِه. فيعلو الدعاء إلى مالك الملك ورب الأرباب أن يسعد الجالسين عليه وأن يجعله سعوداً شاملاً لهذه الأمة في الحال والمآل". هو نفسه العقاد الجبار الذي دفع ثمن تحدّيه للملك فؤاد، بعد قوله في البرلمان عام 1930: "هذا المجلس مستعدّ أن يسحق أكبر رأس في البلاد في سبيل صيانة الدستور وحمايته".
بيرم التونسي ـ الذي أضناه الإبعاد عن مصر ـ امتلك شجاعة الاعتذار، في الإذاعة على الهواء مباشرة. كان بيرم أحدّ لساناً من العقاد، ولشمولِه بالحماية بحكم جنسيته الفرنسية تمّ نفيه، وبقيت أزجاله تسلق "تيْس التيوس"، الملك فؤاد. ظل الشعب يردّد هجائياتِه للملك وزوجته:
مرمر زماني يا زماني مرمر/البنت ماشية من زمن تتمخطر
...
الوزة من قبل الفرح مدبوحة/والعطفة من قبل النظام مفتوحة
ولما جت تتجوز المفضوحة/قلت اسكتوا خلوا البنات تتستر
لم يُسمح له بالعودة في حياة الملك فؤاد، واضطر إلى مدح ابنه فاروق، كما نصحه أصدقاءُ توسطوا لاستصدار عفوٍ ملكي عنه. فلما قامت الثورة، ذهب إلى الإذاعة، وقال:
مرمر زماني يا زماني مرمر/ياللي سمعتوا في الإذاعة صوتي
دي مسألة فيها حياتي وموتي/مطيّباتي كنت ولا حانوتي
في الفرح والأحزان باقوم متأجّر/يا رب تُبْت إليك وأنت الغافر
تفرح إذا آمن وتاب الكافر/أنا كنت أقول يا متقي للفاجر
ويا خليفة الله لشيخ المنسر
لكن اليوزباشي جمال الدين حماد لم يعتذر عن قصيدته المنشورة في مجلة "الرسالة"، في 26 تموز/يوليو 1948، وعنوانها "الفاروق في أرض السلام":
فاروقُ مجدت الجهاد بآيةٍ/هزّت فؤاد الشرق من إعجابه
زرت المجاهد في عرين جهاده/فشحذت من عزماته وحرابه
أبرأت أوجاع الجريح فلم يعد/يشكو بما قد ناء من أوصابه
وجعلت تسأل عن شهيدٍ قد فدى/أرضَ السلام بروحه وشبابِه
في كلّ حصنٍ آيةٌ أبدية/من صنعِ جيشِكَ خطَّها بحرابِه
ما أوقف الفولاذُ أبطالَ الحمى/هم نسلُ فرعونٍ ومن أصلابه
إذا افترضنا أن لكل سلوك ظروفه، ستكون لدى الجميع أسباب يسوّغون بها مواقفهم، حتى الذين هاجروا إلى خيمة العقيد، من شرقي العالم العربي وغربه، للمشاركة في ندوة "النص الأدبي لدى المبدع معمر القذافي". هؤلاء قاطعوني، لأني ذكرت الواقعة في كتابي "الثورة الآن"
ظل جمال حماد يفخر بأنه كاتب بيان الثورة، صباح 23 تموز/يوليو 1952. وفي اللهاث الثوري رأى الضابط الشاب حذف "الدين" من اسمه. وغنم من الثورة أقلّ مما ناله ضباطُ الصف الأول الذين تقلدوا الوزارات. انتدب حماد ملحقاً عسكرياً في بضع دول عربية، وتولى منصبَ المحافظ مرّتين في الستينيات، وأنتجت له المؤسسةُ المصرية العامة للسينما عام 1970 فيلم "غروب وشروق"، أحد كلاسيكيات السينما المصرية. المناصب والفيلم في عهد جمال عبد الناصر الذي استهدفه حماد في كتاباته وأحاديثه التلفزيونية الغزيرة. استقوى حماد على خصم يستعصي على الموت. أما مدحه للملك فلم يشغله، ولو بإيضاحِ أسبابِ تلك المبادرة المخالفة للقانون العسكري، ولعلّه أعفي من اللوم مشمولاً بحماية ملكية بضمانة القصيدة.
الاعتذار ثقافة، فضيلة لا تنتقص المعتذر، ولا تسيء إليه. ولعله فريضة غائبة، وإحياؤها يقتضي جسارة بيرم التونسي. لم يذكر حماد هل كتب البيانَ الأول للثورة بمبادرة شخصية، أم باقتراح من آخرين؟ ولم يملّ يوسف وهبي حكيَ مأساة أسمهان، وتجنّب ذكرَ الأغنية المحذوفة، وقد تحمس لثورة الضباط، وقدّم عبد الحليم حافظ في حفل شهد إطلاق "مطرب الثورة". وإذا افترضنا حسن النية، وأنّ لكل سلوك ظروفَه، ستكون لدى الجميع أسباب يسوّغون بها مواقفهم، حتى الذين هاجروا إلى خيمة العقيد، من شرقي العالم العربي وغربه، للمشاركة في ندوة "النص الأدبي لدى المبدع معمر القذافي". هؤلاء قاطعوني، لأني ذكرت الواقعة في كتابي "الثورة الآن".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
أحمد لمحضر -
منذ 19 ساعةلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 3 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 4 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري