في يونيو الماضي، نشب نزاع بين الشباب العرب على مواقع التواصل الاجتماعي حول هوية عالم الاجتماع عبد الرحمن ابن خلدون، صاحب كتاب المقدمة الشهير، فبعضهم عدّه تونسياً وآخرون عدّوه مصرياً.
اندلع النزاع الافتراضي عقب إعلان مؤسس موقع فيسبوك مارك زوكربرغ أن الكتاب التالي الذي سيقرأه هو مقدمة ابن خلدون. النزاع حول هوية الرجل وانتمائه القطري ليس جديداً، ينسبه باحثون إلى تونس التي ولد فيها ودرس في مساجدها وينسبه آخرون إلى مصر التي استقر فيها قاضياً شرعياً على المذهب المالكي، قبل أن يتوفى ويدفن فيها.
وأيضاً، هنالك من يشدد على أنه أندلسي نسبةً إلى موطن عائلته الأول، قبل هجرتها إلى تونس. فيما يُرجع بعض المؤرخين أصوله إلى جزيرة العرب ويُنسب إلى نسل أحد صحابة الرسول. ولكن الرجل عاش في سياق آخر لم تكن قد نشأت فيه الدولة القطرية الحديثة بحدودها الحالية ولا انبثقت رابطة الجنسية بالمفهوم الحديث.
مراتع الطفولة
توفي عبد الرحمن بن خلدون في مصر سنة 1406 ميلادية، ودفن في مقابر الصوفية عند باب النصر شمال القاهرة، غير أن قبره بقي غير معروف حتى اليوم. في المقابل، لا تزال الدار التي ولد فيها في العاصمة تونس سنة 1332 محافظةً على نفسها من حركة الزمن. ففي زقاق طويل ضيق يشق مدينة تونس العتيقة من غربها إلى شرقها، ويسمى "نهج تربة الباي"، وتستقر في آخره مقابر مهيبة شيدها بايات (أمراء) تونس، ففي ذلك الزقاق تقع دار لا تختلف كثيراً عن الدور المنتشرة في المدينة، لكنها تحمل رمزيةً كبيرة اكتسبتها من مولد ابن خلدون داخل إحدى غرفها المُزينة بالسيراميك المميز لمعمار المدينة القديمة.
يتحدر ابن خلدون من أسرة تنتمي إلى النخب الحاكمة في الأندلس، وكانت تملك باعاً في العلم وقريبةً من السلطة. غير أن هذه السلطة قد بدأت بالتفكك منذ منتصف القرن السابع هجرية تحت وطأة الضعف الداخلي الذي أصاب الممالك العربية الإسلامية في الأندلس وتعاظم قوة الخصم المسيحي الخارجية، إذ كانت حركة الاسترداد تعيش أيام عزها، زاحفةً نحو جنوب شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا) لإخراج العرب المسلمين إلى حدود المغرب الأقصى.
وقبل السقوط النهائي، بدأت الكثير من العائلات الأندلسية تستشعر خطر زوال المُلك العربي في إسبانيا وراحت تبحث عن موطن آمن تستقر فيه حاملةً معها ثرواتها، قبل أن تُجبر على الرحيل مكرهةً دون مال أو متاع.
مقالات أخرى:
تعرّفوا على أبرز الأبنية التاريخية في مدينة القدس
المصريون يراسلون الإمام الشافعي عبر البريد الحكومي
في هذا السياق التاريخي هاجرت عائلة عبد الرحمن بن خلدون من الأندلس ليستقر بها المقام في مدينة تونس العتيقة، مركز البلاد حيث الثروة والسلطة والعلم. اختارت العائلة داراً فسيحة في "نهج تربة الباي"، أحد الشوارع المهمة في المدينة. في هذه الدار ولد نجلها عبد الرحمن يوم الأربعاء 1 رمضان 732 هـجرية، الموافق 27 مايو 1332.
آنذاك، كانت تونس تحت سلطة "الدولة الحفصية" التي رحبت بالهجرة الأندلسية لدوافع اقتصادية ودينية وعلمية. وقد ترك المهاجرون الأندلسيون من مسلمين ويهود، وكانوا يسمون "الموريسكيين"، أثراً واضحاً في البلاد ما زال بادياً حتى اليوم في العمارة والأدب والتجارة والفنون والمطبخ كما أضافوا إضافة مميزة إلى المجتمع التونسي.
بقايا ابن خلدون دارٌ ومسجد
ما زالت دار ابن خلدون محافظةً على تماسكها برغم تقادم الزمن: بيت فسيح ينتمي إلى نمط البيوت التي سكنتها الطبقة الأرستقراطية التونسية منذ عهد الدولة الحفصية حتى منتصف القرن العشرين.
وفي هذه الدار المكوّنة من طابقين ومدخل صغير يفضي إلى صحن الدار (الفناء) المفتوح على كل الغرف، والذي تتوسطه شجيرات، يتناظر الطابق الأول مع الطابق الأرضي تماماً في شكل الغرف وتصميمها. ويكسو الجدرانَ السيراميكُ العتيق الملون بالألوان الطبيعية المستخرجة من النباتات.
وفقاً للمؤرخ التونسي، منصور بوليفة، فإن الدار "حافظت على شكلها العام. فخلال القرون التي مرّت منذ ولادة ابن خلدون فيها وحتى اليوم لم تتغير هندستها بشكل جذري باستثناء بعض التغييرات الثانوية التي شملت زخارف الأسقف والأبواب الخشبية والباب الخارجي وكذلك التحويرات الحديثة والمعاصرة كربطها بشبكة الماء والكهرباء وغيرها، لكنها في العموم نجحت في إنقاذ نفسها من التشويه الذي طال معالم كثيرة أخرى".
وبرغم القيمة الرمزية والتاريخية لهذا البيت، فإن السلطات التونسية لم تحوّله إلى متحف أو إلى مزار سياحي، إذ تشغل غرفه اليوم إدارة الأرشيف التابعة للمعهد التونسي للتراث. والحال أنه يمتلك كل مقومات المتحف الفنية والتاريخية.
غير بعيد عن البيت، وفي زقاق "تربة الباي" نفسه، يقع المسجد الذي تعلّم فيه ابن خلدون الكتابة والقراءة وحفظ بين ردهاته القرآن. هو مسجد صغير جداً يسمى اليوم "مسجد القبة" وفيه قاعة صلاة دائرية الشكل تغطيها قبة أخذ منها المسجد اسمه، وكانت تتحول بعد أوقات الصلوات الخمس إلى مكان يلتقي فيه الصبية في حلقة دائرية حول الشيخ ويرددون خلفه آيات القرآن أو قواعد الصرف والنحو.
بعد مرحلة مسجد القبّة، توجه ابن خلدون إلى جامع الزيتونة، الذي لا يبعد كثيراً عن بيت عائلته في "نهج تربة الباي"، مواصلاً دروسه في شتى العلوم والفنون، ليغادر بعد ذلك تونس في رحلات طويلة شرقاً وغرباً قبل أن يتقرّب من سلطان مصر الظاهر سيف الدين برقوق ويستقر فيها ويعمل قاضياً. وهنالك مكث حتى وفاته وله من العمر 76 عاماً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...