"إليّ كلام أذكره بين يديك؛ أنا غريب في هذه البلاد غربتين: واحدة من المغرب الذي هو وطني ومنشأي، وأخرى من مصر وأهل جيلي بها، وقد حصلت في ظلّك، وأنا أرجو رأيك لي في ما يؤنسني في غربتي. فقال: قل الذي تريد أفعله لك. فقلت: حال الغربة أنسَتني ما أريد، وعساك -أيّدك الله- أن تعرف ما أريد".
تلك الكلمات كانت نصَّ حوار دار بين ابن خلدون والطاغية تيمور الأعرج بن جغطاي المغولي، عبّر خلالها عن كلّ ما ألمّ به من فقد للأهل، وعناء من ويلات السياسة التي أضرّته أكثر مما أفادته، رغم عمله بها مُكرهًا؛ فكانت رحلاته من تونس إلى المغرب والأندلس حتى وفاته بمصر أشبه بالهروب من مصير القتل، كما جرى للسان الدين ابن الخطيب، الذي لم يستطع ابن خلدون إنقاذه.
ابن خلدون... نشأة مأساوية في كنف الطاعون
قبل عام واحد من وفاة ابن خلدون كان قد انتهى من كتابة مذكراته التي كان يدوّنها يومًا بيوم، حسبما أورد الباحث المغربي محمد بن تاويت الطنجي، في تحقيقه لـ"رحلات ابن خلدون شرقًا وغربًا".
بترجمة ابن خلدون لذاته وفّر على المؤرخين عناء التعريف به، فعرّفنا بنفسه في الجزء الأخير من كتاب "العِبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، بأنه: "عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن خلدون".
أما عن نسبه فيقول: "لا أذكر من نسبي إلى خلدون غير هؤلاء العشرة، ويغلب عليّ الظن أنهم أكثر، وأنه سقط مثلهم عددًا، لأن خلدون هذا هو الداخل إلى الأندلس، فإن كان أوّل الفتح فالمدة لهذا العهد سبعمائة سنة، فيكونون زُهاء العشرين".
ويقول ابن خلدون عن مولده ونشأته: "فإني ولدتُ بتونس في غرّة رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، وربيت في حجر والدي رحمه الله، إلى أن أيفعت وقرأت القرآن العظيم على الأستاذ المكتّب أبي عبد الله محمد بن سعد بن بُرّال الأنصاري"، ثمّ أسهب في ترجمة نسبه وفروع عائلته التي يعود بعضها إلى الأندلس، والمغرب، ورحلات أشهر أضلاعها، ولم يدَع شيخًا من مشايخه إلا وعرّف به وبمؤلفاته، في صورة تجعل المطّلع على سطوره يُخيل إليه بأنه كتاب تاريخ، وليس مجرّد سيرة ذاتية خاصة بالمؤلف.
إن ما نستقرئه من تلك السيرة، هو أن الرجل عرف في حياته الخاصة أفدح الرزايا والهزّات، متمثلة في فشو الغِمم والموت من حولِه، فواجهها بكثيرٍ من الصبر والثبات
تجرّع ابن خلدون في مستهلّ شبابه، تحديدًا عام 747 هـ. -وهو في السادسة عشرة من عمره- مرارة الفقد عندما مات أبوه، وأمّه، وبعض مشايخه التونسيين جراء ما عرف وقتها بالطاعون الأعظم، ويقول الدكتور بنسالم حِمِّيش في كتابه "عن سيرتيْ ابن بطوطة وابن خلدون"، الصادر عن وزارة الثقافة والفنون بقطر عام 2014: "إن ما نستقرئه من تلك السيرة، هو أن الرجل عرف في حياته الخاصة أفدح الرزايا والهزّات، متمثلة في فشو الغِمم والموت من حوله، فواجهها بكثير من الصبر والثبات".
رحلات هدفها الهروب من جحيم السياسة
لم يكن ابن خلدون كغيره من الرحّالة الذين أفادتهم علاقتهم بالسلاطين، حيث لعبت السياسة دورَ الشرّ في رحلاته، ويقول بنسالم حِمِّيش مُبررًا ذلك: "كان ابن خلدون يؤدي خدماته -وأحيانًا مضطرًا- إلى سلاطين وأمراء العصر، لو كانوا خصماء متصارعين، من حفصيين ومرينيين وزبانيين ونصريين (...) يمارس السياسة كشَرّ لا بدّ منه، أي مُكرهًا وعلى مضض، ومن ثمّ كثرة استعماله لكمات معبرة عن علاقته بأهل الدولة في جُلّ العواصم والمدن المغاربية: منها: (إظلام الجو)، و(اتساع الخرق)، و(الاستيحاش)، و(طلب إخلاء السبيل)، و(التخلص من الشواغل وأحوال الملوك)".
وبدأ عهد ابن خلدون بالسياسة نهاية عام 751 هـ، عندما كلّفه ابن تافراكين، المُستبد على الدولة بتونس بكتابة العلامة لدى سلطانه أبي إسحاق، وفي ذلك الوقت كان مشايخ ابن خلدون الذين تتلمذ على يدهم قد عادوا إلى موطنهم بالمغرب، فيصف تلك الفترة قائلًا: "وقد كنت مُنطويًا على مفارقتهم، لما أصابني من الاستيحاش لذهاب أشياخي، وعُطلتي عن طلب العلم، فلما رجع بنو مرين إلى مراكزهم بالمغرب، وانحسر تيارهم عن إفريقية، وأكثر من كان معهم من الفضلاء صحابة وأشياخ، فاعتزمت على اللحاق بهم".
لمّا أذن السلطان لابن خلدون بالسّفر، لم يتّجه نحو مكة، وإنما رست به السفينة في الإسكندرية في ذي القعدة عام 784 هـ، ثمّ وصل القاهرة وانبهر بها واصفًا إياها بأنها "حضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذرّ من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي الملك"
واستغلّ ابن خلدون غزو إفريقية على يد أمير قسنطينة أبي يزيد عام 753 هـ، ليبدأ رحلته هاربًا من سيّده لاجئًا بعض الوقت في أُبّة (تبعد عن القيروان قرابة الثلاثة أيام)، ثم قفصة (إحدى بلدان تونس)، ثم تبسة (مدينة بالجزائر)، فيقول عن معاناته تلك: "فإنّا لما خرجنا من تونس، نزلنا بلاد هوارة، وزحفت العساكرُ بعضها إلى بعض، بفحصِ مرماجنة، وانهزم صفّنا، ونجوت أنا إلى أُبّة، فأقمت عند الشيخ عبد الرحمن الوشتاني، من كبراء المرابطين، ثمّ تحولت إلى تبسة، ونزلت بها على محمد بن عبدون، صاحبها، فأقمت عنده ليالي حتى هيّأ لي الطريق، وبذرق (بمعنى العصمة أو الخفارة) لي مع رفيق من العرب، وسافرت إلى قفصة، وأقمتُ بها أيامًا أترصد الطريق".
وبعد خمسة أعوام من وصوله فاس بالمغرب، قضاها ابن خلدون في طلب العلم، ثمّ العمل ككاتب للسلطان المريني أبي عنان، حتى لعبت السياسية دور الشرّ في مسيرته، إذ تمّ سجنه لمدة عامين، على إثر اتهامه بالمساهمة في تهيئة هروب أمير بجاية أبي عبد الله من إقامته الإجبارية، ولم يخرج من محبسه إلا بعد وفاة السلطان. وبعد تقلّد أبي عبد الله للعرش عيّن ابن خلدون كاتبًا سريًا له، ولم تمضِ سنتان حتى غادر فاس خوفًا من بطش السلاطين والأمراء غير المأمونة عواقبهم.
وفي أواخر عام 764 هـ، ارتحل ابن خلدون إلى غرناطة قاصدًا أميرها، محمد بن الأحمر الغني بالله، الذي استقبله بحفاوة هو ووزيره لسان الدين ابن الخطيب، وأُهديت إليه جارية رومية اسمها هند، لكن ذلك الودّ لم يدم طويلًا، إذ تعكّر صفوه، فاضطر لرحلةِ هروب جديدة.
المغرب وتونس... رحلة العودة للمربع صفر
بعد أن أصبح ابن خلدون، رغمًا عنه، طرفًا في صراع هيمنة ونفوذ بين أمير تلمسان أبي حمو والسلطان المريني عبد العزيز، على إثره قُتِل ابن الخطيب في محبسه، بعد أن راسل ابن خلدون متوسلًا للتدخل لإنقاذه، ويقول "حِمّيش" إن مقتل ابن الخطيب جعل ابن خلدون "يستهول العاقبة، ويخشى لقاء نفس المصير".
حينها اضطرّ للعودة إلى المغرب مثلما بدأ، وأوّل ما نزل كان بقلعة بني سلامة، الواقعة في مقاطعة وهران بالجزائر، في سنة 780 هـ.، وأقام بها أربعة أعوام "مُتخليًا عن الشواغل كلّها"، بحسب تعبير ابن خلدون، وشرع في تأليف كتابه "العِبر"، وأكمل مقدمته الأشهَر التي قال إنها "سالت فيها شآبيب الكلام والمعاني، حتى تمخضت زبدتها، وتألفت نتائجها".
ورغم انكباب ابن خلدون في تلك الفترة على التدوين، لم تمرّ دون منغصات أيضًا، حيث علم أثناء إقامته بالقلعة بنبأ اغتيال أخيه الأصغر يحيى، بإيعاز من أبي تاشفين أمير تلمسان الجديد، فاضطرّ للعودة إلى تونس بعد غياب ربع قرن، ولم تدم إقامته بها طويلًا، ليس بسبب السياسة هذه المرّة، لكن بسبب الغيرة العملية، التي كنّها له الفقيه المالكي وإمام مسجد القبة آنذاك، ابن عرفة.
ولم يجد ابن خلدون مفرًا للهرب من تحرشات ابن عرفة سوى استئذان السلطان الحفصي أبي العباس في السفر بحجة قضاء فريضة الحجّ، فقبِل السلطان شريطة استبقاء أهله في تونس ضمانًا لعودته إليها.
القاهرة، قبلة ابن خلدون، وليست مكة!
لمّا أذن السلطان لابن خلدون بالسّفر، لم يتّجه نحو مكة، وإنما رست به السفينة في الإسكندرية في ذي القعدة عام 784 هـ، ثمّ وصل القاهرة وانبهر بها واصفًا إياها بأنها "حضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذرّ من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي الملك"، ثمّ حلّ مدرسًا بالجامع الأزهر، والتفّ حوله الطلاب.
ثمّ دخل ابن خلدون معترك السياسة مرّة أخرى، حين عيّنه السلطان برقوق بالقاهرة قاضيًا على البلاد، وكثرت الدسائس حوله، وتمّ عزله عن القضاء ست مرات، ونصفهم من ولاية الدروس.
وفي عام 786 هـ، توسّط له السلطان برقوق عند حاكم تونس ليستقدم أهله ليعيشوا معه بمصر، ليشهد ابن خلدون مأساة جديدة حين هلك القادمون جميعهم في المركب الآتي إلى الإسكندرية، وعبر عن ذلك بقوله: "فكثر الشغب عليّ من كلّ جانب، وأظلم الجوّ بيني وبين أهل الدولة. ووافق ذلك مُصابي بالأهل والولد، وصلوا من المغرب في السفين، فأصابها قاصف من الرّيح فغرقت، فذهب الموجود والسكن والمولد، فعظم الجزع، ورجح الزهد"، ثمّ عاش بقية حياته وحيدًا، حتى توفّي بالقاهرة في السادس والعشرين من رمضان لعام 808 هـ، الموافق 17 من مارس لعام 1406م.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...