تخبرنا آثارهم عن بعض من أسرارهم وتفاصيلهم المدهشة، تروي لنا قصصاً ساحرة تدغدغ خواطر الكتّاب وأخيلتهم، وتثير فضول السينمائيين وجنون المبدعين، فتُطرّز منها حكايات وعبَراً لحياة أخرى غابرة لم يترك لنا أناسها غير المآثر وملاحم الانتصارات أو الخيبات، وبعضاً من جيناتهم وتفاصيلهم، نحملهم حتى دون أن ندري، فصغنا الأساطير وحتى الخرافات، ومازلنا نحلم بلَمّ شتات آثارهم فنّاً وحلماً وخيالاً.
تحت ترابها مازالت الآثار موجودة، وفوق ترابها يتجاوز عدد المعالم والمواقع الأثرية 35 ألفاً، وعلى كامل شريط حدودها البحرية مازلت تقبع في المياه العميقة وتسبح؛ فكأن تونس متحف مفتوح على كل الواجهات.
فسيفساء بألوان الزمن والأساطير
التراث التونسي كما يصفه لنا الباحث والمؤرخ التونسي معز عاشور "لا يمكن اختزاله في تعريف أو مفهوم واحد، وحتى كلمة (تنوع) لا تكفي لوصفه، فالأمر معقّد مثله مثل الشخصية التونسية المعقدة والمتشعبة. يكفي أن نسلط المجهر على اللهجة التونسية لنجد فيها البونية واللوبية واللاتينية والعربية والفرنسية والإيطالية والمالطية والتركية. وهي تركيبة لغوية دارجة لا نجد لها مثيلاً سوى المالطية في جزء".
يخفي تاريخ تونس عند كل مرحلة من مراحله إرثاً متنوّعاً ومتعدّداً يشبه الفسيفساء إلى حدّ بعيد، فمتحف باردو مثلاً يحتوي على أكبر مجموعة من لوحات الفسيفساء في العالم، وهي بمثابة دليل على مختلف الحقبات التاريخية التي عاشتها تونس، ووسيلة لمعرفة طرق العيش في الحقب المختلفة فضلاً عن معرفة الأطر الاجتماعية والأيديولوجية والثقافية.
لعلّ سردية عليسة مؤسسة قرطاج كانت الحاضرة دائماً في أذهان التونسيين. عليسة أو ديدو حكاية وردت في الملحمة الشعرية الخالدة "الإلياده"
حكايات تاريخ هذا البلد تبدأ من العصر الحجري، حفريات تعود للحضارة القبصيّة، وهي حضارة قبل تاريخية امتدت على جزء من تونس وجزء من الجزائر، وقد سمّيت بالحضارة القبصيّة نسبة إلى عاصمتها قبصة وهي قفصة حاليّاً، وامتدت من 7000 إلى 5000 قبل الميلاد، أي في نهايات العصر الحجري القديم وفي العصر الحجري الوسيط والعصر الحجري الحديث.
وعندما نتحدّث عن هذا التاريخ لا بد أن نذكر الحضارة القرطاجية التي تأسست سنة 814 قبل الميلاد، نذكر أيضاً الفترة الرومانية، والفترة الوندالية، إلى الفترة البيزنطية، لنتحدّث عن العهد الإسلامي وحكايات دول حكمت تونس بداية مع الدولة الأغلبية وعاصمتها القيروان وما مثلته من مركز إشعاع سياسي وثقافي، مروراً بالدولة الفاطميّة بعد قرابة قرن من العهد الأغلبي، فالدولة الصنهاجيّة، ومن ثمّ الدولة الموحديّة، والدولة الحفصية التي استمرّت من سنة 1229 إلى حين سقوطها سنة 1535 للميلاد، وأصبحت بعد ذلك تونس ولاية عثمانية سنة 1574.
حقب تاريخية متنوعة ومختلفة مازالت آثارها إلى حد الآن تنتظر الحماية؛ تاريخ غني بالأساطير والسرديات، ولعلّ سردية عليسة مؤسسة قرطاج كانت الحاضرة دائماً في أذهان التونسيين. عليسة أو ديدو حكاية وردت في الملحمة الشعرية الخالدة "الإلياده" التي استوحى فيها أمير الشعر اللاتيني فيــرجيل (19 - 70 ق م) من الأسطورة الأصلية، قصة حب خيالية من الجنس التراجيدي، ربطت بين مؤسّسة قرطاج عليسة -أو ديـدو كما سمّاها فرجيل- والقائد الطروادي إينياس، الٌذي اضطرّته مشيئة الآلهة لمّا كان هارباً بحراً مع مرافقيه نحو إيطاليا، بعد تدمير مدينتة طرواده من قبل الإغريق، إلى تحويل وجهته نحو سواحل الشمال الإفريقي والنزول بما تبقّى من أسطوله بالشواطئ القريبة من قرطاج.
وتعود الأسطورة إلى رواية فينيقية قديمة دون أثر لمكتوب. ويقول لنا الباحث التونسي الصحبي بن فرج إنها "قد وصلت إلينا عن طريق عدد من المؤرّخين الإغريق أقدمهم تيمايوس الصّقلّي الذي عاش ما بين 340 و250 ق م. تقول الأسطورة حســب رواية هذا المؤرّخ، إنّ الأميرة الفينيقيّة علّيسة قرّرت الفرار بحــراً من مدينتها الأصليّة صور رفقة عدد من أعيان المدينة، وذلك توجّساً من شقيقها بغماليــون، بعـد أن قام هــذا الأخير بالاستيلاء على حكم المدينة واغتيال زوجـا عاشرباص، كاهــن معبـد الإله ملقـرط غــدراً، سعيـاً منه إلى وضع يـده على ثروته الطّائلة.
ولما وصلت الأميرة إلى هضبة بيرصا، وافق أهالي المكان اللّوبيّين على تمكينها من الأرض اللّازمة لإنشاء المدينة، مقابل إتاوة معلومة تدفعها لهم. وقد لجأت علّيسة حسب الرّواية، إلى المناورة باستعمال حيلة جلد الثّور للحصول عل ما يكفي من الأرض لبناء مدينتها الجديدة "قرط حدشت" أو قرطاج، ما إن استقر لها الأمر، حتّى رغب القائد اللّوبي يرباص من علّيسه الزواج منه. لكنّها رفضت عرضه مفضّلة عن ذلك التّضحية بحياتها بإلقاء نفسها في النّار، وفاء لروح زوجها الأوّل عاشرباص من جهة، ودرءاً للعداوة التي يمكن أن تنشأ بين قرطاج والسكان الأصليّين بسبب رفضها الزواج من قائدهم".
التراث المغمور بالمياه
هذا التراث بقايا المواني والسفن وحتى الحصون والمدن، تعود للعهود البونية والرومانية والبيزنطية، وحتى للحرب العالمية الثانية؛ مخزون أثري متنوّع مازال مغموراً بالمياه على امتداد سواحل تونس المتوسطية، فحسب الإحصائيات الرسمية يوجد نحو 300 موقع تراث ثقافي مغمور بالمياه، وهي بمثابة كنوز مخفية وأسرار لم تُفتح خزائنها بعد، مع أنّ عمليات الجرد الرسمية لكل المواقع التي تقع على شريط ساحلي يمتدّ على 1300 كم لم تكتمل بعد نظراً للإمكانيات المالية واللوجستية والعلمية والتقنية الهائلة.
هذا الموروث الضخم مهدّد رغم الجهود الرسمية المتواضعة للحفاظ عليه، دون أن نتحدّث بعد عن تثمينه؛ إنه مهدّد من قبل التوسّع العمراني على حساب السواحل والشواطئ أو من النهب أو من التلف، دون أن نتحدّث عن تأثيرات العوامل الطبيعية على غرار الانجراف البحري وارتفاع مستوى البحر.
مدن أثرية تحت التراب
هناك مدن أثرية أو بقاياها اكتشفت في تونس، لكنها ما زالت تحت التراب، فأصحاب القرار يقررون تركها تحت التراب في ظل انعدام موارد لإخراجها وحمايتها وتثمينها، حتى أنّ أغلب المواقع الأثرية والمعالم لا توجد حراسة عليها، ما يعرضها للنهب ومطمع لعصابات الآثار، ولم تتوصل السلطات التونسية إلى حصر عددها إلى الآن، فالاكتشافات تحصل بين الفينة والأخرى؛ من هذه المدن الأثرية المردومة نجد 10 مواقع أثرية تمّ اكتشافها في السنوات القليلة الماضية في الجنوب التونسي باعتماد صور الأقمار الاصطناعية وتقنيات علمية فضائية، ومن خلال تعاون تونسي صيني.
تبرز هذه الاكتشافات جزءاً من الليمس الروماني بواحة شنني من محافظة تطاوين، وبجبل دمر، ومنظومة مائية رومانية بمنطقة تابرقيت، وثلاث فسقيات رومانية ضخمة، ومقبرة رومانية في محافظة مدنين، إلى جانب قلعتين رومانيتين بمحافظة قفصة. وتطلق لفظة "الليمس" على الأنظمة العسكرية والتجارية التي شكلت حزاماً واقياً للإمبراطورية الرومانية. هذا الحزام الذي حماها من الثورات والاضطرابات يتكوّن من طرق وحصون عسكرية ومراكز حراسة وجسور ومخازن تموين.
التراث اللامادي وحكايات لا تنضب
عندما نتحدّث عن مجالات التراث الثقافي اللامادّي التونسي، فإننا نتحدّث عن التقاليد الشفويّة وأشكال التعبير الشفويّ بما في ذلك اللغة كواسطة للتعبير عن التراث الثقافيّ اللامادّي، ونتحدّث عن الفنون وتقاليد أداء العروض والممارسات الاجتماعيّة والطقوس والاحتفالات، إضافة إلى الثقافة الغذائية التقليدية والألعاب الشعبيّة التراثيّة والمعارف والممارسات المتّصلة بالطّبيعة والكون والمهارات المرتبطة بالحرف التقليديّة، وتقسيمها العلمي حسب الباحثين في هذا المجال.
سجّلت طرق الصيد بالشرفية بجزر قرقنة على قائمة التراث اللا مادي لليونسكو، إضافة إلى الخطّ العربي، وهو ملف عربي مشترك
وسجّلت تونس على قائمة التراث العالمي اللامادي مهارات نساء "سجنان"، والتقاليد والمهارات والمعارف المتصلة بالنخلة، وهو ملف عربي مشترك، والمعارف والتقاليد المتصلة بطبق الكسكسي وهو ملف مغاربي مشترك، كما سجّلت طرق الصيد بالشرفية بجزر قرقنة على قائمة التراث اللا مادي لليونسكو، إضافة إلى الخطّ العربي، وهو ملف عربي مشترك دافعت خلاله تونس على خصوصية الخط المغاربي القيرواني كأحد روافد حضارتها.
وهنا يقول لنا الباحث معز عاشور: "نلمس هذا الثراء والتعقيد أيضا في تراثنا المادي من آثار ومعالم ومجموعات تاريخية تشهد على تعاقب الحضارات والثقافات بهذا البلد، وأيضاً في التراث ألامادي، مثل حكايات (أمك طنقو)، وعزيزة عثمان وللا منوبية والشاذلية وغيرها من الطرق الصوفية وحتى العادات اليهودية والمسيحية مثل (خرجة المادونا la Madonna)". "ويرجع هذا الثراء كما قلنا لتعاقب الثقافات والحضارات، وهذا بفضل موضع البلاد التونسية فهي مع صقلية تعتبر بوابة المتوسط والرابط بين الشرق والغرب، فمن خلال قرطاج جُلب الشرق بثقافاته وأديانه وفنونه إلى غرب المتوسط، ومن خلال الفينيقين دخلنا التاريخ بوصول الكتابة، كما تعتبر تونس أيضاً بوابة أفريقيا، واليوم هي متوسطية أفريقية عربية يطغى عليها في كل الأحوال الخصوصية المحلية. إذاً في النهاية تراثنا ثري ومتعب ومعقد".
خرجة المادونا
في كل عام من فصل الصيف يتجمّع المئات من التونسيين بمدينة حلْق الوادي، تحديداً أمام كنيسة "سان أوغستان"، حيث يُحمل مجسّم للسيدة مريم العذراء، ويجوبون به شوارع المدينة، ويقال إنه في ذلك اليوم تأتي روح العذراء لتحقق أماني أحبابها وحبيباتها.
هذه "الخرجة" يحضرها العديد من التونسيين مهما اختلفت دياناتهم، فقد أصبحت جزءاً من الموروث ومعطىً ثقافياً، وتلقيداً يعكس مدى التعايش التاريخي بين أبناء الدّيانات السّماوية في هذا البلد.
يستحقّ التراث التونسي إعادة للاعتبار من حيث هو مجال للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، ومن حيث تحقيق التوازن بين حماية الموروث من جهة وتنميته من جهة أخرى، بوصفه رصيداً متنوعاً متعدداً ثرياً يمكن اعتماده منطلقاً للابتكار والتجديد، كما يستحقّ تهيئة إطار وطني تونسي للتراث ضمن منظومة مترابطة ومتكاملة تبرز عناصر التعدد والتنوع لتكريس المقروئية المعرفية والاقتصادية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 15 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت