قبل مجيء الإسلام، كانت للعرب عادات وتقاليد أساسية تمسكوا فيها، منها ما أبقى عليه الدين الجديد ودَعَمه، ومنها ما أمر بهدمه والابتعاد عنه، ومن ذلك قوانين المواريث التي كان أحد أعمدتها الأساسية منع الصغار والنساء من هذا الحق، ولم يكن الأمر متعلقاً بالنَسَب فقط، وإنما كانت له اعتبارات أخرى.
المال لمَن يستطيع جلبه
كان هناك العديد من الأسس والقواعد للميراث في الجاهلية. ذكر هاني الطعيمات، في كتابه "فقه الأحوال الشخصية في الميراث والوصية"، أن أقواها القرابة، وهي "صلة النسب والدم بين الأشخاص، وتأتي عن طريق الولادة، وتشمل فروع الشخص (الأبناء والبنات)، وأصوله (الآباء والأمهات)، وحواشيه من الأقارب (الإخوة والأعمام وفروعهم)، وهذا سواء أكان الزواج صحيحاً أم في زنا".
ويشير الطعيمات إلى أنه نظراً لطبيعة الحياة الاقتصادية التي كان يعيشها العرب في أرض الجزيرة العربية، حيث شظف العيش وقلة الموارد، وكثرة المنازعات والحروب التي كانت تشكل بما يحصلون عليه فيها من غنائم مصدراً لمعيشتهم وثرائهم، فإنه من الطبيعي أن يكون المال عندهم لمَن يستطيع جلبه أو يساهم في اكتسابه. يقول: "كانوا لا يورثون من الأقارب إلا مَن اشتدّ عوده، وكان قادراً على أن يحوز الغنيمة، ويدافع عنها، وهم الرجال، ويقدّم منهم في الميراث الابن ثم ابن الابن، فإذا انعدما كان الميراث للأب ثم الجد، فإذا انعدما كان للأخ، وللعم ثم ابنه، وهكذا ينتقل المال إلى الأقارب الذكور".
ويتفق مع هذا الطرح جمال عطية الجندي. يقول، في كتابه "مختصر تيسير الحديث في أحكام المواريث": "اشتهر العرب في الجاهلية بالعصبية القبلية ضد القبائل الأخرى، ما أدى إلى حروب وغارات، وسلب ونهب، ولهذا السبب فإن الميراث عندهم كان للرجال القادرين على ركوب الفرس والقتال والدفاع عن القبيلة".
وفي كتابه "الميراث والهبة"، يؤكد محمد يوسف عمرو أن أساس الميراث في الجاهلية كان القدرة على حمل السيف ومقاتلة الأعداء، لذلك انحصر الإرث عندهم واقتصر على الذكور البالغين، وحُرمت منه النساء والأطفال، وكانوا يقولون: "لا يعطى المال إلا مَن قاتل على ظهور الخيل، وطاعن بالرمح، وضرب بالسيف، وحاز الغنيمة".
منع النساء والصغار من الأولاد
بناء على هذه الرؤية، حُرمت النساء والصغار من الميراث، وهو ما يؤكده هاني الطعيمات بقوله: "أما المستضعفون من الأقارب وهم النساء والصغار من الأولاد، فكانوا يُحرمون من الميراث، وكان هذا من الجاهلية تصرفاً في منتهى القسوة والجهل، لأن الورثة الضعاف من النساء والأولاد كانوا أحق بالمال من الرجال الأقوياء، فعكسوا الحكم، وأبطلوا الحكمة، فضلوا بأهوائهم وأخطأوا في آرائهم".
وفي تحليله لقواعد الميراث هذه، يلفت عطية الجندي إلى أنهم "عَدّوا منعهن (النساء) أمراً يتفق مع نسق حياتهم الاجتماعية من تحقيرهم للمرأة، والانتقاص من قدرها وحرمانها من حقوقها، ويتناسب وطرائق اكتساب المال والثروات؛ لأن أهم طرق اكتساب المال عندهم كان في الغارات والقتال، وحيازة الغنائم، وهذا الأمر لا يقوى عليه إلا البالغون من الرجال".
على الرغم من ذلك، يؤكد سيف الدين الطرفاوي، في مؤلفه "المساواة بين المرأة والرجل"، أن في حالات قليلة عند العرب قبل الإسلام كان البعض يورث الإناث ويساويهن بالذكور في النصيب.
"هناك رواية تذكر أن أول مَن جعل للبنات نصيباً من الإرث في الجاهليين هو ‘ذو المجاسد’ عامر بن جشم بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر، ورث ماله في الجاهلية، فجعل للذكر مثل حظ الانثيين، فوافق حكمه حكم الإسلام"
هذا الأمر أشار إليه أيضاً جواد علي في الجزء الخامس من كتابه "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام". يقول: "أهل الجاهلية كانوا لا يورثون الجواري ولا الصغار من الغلمان. والأخبار متضاربة في موضوع إرث المرأة والزوجة في الجاهلية، وأكثرها أنها لا ترث أصلاً، غير أن هناك روايات يُفهم منها أن الجاهليات مَن ورثن أزواجهن وذوي قرباهن، وأن عادة حرمان النساء الإرث لم تكن سنّة عامة عند جميع القبائل، ولكن كانت هناك عند قبائل دون أخرى، وما ورد في الأخبار يخص على الأكثر أهل الحجاز".
وكشف المؤلف أن "هناك رواية تذكر أن أول مَن جعل للبنات نصيباً من الإرث في الجاهليين هو ‘ذو المجاسد’ عامر بن جشم بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر، ورث ماله في الجاهلية، فجعل للذكر مثل حظ الانثيين، فوافق حكمه حكم الإسلام".
التبني أساس أصيل للميراث
عرف العرب قبل الإسلام التبني، بمعنى أن ينسب الرجل ولد غيره إليه، ومنحوا للمتبنى كل الحقوق التي للابن من النسب.
وفي هذا، يقول مؤلف كتاب "فقه الأحوال الشخصية في الميراث والوصية": "كان هذا أمراً شائعاً في المجتمعات السابقة للإسلام، بل إنه لا يزال معروفاً حتى اليوم، ومعترف به قانوناً في أكثر دول العالم، فكان طبيعياً أن يسري هذا الأمر إلى عرب الجاهلية، خاصة أنه يتفق مع نظرتهم للمال وطرق اكتسابه، حيث كان المتبني نصراً لمَن تبناه، معيناً له في حياته، ومدافعاً معه في حربه، لذا كان يتساوى مع الابن الصلبي (الحقيقي) في الحقوق، والتي منها الميراث".
ويرى الجندي أن اتخاذ العرب قبل الإسلام التبني سبباً من أسباب الميراث يتفق وينسجم مع نظرتهم للمال وطرق كسبه، وكذلك مع حياتهم الاجتماعية والسياسية، موضحاً أنه "كان المتبني نصيراً لمَن يتبناه، معيناً له إذا تاجر أو حارب، وما دام أن المتبنى صار وعُدَّ ابناً للمتبني كان له حق أن يرثه".
لكن لما جاء الإسلام أبطل التبني، وما كانت العرب ترتب عليه من أثر، بناءً على ما ورد في سورة الأحزاب: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ ۖ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}.
الحلف والمعاهدة
من العادات الشائعة بين القبائل العربية ما يسمى بـ"الحلف والمعاهدة"، واتسع الأمر حتى أصبح بين الأفراد أيضاً، بمعنى أن يأتي شخص إلى آخر، ويتعاقد معه على النصرة والموالاة، ويقول له وفقاً لهاني الطعيمات: "دمي دمك، وهدمي هدمك، ترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك".
وإذا قبل الشخص الآخر بذلك، جرى التعاقد بينهما، فإذا مات أحدهما قبل الآخر ولم يترك وارثاً قريباً انتقل الميراث إلى المحالف الحي، وأصبح هو الوارث الطبيعي لحليفه الميت.
"إذا مات الرجل وكانت له زوجة، جاء ابنه من غير هذه الزوجة، أو بعض أقاربه فصار له الحق بهذه الزوجة، يرثها كما يرث أموال الميت، فإنْ شاء تزوجها... وإنْ شاء زوّجها من إنسان آخر... وإنْ شاء ساومها على حريتها مقابل أن تترك له ما ورثته"
وذكر عبد الرازق الصنعاني، في كتابه "تفسير عبد الرازق"، عن قتادة في قول الله تعالى {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ}، قال: "هم الأولياء"، قال: "وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ"، أوضح: "كان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك، وهدمي هدمك، وترثني وأرثك، وتطلب بدمي وأطلب بدمك".
ويكشف مؤلف كتاب "الهبة والميراث" عن صيغة للتعاقد، وما يستحق لأحد المتعاقدين بعد موت صاحبه، بقوله: "يترتب على هذه المحالفة أن يرث الحي منهما الآخر إذا مات، ويكون للحي في هذه الحالة ما اشترطه من مال الميت، وإذا لم يكن هناك اتفاق أو اشتراط استحق سدس المال"، مشيراً إلى أنه "كان يُطلق على هذا السبب ميراث الدلف أو المعاقدة، وقد أبطل كل هذا بآيات المواريث في الإسلام".
زواج العضل
إلى جانب ما سبق، كان هناك ما يسمى بـ"العضل"، وهو أن يرث الابن زوجة أبيه بعد موت الأب، باعتبارها جزءاً من التركة.
يوضح مؤلف كتاب "مختصر تيسير الحديث في أحكام المواريث" أنه كان "إذا مات الرجل وكانت له زوجة، جاء ابنه من غير هذه الزوجة، أو بعض أقاربه فصار له الحق بهذه الزوجة، يرثها كما يرث أموال الميت، فإنْ شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الأول الذي أصدقها الميت، وإنْ شاء زوّجها من إنسان آخر وأخذ صداقها ولم يعطها شيئاً منه، وإنْ شاء ساومها على حريتها مقابل أن تترك له ما ورثته".
وعند تفسير أبو حيان الأندلسي في كتابه "تفسير البحر المحيط"، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً ۖ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} (سورة النساء)، ذكر أن ابن عباس وعكرمة والحسن وأبو مجلز، قالوا: "كان أولياء الميت أحق بامرأته من أهلها، إن شاؤوا تزوجها أحدهم، أو زوّجها غيرهم أو منعوها، وكان ابنه من غيرها يتزوجها، وكان ذلك في الأنصار لازماً، وفي قريش مباحاً"، كما أوضح مجاهد: "كان الابن الأكبر أحق بامرأة أبيه إذا لم يكن ولدها".
كان ذلك معروفاً باسم "زواج العضل"، وعندما جاء الإسلام أبطله أيضاً.
الوصية
عرف العرب قبل الإسلام "الوصية الاختيارية والمطلقة" أيضاً. يقول محمد يوسف عمرو: "كان الرجل في مجتمع ما قبل الإسلام يوصي بماله لمَن شاء، سواء كان من الأسرة أم لا، وبدون قيد يقيّد مقدارها، وقد جاء الإسلام وأقر الوصية للوارث وغيره، لكنه حددها بمقدار معيّن".
ويعرّف جواد علي، في الجزء الخامس من مؤلفه "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، الوصية بقوله: "هي ما أوصيت به، وسُمّيت وصية لاتصالها بأمر الميت، وذلك بأن يكتب الرجل ما يراه بشأن ما يتركه بعد وفاته، ويكون مَن يعهد إليه أمر تنفيذ ما جاء في الوصية وصياً".
ويشير إلى أنه قبل الإسلام "لم يكن صاحب الوصية مقيَّداً بقيود بالنسبة لكيفية توزيع ثروته، لأن المال ملك صاحبه وله أن يتصرف به كيف شاء، ويجوز للموصي إنْ شاء حرمان مَن يشاء من الوَرَثة الشرعيين من إرثهم، وإشراك مَن يشاء في الإرث، وله أن يوصي بإعطاء كل إرثه إلى شخص واحد، وأن يحرم من الإرث كل المستحقين الشرعيين".
وبحسب علي، يكون الابن الأكبر هو المقدَّم على سائر أولاد المتوفى، والمشرف على تقسيم الميراث، وإدارة التركة، وحمْل اسم الميت وتمثيله، ولذلك تنتقل الإمارة أو الرئاسة أو الزعامة إلى الابن الأكبر في العادة إنْ كان المتوفى أميراً أو رئيساً، وتقديمه على سائر الأبناء عادة سامية قديمة، حتى أنها تمنحه زيادة في الميراث عن بقية إخوته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 22 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.