"الداء الكبير يحتاج إلى علاجٍ كبير"، يستعير عبد المحمود عُمر، موظف حكومي سوداني مرموق؛ هذه العبارة من رواية "حفلة التيس" للبيروفي ماريو بارغاس يوسا، كمدخلٍ لتعليقه على الظروف التي يمُرُّ بها السودان منذ انقلاب البرهان 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، الذي حال عليه الحول ولا يزال عاجزاً عن تسميّة رئيس وزراء وتعيين حكومة.
عام مرّ – يضيف عمر، والسودان يختبر قدرته على البقاء كدولة، فيما تضرب الفوضى أنحاءه على جميع المستويات؛ سيولة سياسية وانهيار أمني واقتصادي واجتماعي شامل، حيث تضرب فوضى الصراعات القبلية المُصطنعة والمُدبّرة من قبل النخب العسكرية والسياسية أنحاءه من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب. فيما يصارع الشعب من أجل البقاء على قيد الحياة بسبب توقف الإنتاج وارتفاع أسعار السلع الأساسية وشُحها، وتفشي الفقر وانعدام الأمن وسيادة الخوف، وانتشار عصابات النهب المسلح المعروفة بـ"9 طويلة" داخل أحياء المدن الكبيرة، بجانب وجود نحو 5 جيوش موازية تتبع حركات التمرد المسلحة التي أبرمت اتفاق سلام مع الحكومة في جوبا؛ عاصمة جنوب السودان، في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، فضلاً عن مليشيا الدعم السريع بقيادة نائب البرهان، محمد حمدان دقلو (حميدتي).
"الأحزاب السياسية التي كانت جزءاً من نظام البشير حتى وإن لعبت دور المعارضة، سارعت إلى التفاوض مع المكونات العسكرية طمعاً في ترتيب المشهد، وأطيحت مقابل ثمن بخس"
نكاية في التيار المدني
صحيح، تمكّن قائد الجيش عبدالفتاح البرهان ونائبه حميدتي من إطاحة المدنيين عن الحكومة الانتقالية، لكنهما بعد مرور عام على انقلابهما الذي يصادف 25 أكتوبر/ تشرين الأول، عجزاً ليس فقط عن كسب الشارع الذي يتحرك في اتجاه مُعاكس لهما تماماً، بل حتى عن تشكيل حكومة من داعمي انقلابهما وفلول النظام السابق من عناصر الإخوان المسلمين المساندة لقائد الانقلاب، حيثُ أعادها إلى السلطة نكاية في التيار الثوري المدني الذي يطالب بنظام ديموقراطي ليبرالي وإعادة العسكر إلى ثكناتهم ليمارسوا وظيفتهم الأساسية في حفظ الأمن والنظام والزود عن الوطن وحماية حدوده.
وفي السياق يقرأ الباحث وأستاذ العلوم السياسة حامد نورين، المشهد الراهن في السودان ابتداءً من سقوط نظام الرئيس المخلوع عمر البشير أبريل 2019، وحلول المجلس العسكري الانتقالي مكانه، حيث بدا الأخير موالياً للنظام السابق أو امتداداً له، كما بدا في نفس الوقت في حالة من الضعف الشديد أمام الحشود الجماهيرية الضخمة التي فرضت سيطرتها التامة على العاصمة الخرطوم والشوارع المحيطة بالقيادة العامة للجيش، مروراً بالحادثة المروعة التي عرفت بمجزرة فض الاعتصام 3 يونيو/ حزيران 2019، حين هاجمت وحدات مسلحة تابعة له بمساندة ودعم كبيرين من مليشيا الدعم السريع؛ المعتصمين العُزّل أمام مقرّ القيادة العامة للجيش من أنصار الديمقراطية والدولة المدنية؛ بالأسلحة الثقيلة والخفيفة والهراوات والغاز المسيل للدموع لتفريقهم وفضهم. ما نجم عنه مقتل نحو 100 متظاهر، ومئات الجرحى والمفقودين، الأمر الذي عجّل بتسوية سياسية بين قتلة المتظاهرين (المجلس العسكري الانتقالي) بحسب وصف نورين، وقوى إعلان الحرية والتغيير. ووقع الطرفان على وثيقة دستورية بحضور دولي وإقليمي في 17 أغسطس/ آب 2019، تقضي بتقاسم السلطة الانتقالية بين الفريقين.
هرج القبائل والصوفيّة
يواصل نورين، حديثه إلى رصيف 22، قائلاً: "كانت حكومة عبد الله حمدوك التي تولت المسؤولية في 21 أغسطس/ آب 2019، مولوداً مشوهاً لتلك الشراكة، لذا سارع قائد الجيش بعد مضي عامين فقط إلى التخلص منها واعتقال أعضائها بمن فيهم رئيس الوزراء، قبل أن يُفرج عنهم تحت ضغط الشارع والمجتمع الدولي. ومنذ ذلك عجز الانقلاب عن إعلان حكومة بديلة، وقاد البلاد بعد مرور عام على استيلائه على السلطة إلى شفير الهاوية، حيث انهارت المنظومة الأمنية والصحية والتعليمية، وتم تبديد موارد البلاد في تقديم الرشى وشراء ذمم زعماء القبائل وشيوخ الطرق الصوفية، الذين يقومون بحشد منسوبيهم ومريديهم لخلق شارع موازٍ ليبدو وكأنه داعم للانقلاب. وبسبب تلك السياسات التي تبناها الانقلاب ارتفعت الأصوات الانفصالية في الشمال والشرق والغرب، وهكذا يبدو السودان وكأنه ذاهب إلى التمزق إلى دويلات هشة ذات طابع قبلي وجهوي".
فشل العسكريون المتقلبون على حلم السودانيين بوطن موحد حر، في الحفاظ على وحدة البلاد الهشة، أو تقديم مكتسبات بديلة. والوضع بعد 3 أعوام من الثورة وعام من الانقلاب بات أسوأ من كوابيس الجميع
ثلاثة عقود من الحكم الثيوقراطي الاستبدادي، أعقبتها ثورة شعبية عارمة أحدثت تحولاً درامياً في النظام السياسي وصدعاً عظيماً في القيم والعلاقات الاجتماعية الموروثة من ذلك العهد، والتي أصبحت بسببٍ من تكريسها وترسيخها في المجتمع عبر النظام التعليمي والإعلام الرسمي ومنابر المساجد والقوة القاهرة، وكأنها قواعد أخلاقية مُحافِظة، من الصعب تجاوزها والابتعاد عن مرتكزاتها بسهولة. وأهمها الخطابين الديني والقبلي اللذين ترسخا عميقاً في المجتمع ما جعل مسيرة التغيير بطيئة ومتعثرة وقابلة للتسوية والإزاحة – كما حدث عقب مجزرة فض الاعتصام يونيو/ حزيران 2019، حيث سارعت الأحزاب السياسية المتعطشة إلى السلطة إلى تسوية مع سدنة النظام السابق، ممثلين في المجلس العسكري المكون من ضباط كانوا أعضاء أُصلاء في نظام الإخوان المسلمين واللجنة الأمنية للرئيس المعزول عمر البشير، على رأسهم عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو الشهير بـ"حميدتي"، "حدث ذلك قبل أن تجف دماء شهداء الثورة الغضة، وهذا بيع رخيص بثمن بخس"، وفقاً لأماني عطا الباحثة في العلوم السياسية، التي تحدثت إلى رصيف22 من مقر إقامتها بالقاهرة.
الهجرة إلى الشمال
وفي هذا السياق، أشارت عطا إلى معلومات وصفتها بالمؤكدة، أن نحو 2 مليون سوداني استقروا في مصر منذ انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول حتى اللحظة، هروباً من الأوضاع المزرية في بلادهم، فضلاً عن 600 ألف طالب وطالبة التحقوا بالجامعات المصرية للعام الدراسي الجاري فقط، فيما لم يصل عدد الطلاب الملتحقين بالجامعات المصرية خلال العشرة أعوام المنصرمة إلى هذا الرقم الذي وصفته بالمهول.
وتتحدث عطا إلى رصيف22، عن ما سمّتها بهجرة جماعية منظمة للأسر السودانية من الطبقة الوسطى إلى مصر، طلباً للتعليم والعلاج والأمن وخدمات الماء والكهرباء والغاز، التي تتوفر بالكاد في السودان، وتشير في هذا السياق إلى تقرير صادر عن الأمم المتحدة مارس/ آذار 2022، حّذر خلاله المبعوث الأممي إلى السودان فولكر بيرتس، من انهيار اقتصادي وأمني وشيك للسودان، لمساعدة السودانيين في تجاوز عقبات المرحلة الانتقالية وأنّ الوقت ليس في صالح السودان.
نحو 2 مليون سوداني استقروا في مصر منذ انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول حتى اللحظة، هروباً من الأوضاع المزرية في بلادهم، فضلاً عن 600 ألف طالب وطالبة التحقوا بالجامعات المصرية للعام الدراسي الجاري
هذا بالضبط ما يثير القلق ويدفع بالمواطنين القادرين إلى الهجرة أو التخطيط لها، تحاجج عطا مرة أخرى بأنه في ظل عدم وجود حل سياسي للأزمة، ساءت الأوضاع الأمنية في جميع أنحاء البلاد، حيث تتصاعد معدلات الجريمة والفوضى بمتوالية هندسية، وتشتد حدة النزاعات القبلية في دارفور وشرق السودان وجنوب النيل الأزرق، ما نجم عنها حوادث قتل على الهوية العرقية ونهب وحرق للأصول والممتلكات، وتهجير لبعض الجماعات عن قراها. كل ذلك بجانب تكدس المجموعات المتمردة السابقة بسلاحها وعدتها وعديدها في العاصمة والمدن الرئيسية، بجانب القوات المسلحة ومليشيا الدعم السريع في انتظار من ينزع الفتيل أولاً لتشتعل حرباً ذات طابع جهوي وقبلي لا تبقي ولا تذر، فقد بات تدارك انزلاق السودان إلى صراع وانقسامات وحرب أهلية كما في ليبيا أو اليمن، أمر ينتظره الجميع وكأنه قدر حتمي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون