تندرج المادة في ملف "كان صرحاً من خيال... لعبة التاريخ البديل"
أيها الشعب الأبيّ الكريم
أبت إرادة الله إلا أن تحمي مليكنا المفدّى، فاروق الأول ملك مصر والسودان، وتُجنّب المملكة المصرية مصيراً يودي بها إلى المهالك. ففي فجر اليوم الأربعاء، 23 يوليو 1952، سوّلت لحفنة من أصاغر الضباط المارقين أنفسُهم أن يقامروا بانقلاب أخرق على الشرعية وممثلها الأعلى، جلالة الملك المعظم. ولكن الشعب الوفيّ أبى، وسارع منذ الصباح إلى الاحتشاد في الميادين الكبرى، مطالباً بالموت لخونة العهد، وهاتفاً بحياة جلالة الملك الذي تكرم بردّ التحية بأحسن منها، وقطع عطلته الصيفية، وعاد اليوم من إقامته بقصر التين بالإسكندرية إلى القاهرة، في القطار الملكي الذي تهادى، وقطع المسافة في بضع ساعات، والمليك يلوّح للحشود المصطفة على الجانبين.
وقد استعدّت الإذاعة اليوم ببرنامج غنائي حافل، يستعيد تراثها من الوفاء الذي حملته حناجر مطربات ومطربين جمّلوا بامتداح المليك أصواتهم. ومع هذا التراث الكلثومي والوهّابي، تجري الآن في استوديوهات الإذاعة استعدادات للبث المباشر لأغنيات جديدة فاضت بها قرائح شعراء وألهمت موسيقيين. ويمكن القول إن هذا التاريخ، 23 يوليو 1952، سيكون البداية الحقيقية والانطلاقة الميمونة لأصوات شابة، أبرزها عبد الحليم حافظ. هذا شاب صنعته المصادفة، فقد كان عازفاً لآلة الأوبوا بالإذاعة، وفي 5 مارس 1951 تخلف المطرب كارم محمود عن تسجيل أغنية "ذكريات" للشاعر محمود جبر، وألحان عبد الحميد توفيق زكي الذي جرّب عبد الحليم شبانة، وهذا اسمه آنذاك، وكسب الرهان.
عبد الحميد توفيق زكي، في برنامجه "ركن الأغاني الخفيفة" الخاص باكتشاف المواهب، واصل رهانه على عبد الحليم، ولحن له قصيدة "تهاني" التي كتبها الأديب الأستاذ محمد عبد الغني حسن، في مديح مليكنا المفدّى، وأذيعت الأغنية مساء الخميس 3 مايو 1951، ضمن برنامج خصصته الإذاعة المصرية استباقاً للاحتفال بعيد الجلوس الملكي، ومباركة زواج جلالة الملك فاروق الأول والملكة ناريمان، في السادس من مايو من العام الماضي. وفي 9 يونيو 1951 تخلى المطرب الصاعد عن لقبه القديم، وصار عبد الحليم حافظ، بعد استئذان الأستاذ حافظ عبد الوهاب. وقدم عبد الحليم، بلقبه الجديد للمرة الأولى، أغنية "شكوى"، كلمات إبراهيم رجب، وألحان كمال الطويل.
ونذكّركم بأن الأستاذ حافظ عبد الوهاب من أعمدة الإذاعة المصرية، منذ انطلاقها في 31 مايو 1934. وتشرف بتقديم دخول جلالة الملك حفلة النادي الأهلي عام 1944، وكانت أم كلثوم تغني "ليلة العيد"، حين فوجئ الحضور بقدوم الملك المحبوب حفظه الله، وأم كلثوم تغني: "وقلنا السعد حَيجينا/على قدومِك يا ليلة العيد"، فارتجلت كلمات تخاطب بها مولانا: "على قدومَك في ليلة العيد"، وبدلا من قولها في النص الأصلي الذي تعرفونه في فيلم "دنانير" عام 1940: "يعيش هارون يعيش جعفر/ ونحيي لهم ليالي العيد"، غنّت: "يعيش فاروق ويتهنّى/ ونحيي له ليالي العيد". وتعطف جلالته فمنحها نيشان الكمال، وأنعم عليها بلقب "صاحبة العصمة".
ومن أذكى ارتجالات كوكب الشرق استعارتها لنهاية أغنيتها "حبيبي يسعد أوقاته"، كلمات الأستاذ محمود بيرم التونسي وألحان الشيخ زكريا أحمد: "والليلة عيد ع الدنيا سعيد/ عزّ وتمجيد لك يا حبيبي"، فختمت بها أغنية "ليلة العيد"، مخاطبة مولانا حفظه الله: "والليلة عيد ع الدنيا سعيد/ عزّ وتمجيد لك يا مليكي". وفي استثناء نادر لأم كلثوم التي تبخل بالكلام إلا أن يكون غناء، ألقت كلمة موجزة قالت في ختامها: "أما تعطُّف جلالته حفظه الله بالإنعام السامي عليّ، فإني لا أجد من الكلمات ما أعبر به عن شعوري به، وإني أضرع إلى الله أن يمد في عمر الفاروق، ويحفظه للبلاد ذخراً وللفن نصيراً".
أغنية "ليلة العيد" من ألحان الأستاذ رياض السنباطي، وكلمات الشاعر أحمد رامي الذي كتب لأم كلثوم عدة أغنيات في مناسبات ملكية. ففي 1 مايو 1937 غنت من كلمات رامي وألحان الأستاذ محمد القصبجي قصيدة "عيد الجلوس الملكي"، وفيها تشدو: "عهد فاروق المفدّى قد تعالى/ في عهود المالكين". وفي عيد الجلوس الملكي، لحن السنباطي قصيدة للشاعر محمود حسن إسماعيل: "أفاروق أنت عزاء الوجود/ وأنت على كل قلب نشيد". واحتفل الثلاثي (رامي، السنباطي وأم كلثوم)، في 20 يناير 1938، بعيد الزفاف الملكي: "قد أمنّا في حماه/ ونهلنا من نداه/ واعتصمنا بهواه. يا سليل الملك من دار العلا/ دام فينا بيتك السامي الكريم".
وفي 20 يناير 1939 شارك الثلاثي نفسه في الاحتفال بالعيد السنوي الأول للزواج الملكي، بأغنية "ارفعي يا مصر أعلام السرور"، حيث "عرش فاروق تجلّى فأقيمي/ يا ربوع النيل أعياد الهناء". وقد حل القصبجي مكان السنباطي في تلحين قصيدة رامي "عيد الجلوس"، وقدمتها أم كلثوم في 6 مايو 1941، وتبدأ بالبشرى "لاح نور الفجر في عيد الجلوس"، لتبتهل إليه: "عشْ لنا يا فرحة الوادي/ دُمْ لنا يا نجمنا الهادي/ سعدنا في عصرك النادي". وتوالت مشاركات أم كلثوم في الأعياد، ففي 11 فبراير 1946 غنّت "حقق الفاروق للنيل خطاه"، في قصيدة كتبها مصطفى عبد الرحمن بمناسبة مولد المليك.
أما الأستاذ محمد عبد الوهاب فأسهم بقسط أقل. لا ننسى إشادته في الأغنية الوثيقة "الفن"، بأيادي المليك على الفن وأهله. الأغنية كتبها الأستاذ صالح جودت ولحنها عبد الوهاب، وشاركت في أدائها السيدة ليلى مراد في فيلم "الماضي المجهول" عام 1946. ستكون الأغنية أيقونة وشهادة على انتعاش الفنون برعاية مولانا المفدّى راعي الفنون: "الفن مين يوصفه/ إلا اللي عاش في حماه. والفن مين يعرفه/ إلا اللي هام في سماه. والفن مين أنصفه/ غير كلمة من مولاه. والفن مين شرّفه/ غير الفاروق ورعاه. إنت اللي أكرمت الفنان ورعيت فنه/ ردّيت له عزّه بعد ما كان محروم منه/ ورويت فؤاده بالألحان برضاك عنه".
عفواً أيها المستمعون الكرام. لقد وقع حدثٌ كبير. جاءنا الآن أن قوات الجيش تحاصر دار الإذاعة، وأن الأستاذ بيرم التونسي دخل الاستوديو. عزلتنا هنا، في الإذاعة منذ مساء أمس، أعجزتنا عن رؤية الحقيقة، بما في ذلك هدير المركبات في شارع الشريفين أمام مبنى الإذاعة. نجح الانقلاب والحمد لله، وحوصر فاروق الأول والأخير في قصر رأس التين، وتجري مفاوضات لمغادرته البلاد. ومعروف أن الأستاذ بيرم أطلق على الملك الراحل أحمد فؤاد صفة "تيْس التيوس"، وأن الملك عاقبه بعدما طالته هو وحريمه هجائيات منها "القرع السلطاني"، وبعد أن صار السلطان فؤاد ملكاً أتبعها بقصيدة "القرع الملوكي"، وبسببها نفي حتى موت الملك فؤاد.
لا ننسى إشادة محمد عبد الوهاب بالملك في الأغنية الوثيقة “الفن”: “الفن مين يوصفه/ إلا اللي عاش في حماه. والفن مين يعرفه/ إلا اللي هام في سماه. والفن مين أنصفه/ غير كلمة من مولاه. والفن مين شرّفه/ غير الفاروق ورعاه”... "كان صرحاً من خيال" ملف التاريخ البديل في ر22
أيها السادة المستمعون. إليكم الأستاذ بيرم:
"مرمر زماني يا زماني مرمر/ ياللي سمعتوا في الإذاعة صوتي/دي مسألة فيها حياتي وموتي/مطيّباتي كنت ولا حانوتي/في الفرح والأحزان باقوم متأجّر/يا رب تُبْت إليك وأنت الغافر/تفرح إذا آمن وتاب الكافر/أنا كنت أقول يا متقي للفاجر/ويا خليفة الله لشيخ المنسر".
أيها السادة. كانت سنوات المنفى العشرون قاسية على الأستاذ بيرم التونسي، وسعى أصدقاؤه إلى استصدار عفو ملكي، ونصحوه بمدح فاروق، فكتب في ختام إحدى قصائده: "يا فرحتي يا هنايا/رجعت في عيد جلوسه. وكل قصدي ومنايا/أفرش له خدي يدوسه. وآخد تراب السرايا/من تحت رجله أبوسه". وفي هذا اليوم السعيد، آثر الشاعر أن يعتذر شعراً، على الهواء مباشرة، ويرجو قبول الاعتذار؛ إذ اضطر إلى مدح الملك المخلوع، كشرط للموافقة على العودة من منفاه الفرنسي، وحجته آنذاك أنه مدح ملكاً شاباً قبل طغيانه. وبعد فاصل موسيقيّ، سيكون الأستاذ بيرم معنا في حديث إذاعي، اختار له عنوان "ليس على مُستكره طلاق".
* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...