مُنذ أعوامٍ عدة مضت، قرّر نظام الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير، شنّ حرب غير تقليدية على متمردي إقليم دافور، غرب البلاد. كان الجيش السوداني حينها منهكاً بحروب طويلة في جنوب السودان، الذي أعلن استقلاله لاحقاً عام 2011، وفي منطقة جنوب كردفان في الوسط الغربي للبلاد، وجنوب النيل الأزرق على مشارف الحدود الإثيوبية في الجنوب الشرقي، وبعض التمردات الأقل حدةً في الشرق، على تخوم دولة إريتريا، قبل أن تندلع حرب عنيفة في إقليم دافور في شباط/ فبراير 2003. وما كان أمام نظام الشير البائد، خياراً غير أن يستنفر العصبية القبلية، فيصوّر الأمر وكأنه حرب تشنها القبائل الإفريقية (حركتا تحرير السودان، والعدل والمساواة)، على القبائل العربية المُساكنة لها في الإقليم نفسه، فشرع في تسليحها سرّاً، ونصّب عليها زعيم قبيلة المحاميد، الشيخ موسى هلال، قائداً عسكرياً، وعُرفت لاحقاً بمليشيا الجنجويد.
الدعم السريع
لاحقاً، وبعد أن وجّهت المحكمة الجنائية الدولية اتهاماتٍ بحق هذه المليشيا القبلية، بارتكاب جرائم حرب وتطهير عرقي، وإبادة جماعية إبان الحرب، كما وجهتها إلى رئيس النظام البائد، والعشرات من أعوانه، تم إلحاقها بقوات حرس الحدود التي كانت تحت إمرة قائد القوات البرية وقتها، عبد الفتاح البرهان، الذي تعرّف حينها للمرة الأولى، على محمد حمدان دقلو الشهير بـ"حميدتي"، والذي كان عنصراً بارزاً في "الجنجويد"، لكن هذه الخطوة جوبِهت باعتراض شديد من قبل بعض ضباط الجيش. وتحت الضغط، اضطُر عمر البشير، إلى إلغاء تبعيتها لقوات حرس الحدود، وأطلق عليها اسم "قوات الدعم السريع"، ووضعها تحت إمرة جهاز الأمن والمخابرات، وقيادة حميدتي، بعد أن تم إقصاء الشيخ موسى هلال، واستدعاؤه إلى العاصمة، وإغراؤه بمنصب صوَري كمستشار للرئيس المخلوع، حتى يكون تحت المراقبة.
هكذا وجد حميدتي نفسه قد تحوّل من تاجر إبل، ومليشياوي، إلى قائد لقوات شبه نظامية، وبرتبة عميد، ولم يكلّف نفسه عناء الدراسة، ولا مشقة التدريب في الكلية الحربية، ليحصل عليها.
وفي تلك الأثناء، توطدت علاقته بعبد الفتاح البرهان، بصفته قائداً للقوات البرية السودانية التي كانت تتولى إدارة الحرب في إقليم دافور المضطرب حينها، ونسّقا العمليات العسكرية ضد المتمردين وحواضنهم الاجتماعية (القبائل ذات الأصول الإفريقية)، وقادا حملاتٍ وحشية لسحق التمرد أسفرت عن قتل ما يصل إلى 300 ألف شخص، وتشريد مليونين وسبعمئة ألف آخرين.
وجد حميدتي نفسه قد تحوّل من تاجر إبل، ومليشياوي، إلى قائد لقوات شبه نظامية، وبرتبة عميد، ولم يكلّف نفسه عناء الدراسة، ولا مشقة التدريب في الكلية الحربية، ليحصل عليها
سردية التحالف الهش
يقول العميد المتقاعد والباحث في الشؤون الأمنية والعسكرية، التوم رحمة الله، لرصيف22: لم تتوقف العلاقة بين الرجلين، حتى بعد الانحسار النسبي للعمليات العسكرية في إقليم دافور. ففي عام 2015، عملا جنباً إلى جنب في تنسيق عمليات نشر القوات السودانية ومقاتلي الدعم السريع في اليمن، للقتال إلى جانب التحالف العربي الذي تقوده السعودية، ضد المتمردين الحوثيين المتحالفين مع إيران، وتلقّت قواتهما مبالغ ضخمة من البلدين، ومكّنتهما من تأطير علاقات شخصية قوية بنافذين في السعودية والإمارات.
هذه العلاقة، ربما هي التي خلقت نوعاً من الثقة المتبادلة بينهما، إذ رفض قائد الدعم السريع تأييد وزير الدفاع عوض بن عوف، الذي تولى السلطة ليوم واحد، عقب إطاحة البشير، في نيسان/ أبريل 2019، لكنه قبل سريعاً بأن يكون نائباً لخلفه البرهان، وما يزال.
نشر البشير قوات سودانية في اليمن في العام 2015، كجزء من تحول كبير في السياسة الخارجية أدى إلى قطع الخرطوم علاقاتها الطويلة مع طهران، والانضمام إلى التحالف الذي تقوده السعودية.
خلافات مؤجلة
يؤكد رحمة الله، أن مؤشرات كثيرة تدل على أن العلاقة لن تستمر بين الرجلَين الطموحَين، وأنها مهددة بالانهيار في أي وقت، وما يجعلهما يبدوان حليفَين إستراتيجيين الآن، هو وجود من يعدّونهم أعداء مشتركين بالنسبة إليهما، إذ عليهما مجابهتهم معاً، وإخلاءهم من الساحة السياسية بأسرع ما يمكن، وعلى رأسهم الأحزاب السياسية والقوى المدنية، وقد تم تنفيذ هذه الخطوة مرتَين، فشلت الأولى عقب ارتكابهما مذبحة فض اعتصام القيادة العامة، في 3 حزيران/ يونيو 2019، إذ أعلن البرهان إلغاء الاتفاق مع قوى الحرية والتغيير، وتولّي ما كان يعرف حينها بالمجلس العسكري الانتقالي، إدارة البلاد لتسعة أشهر، ثم تنظيم انتخابات عامة، ثم انقلابه الأخير في 25 تشرين الأول/ أكتوبر المنصرم، وفي هذه التحولات السياسية كلها، وعمليات القمع، والانقلابات، لم يكن حميدتي بجانب البرهان فحسب، بل كان ساعده القوي، ويده الباطشة.
"مؤشرات كثيرة تدل على أن العلاقة لن تستمر بين الرجلَين الطموحَين، وأنها مهددة بالانهيار في أي وقت، وما يجعلهما يبدوان حليفَين إستراتيجيين الآن، هو وجود من يعدّونهم أعداء مشتركين بالنسبة إليهما، إذ عليهما مجابهتهم معاً"
أما بالنسبة إلى الخلافات بين الرجلين، فظلّت قائمةً في الخفاء، إذ لا يسمحان بتسرّبها إلى العلن، لكن كثيراً ما عبّر عنها آخرون بطرقٍ غير مباشرة، أبرزهم رئيس الوزراء المعزول، عبد الله حمدوك، الذي صرّح في حزيران/ يونيو 2021، ضمن مبادرته الطريق إلى الأمام، وأكد خلال تصريحه وجود تشظٍ في مؤسسات السلطة الانتقالية كلها، حتى بين العسكريين أنفسهم، في إشارة إلى الجيش بقيادة البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي. وأكدت الأمر نفسه وسائل إعلام محلية وأجنبية، إذ حددت قضايا وملفات عدة يشتبك فيها البرهان وحميدتي، منها انتشار قوات الدعم السريع في الخرطوم وولايات أخرى، وحركتها، فضلاً عن طريقة تسليحها، ونوع الأسلحة التي ينبغي أن تمتلكها، والصفقات الاقتصادية التي تعقدها مع عدد من الشركات الدولية، من دون علم الدولة، وكذلك العسكرية المعنية بشراء السلاح.
حميدتي بالـ"تي-شيرت"
من جانبه، يقول الباحث السياسي سامي عبد الله، لرصيف22: بطبيعة الحال، كلما تمكّن الحليفان القويّان من إخلاء الساحة السياسية والعسكرية من المنافسين المحتملين، سياسيين أو عسكريين، سيذهبان إلى ذروة التناقضات، ويقتربان أكثر من المفاصلة والاشتباك.
فالبرهان، إلى جانب طموحه الشخصي في حكم السودان، له في ذلك سردّية روحانية غريبة، فقد صرّح في لقاء تلفزيوني سابق، أن والده رأى في المنام أنه سيصبح ذا شأنٍ عظيم في السودان، وهذا النوع من السردّيات له أثر كبير على مجتمع متصوف، كالمجتمع السوداني، خاصةً أنه ينتمي إلى أسرة الشيخ الصوفي "علي الحفيان"، الذي يعتقد أهالي تلك النواحي من شمال السودان بصلاحه وكراماته، فضلاً عن أن استغلال مثل هذه القصص ليس أمراً غريباً في العمل السياسي التقليدي في السودان.
أما حميدتي، فقد عبّر أكثر من مرة، عن طموحه إلى الحكم، حتى أنه صرّح في خطبة جماهيرية قبل الانقلاب الأخير بأيام قليلة، بأنه مستعد للتخلي عن الزي العسكري، وارتداء الـ"تي-شيرت، أو الجلابية، إذا كان البعض يرون أن ليس من حق العسكريين أن يحكموا، وأن الأمر مقصور على المدنيين، وهذا يشي بطموح سلطوي فوق المعتاد، الأمر الذي يضعه في مواجهة مع حليفه، ولو بعد حين.
لكن، عليّ أن أقول بوضوح، يستطرد عبد الله، إنه لا توجد حتى الآن مؤشرات قوية على وجود خلافات جذرية بين الرجلين القويين، لكن أي قراءة استشرافية لمستقبل هذه العلاقة، لن تغفل حدوث هذه الإمكانية في أي وقت، إذ لا يوجد ضابط صغير، أو كبير، في الجيش، يقبل بهذا الوجود الفاعل لحميدتي، وقواته، وقد تعرّض البرهان مراراً إلى ضغوط من الجيش، لإعادة ترتيب الدعم السريع ودمجه تحت مظلة القوات المسلحة، والكف عن منح قائدها أداوراً لا تتناسب مع خبراته السياسية والعسكرية، إذ أصبح الرجل يلعب أدوراً تتجاوز نطاق اختصاصه الأمني، الأمر الذي من شأنه تقويض دور الجيش، وإضعافه، وهذا هو الخلاف الأبرز الذي من المرجّح أن يقصم العلاقة بين الحليفين الطموحين، فتوحيد المؤسسة العسكرية، ودمج المليشيات والحركات المسلحة المتمردة كافة فيها، يُعدّ هدفاً إستراتيجياً لعبد الفتاح البرهان، وقادة الجيش، فيما يعدّه حميدتي إقصاء له عن الفضاءات العسكرية والسياسية والاقتصادية، وتالياً نهايته. لذلك فإنه سيقاوم ذلك، حتى إذا اقتضى الأمر خوض معركة فاصلة، أو حرب لا هوادة فيها.
"كلما تمكّن الحليفان القويّان من إخلاء الساحة السياسية والعسكرية من المنافسين المحتملين، سياسيين أو عسكريين، سيذهبان إلى ذروة التناقضات، ويقتربان أكثر من المفاصلة والاشتباك"
اللعب تحت الضغط
خلال العامين المنصرمين، طرأت بعض التوترات في علاقة الرجلين، بدأت بالإفراج عن قائد حميدتي السابق، وخصمه اللدود، قائد مليشيا الجنجويد، الشيخ موسى هلال، الذي اعتقله حميدتي بعد أن خاض معه حرباً ضروساً في منطقة نفوذه العشائري في بلدة مُستريحة، في شمال دارفور، بأمر من الرئيس السابق عمر البشير، وأتى به إلى الخرطوم مُصفَّداً في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، وظل معتقلاً بأمر من حميدتي إلى أن أفرج عنه تحت ضغط سياسي وأمني في آذار/ مارس 2021، الأمر الذي فسّره مقربون من حميدتي نفسه، بأن القصد منه تقليص نفوذ الدعم السريع، وقائدها، ما جعله يرد الصاع صاعين، ويخرق قرارات البرهان بمنع أعضاء الحكومة من السفر إلى الخارج، من دون الحصول على إذن منه، فسافر إلى تركيا متحدياً حليفيه الإقليميَين (مصر والإمارات)، كونهما من يوجهان بوصلة البرهان، وعقد اتفاقيات اقتصادية مع أنقرة، لكن ما لبثت العلاقة بينهما أن عادت إلى هدوئها المصطنع، وفق تعبير عبد الله، الذي ختم إفادته محذّراً من أن أي مواجهات في الوقت الراهن، وفي ظل توازن القوى بين الجيش الحكومي والدعم السريع، ستضع نهايةً مأساويةً لوحدة البلاد، لذلك، ولأن المواجهة واقعة لا محالة، فإنني أتوقع حدوثها عندما يتمكن أحد الأطراف من إضعاف نظيره، بدرجة تُمكّنه من القضاء عليه بسهولة، ومن دون كلفةٍ باهظة. وحتى ذلك الحين، فإن السودان سيظل رهن البرهان وحميدتي، إلى أن يجد شعبه الثائر مخرجاً آمناً له.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...