إن كنت تحلم بالثراء الفاحش، فعليك التوجه إلى المغارة "الفلانية"، إذ قد تجد فيها ضالتك. أو إن كنت تحلمين بالحمل والإنجاب، فبإمكانك أيضاً التوجه إلى مغارة ما لتقدّمي طلبك أو أضحيتك، فقد يتحقق حلمك. أو إن كنت تنوي الذهاب في رحلة من دون عودة، فليس لك إلا هذه المغارة المسكونة بالجن، فهم لن يسمحوا لك بالخروج، وإن خرجت ستفقد عقلك.
هذه القصص وغيرها، ارتبطت بوعي سوريين في عدد من المناطق الريفية حيث تكثر الكهوف، وهو ما جعلها إما عرضةً للتخريب أو مقصداً للمنقّبين.
أساطير وشائعات رصدها الباحث البيئي إياد السليم، من خلال جولاته لاكتشاف وتوثيق المغاور في ريفَي اللاذقية وطرطوس، فدخل أكثر من مئة مغارة بعضها كان هو أول كائن بشريّ يدخلها، وبعضها الآخر ساهم في إنهاء عقود من القصص والخرافات التي ارتبطت بها.
تحولت المغارات في سوريا إلى موطن للأحلام والباحثين عن الكنوز ودفائن الذهب فكثرت التعديات عليها.
ويشرح السليم، لرصيف22، أنه في إحدى جولاته حاول السكان ثنيه لأن "الجن يسكنون داخل المغارة"، لكن كلامهم زاد من حماسته لخوض التجربة، وقرر الدخول بعلم السكان أنفسهم.
لفته وجود هياكل عظمية في المغارة بالفعل، ما يؤكد حقيقة موت من دخلوا إليها في السابق، لكنه فسر الأمر بطبيعة المغارة، كونها طابقيةً وفيها تعرجات كثيرة، وعلى الأغلب من دخل فيها تاه وفقد الإنارة فتعرّض لما يُسمى "رهاب المغاور"، الذي يخلق هلوسات توصل صاحبها إلى الجنون أو الموت. كما فسّر الأصوات بأنها تعود إلى حيوان "النيص"، وهو حيوان عشبي ذو أشواك طويلة يشبه القنفذ، سبق له أن عثر عليه في مغارات عدة.
وفي كل الأحوال، ينصح السليم، كل من ينوي دخول المغاور بألا يفعل ذلك بمفرده، وبأن يتزود بإضاءة احتياطية كافية تجنباً لأي موقف مفاجئ.
هل تسكن الوحوش في المغاور؟
يأسف السليم، خلال حديثه إلى رصيف22، لكمية التعديات المحيطة بالمغاور في سوريا، والتي لا تقتصر على حكايات الجن والخيال، فهي موطن للأحلام والباحثين عن الكنوز ودفائن الذهب، ولهذا رصد محاولات حفر في مغاور عدة أو تكسيراً للصواعد والنوازل، ويشرح في محاضراته دائماً أنه من غير المنطق أن يدفن أحد كنزاً في مغارة بسبب صعوبة الحفر فيها، وسهولة اكتشاف الأمر من قبل أي شخص سيدخلها لاحقاً.
كما ينظر السكان المجاورون إلى المغارة على أنها مصدر خطر إذ تأوي إليها حيوانات مفترسة، لهذا يخافون من دخولها أو يقررون إغلاق بابها، وبعض عمليات الإغلاق من الصعب إصلاحها بسبب استخدام حجارة ضخمة. ويوضح السليم، أنه من الخطأ علمياً الاعتقاد بأن المغاور موطن للحيوانات المفترسة، لأن نسبة الرطوبة والبرودة عاليتان جداً في داخلها، لا سيما تلك التي تحوي مياهاً، ويشير إلى أنه في كل جولاته عثر فقط على "النيص" سابق الذكر، وهو أيضاً لا يسكن في الأعماق، وإنما بعد مدخل المغارة بخمسة أمتار أو عشرة، فيحفر أوكاراً متداخلةً، ويسكنها للمزيد من الحماية، وبمجرد سماعه دعسات أقدام الناس يختبئ على الفور.
يأمل السليم، بأن يتشجع الكثيرون لزيارة المغاور والتعرف على ثروة مهمة تملكها البلاد، ويقول: "دخول المغارة تجربة لا تُنسى، بسبب المشاهد المذهلة من الصواعد والنوازل والتشكيلات الغريبة، كما أن مراقبة تنقيط وسيلان الماء وهو يشكل التشكيلات المذهلة، وحتى الصمت المطلق والرطوبة العالية، تجربة مميزة".
وبرأي السليم، فإن استثمار المغاور سياحياً سينعش المناطق المحيطة بها وينهي عهداً طويلاً من الخرافات والشائعات، ويسهم في نشر الوعي البيئي. وجدير ذكر أن المغارات المستثمرة في سوريا محدودة وهي أقل من العدد الفعلي بكثير.
رحلة الألف ميل لم تبدأ بخطوة
قبل سنوات، بدأ برهان حمود (41 سنةً)، وهو ناشط بيئي، بدخول مجال استكشاف المغاور وتوثيقها مع مجموعة من الناشطين في ريفَي طرطوس واللاذقية، وحلم بإنهاء عهد طويل من الاعتداءات عليها، لكنه يأسف لأن حلمه تحطّم، فكل الجهود التي بذلوها قبل سنوات عدة لم تسفر عن نتائج ملموسة على أرض الواقع، وربما ظُلمت بعض المغاور أحياناً عندما باتت قبلةً للعشرات من دون مراعاة خصوصية المكان.
دخول المغارة تجربة لا تُنسى، بسبب المشاهد المذهلة من الصواعد والنوازل والتشكيلات الغريبة، كما أن مراقبة تنقيط وسيلان الماء وهو يشكل التشكيلات المذهلة، وحتى الصمت المطلق والرطوبة العالية، تجربة مميزة
رحلة برهان مع المغاور بدأت قبل فترة طويلة. يشرح لرصيف22، أنه في طفولته كان يعاني من رهاب الأماكن المغلقة، ثم قرر تحدّي نفسه بدخول مغارة في القدموس في ريف طرطوس، وتفاجأ ولفته المنظر الجميل في داخلها، إذ إن جذور الأشجار تكلّست مع الأيام وصنعت شكلاً جميلاً. وبالرغم من صغر سنّه وجهله بقضايا المغاور والطبيعة يومها، حزن من تكسير أصدقائه لهذه الجذور كي يأخذوها زينةً لبيوتهم، وهو نوع من الاعتداءات بقي يرصده حتى اليوم في مختلف المغاور، حتى المستثمرة منها، والتي لم يخجل زوّارها من تسجيل ذكرياتهم على حجارتها.
بعد جولته هذه، تملّكته رغبة في دخول هذا العالم، وفي سجلّه الكثير من الجولات على المغاور، بعضها كان ضمن فرق مختصة. ولا يجزم برهان، بأن المغارات التي دخلوها كانت مجهولةً في المطلق، فربما سبقهم إليها السكان المحليون، ولكنه يعتقد بأنهم كانوا من أوائل من دخلوا مغارة جوعيت في ريف طرطوس، ولم يكن أحد يعرف سرّها، لأنه بعد الدخول لمسافة مئة متر فيها، هناك بحيرة تغمر الداخل إليها حتى منطقة الخصر، فيظن بأنها انتهت، ولكن الحقيقة أن لها باباً يقع تحت الماء يمكن اكتشافه من خلاله شقّ بسيط يخرج منه هواء بارد، وفيها نبع دائم الجريان يشرب منه السكان. ويتابع: "المغاور عادةً تبدأ بباب واسع ثم تظهر العقبات لكن في جوعيت كان الأمر على النقيض من ذلك تماماً، فالمدخل صعب لكن الداخل سهل نوعاً ما".
الخوف من الضباع والحيوانات المفترسة والأفاعي غريبة الشكل أساطير سمعها أيضاً برهان، ويتشارك مع السليم، في رأيه حول أن الحيوانات لا ترغب في السكن في مكان لا تعرفه، خاصةً إن كانت نهايته غير معروفة، لأنه قد يضم عدوّاً طبيعياً لها، والحيوانات عادةً تسكن في تجويف محدود ومعروفة نهايته.
أضحيات وأحلام بالغنى
من سوء حظ المغاور في سوريا، أنها ارتبطت بأحلام الغنى والبحث عن الدفائن. وحسب ما يتناقل الناس، فإن العثمانيين حين خرجوا من البلد قبل مئة عام، دفنوا كنوزهم وعلّموها بإشارات معينة، وربما استخدموا بعض المغاور لذلك، فعثر البعض عليها صدفةً، خاصةً أن الفلاحين في فترة الاحتلال الفرنسي كانوا يخبّئون الماعز في المغاور خوفاً من الرسوم العالية المفروضة عليهم.
هذه الشائعات تعرّض لها أيضاً العلماء والمختصون بالجيولوجيا خلال أبحاثهم، إذ يذكر كتاب "مكتشفات مغاور يبرود" للمؤلف ألفرد روست: "لم يتفهم السكان العرب ما نصبو إليه من خلال أبحاثنا ما قبل التاريخية، فقد تعذّر علينا إقناعهم بأننا أتينا من أوروبا للتنقيب عن قطع صوانية استخدمها إنسان ما قبل التاريخ كأدوات، لتسليط الضوء على تلك العصور. كان تصورهم الأساسي أننا نبحث عن القبور المليئة بالذهب أو بالكنوز كما صنع الآخرون قبل قرون".
من غير المنطق أن يدفن أحد كنزاً في مغارة بسبب صعوبة الحفر فيها، وسهولة اكتشاف الأمر من قبل أي شخص سيدخلها لاحقاً، ومن الخطأ الاعتقاد بأن المغاور موطن للحيوانات المفترسة، لأن نسبة الرطوبة والبرودة عاليتان جداً في داخلها، لا سيما تلك التي تحوي مياهاً
للسويداء جنوب سوريا نصيب كبير أيضاً من هذه الحكايات، ويقول ورد غرز الدين (27 عاماً)، وهو ناشط بيئي ونائب رئيس جمعية جسور خضراء (قيد التأسيس)، إن المغاور ارتبطت بتاريخ السويداء، وكانت ملجأً للكثيرين خلال رحلات التنقل والهجرة والحروب، كما أنها مكان لتخزين السلاح خلال المعارك مع العثمانيين والفرنسيين، والمؤن أيضاً.
لكن هذه المغاور تعرضت للتخريب من قبل الحالمين بالثراء، والباحثين عن ذهب اليهود أو الرومان أو العثمانيين، وأحياناً لقي البعض حتفهم بسبب هذه الحكايات والخرافات.
ولا يقتصر الأمر على البحث المنفرد كما يشرح غرز الدين، لأن البعض يستعين بمشعوذين لفك السحر، والمشعوذ عادةً يأتي بشروط معيّنة، فقد يطلب حضور نساء معيّنات أو أطفال معيّنين يقال إن "نجمهم خفيف"، إذ قد يخرجون الذهب بسبب حسن طالعهم، ولإكمال عمليات النصب يحرق المشعوذون بخوراً قد يستخدمون فيه مواد مهلوسةً تجعل الشخص يرى صوراً ويسمع أصواتاً غير موجودة، وللأسف ما زال البعض يؤمن بقصص الأضحيات والتقرّب إلى الجن من خلالها، وقد يذبحون خروفاً ويضعونه أمام إحدى المغارات كقربان.
تجربة خطرة
هوس المغاور وصل إلى فريق متخصص في الاستكشاف والتوثيق، وهو فريق "أنا السوري". يقول مؤسسه خالد نويلاتي، لرصيف22، إن استكشاف المغاور من أخطر العمليات، لوجود تهديدات كالانهيارات أو المتاهات، وما ساعدهم على دخولها امتلاكهم معدات متطورةً، لكنها في الوقت ذاته تشكل عقبات أمام تطوير عملهم بسبب ارتفاع تكاليفها.
ويشرح نويلاتي، بأن تجربتهم بدأت عن طريق الصدفة، ففي عام 2005، وخلال نشاط في ريف السويداء، تحدث أحد القرويين عن وجود مغارة كبيرة تحت الأرض، لم تدخلها إلا قلة من الأشخاص، وهي ضائعة في البادية الشرقية ومدخلها مخفيّ بين الصخور البازلتية السوداء، ولا يُعرف أين تنتهي، ووصفها القروي بأنها مرعبة لأنها مأوى للضباع والذئاب، التي تنبش القبور وتسحب الموتى إلى داخلها، ومن أخطر ما تحدثوا عنه الانهيارات والتصدعات التي تتسبب في اختفاء مدخلها.
بعد أقل من شهر من سماع هذه الرواية، قرر فريق من الجمعية البحث عن المغارة والدخول إليها، واستمرت المحاولات الفاشلة وتكررت خمس مرات، حتى نهاية عام 2010، حين تمكّن فريق مؤلف من 12 متطوعاً مجهزين بكامل المعدات الضرورية من الدخول إليها ليلاً.
استمرت من بعدها تجربة الفريق في اكتشاف المغاور، ويقول نويلاتي: "غالبية الكهوف التي دخلناها لم يكن يعلم بها أحد، وحتى على مستوى أهالي المنطقة المحيطة كانت معلوماتهم عنها بسيطةً جداً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...