منذ بدء الانهيار الاقتصادي في لبنان عام 2019، وانخفاض قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار الأمريكي، والمصاعب التي أوجدتها جائحة كورونا، أصبح السفر إلى الخارج للسياحة، صعباً على نسبة كبيرة من اللبنانيين، الأمر الذي دفع بعضهم إلى البحث عن وسائل ترفيه أخرى داخل البلد، قادرة على منحهم شعوراً بالسعادة، ومدّهم بالطاقة الإيجابية، فكانت رياضة المشي في الطبيعة، أو ما يُعرف بـ"الهايكينغ"، وهي رياضة موجودة في لبنان منذ زمن، إلا أنها لاقت رواجاً كبيراً في السنوات القليلة الماضية.
رياضة للجسد والروح
"منذ ثلاث سنوات تقريباً، كنت أعاني من إحباط شديد، وحالتي النفسية سيئة جداً، ولم أخرج من هذه الحالة سوى بعد أن بدأت بممارسة رياضة الهايكينغ"، تقول كورين شلفون، وهي فتاة لبنانية تعمل في مجال الإنتاج الفني، مشيرةً إلى أن هذه الرياضة خلقت علاقةً قويةً للغاية بينها وبين الطبيعة والكون الذي يمثّل الخالق، فأصبح إيمانها أقوى، وشعورها بالبشر أفضل، وفهمها للناس أعمق.
تضيف كورين في حديثها إلى رصيف22: "تغيّرت حياتي جذرياً وصرت إنسانةً مختلفةً تماماً، لذلك أخصص كل أسبوع نهاراً لممارسة هذه الرياضة التي أصبحت جزءاً منّي".
لاقت رياضة المشي في الطبيعة رواجاً كبيراً في لبنان في السنوات القليلة الماضية.
لم يكن هادي فولادكار، وهو شاب لبناني عشريني يعمل في مجال الإعلام، يعلم عن شغفه بالطبيعة. اكتشف الأمر للمرة الاولى عام 2017، بعد زيارته مطار بعدران في الشوف. يقول لرصيف22: "كانت تجربةً فريدةً أقوم بها للمرة الأولى، تكررت كل شهر أو شهرين، لكن عندما أمضيت ليلةً قرب نهر بسرّي، أصبحت علاقتي بالطبيعة مختلفةً، إذ حوّلني هذا النشاط إلى إنسان آخر. هي رياضة للجسد والروح، والرحلة منها تساوي ربما عشر جلسات للعلاج النفسي".
يختفي التوتر وتضيع الأفكار السوداء، بحسب هادي، مشيراً إلى أن تعلّقه بهذه الرياضة أصبح أكبر مؤخراً كونها شكلت متنفساً في ظل الوضع الاقتصادي الصعب، وهي تساهم أيضاً في التعرف على لبنان وتاريخه، وعادات أهله.
وسيلة لكسب الرزق... ولكن
ليست ممارسة المشي في الطبيعة رياضةً حديثةً في لبنان، لكن انتشارها الكبير اليوم يعود في الدرجة الأولى إلى الأزمة الاقتصادية التي بدأت عام 2019، ودفعت الشباب إلى البحث عن وسائل ترفيه محلية، وجائحة كورونا التي جعلت الطبيعة "المكان المثالي" لتمضية الوقت وممارسة الرياضة والعودة إلى الذات والتأمل، وتفريغ الشحنات السلبية، لذلك شهدت الأعوام الثلاثة الأخيرة ازدياداً في عدد الفرق التي حوّلت "الهايكيغ" من مجرد رياضة إلى مشاريع عمل تبغي الربح.
منذ 15 عاماً، بدأ أنطوني موسى بممارسة هذه الرياضة، ومنذ خمس سنوات تقريباً قرر إنشاء فريق صغير ينظّم رحلات "هايكينغ"، حمل اسم "Lebanon by nature". يشير أنطوني في حديث إلى رصيف22، إلى أن العمل بدأ من خلال الأصدقاء الذين شاهدوا ما يقوم به على وسائل التواصل، ورغبوا في خوض التجربة، وهكذا بدأ بتنظيم الرحلات.
أنطوني موسى أثناء إحدى رحلات المسير
مع وصول كورونا ارتفعت أعداد الراغبين في ممارسة هذه الرياضة، يقول موسى، مشيراً إلى أن عدد الفرق التي تعمل في هذا المجال ازدادت بشكل كبير، وتحديداً خلال العامين الماضي والجاري، ربما بسبب توسّع السوق، عادّاً أن الأزمة الاقتصادية أثّرت إيجاباً على البعض وسلباً على آخرين، إذ أصبحت الكلفة أكبر من أن يتحملها البعض.
الصعوبات التي تواجه "الهايكرز"
كثيرة هي الفِرق التي تعمل في مجال رياضة المشي في الطبيعة، وكثيرة هي الفِرق التي تُعاني من صعوبات أنتجتها الأزمة الاقتصادية الحادة التي يمر بها لبنان، وتحديداً في مجال التنقل، إذ إن الكلفة الكبيرة للمحروقات خلقت أزمتين، الأولى بحسب أنطوني موسى هي أن الأرباح انخفضت بشكل كبير، حتى وصل الأمر إلى أن يعمل البعض من دون ربح تقريباً، مع التركيز على بناء مجموعة من الزبائن تمهيداً للمستقبل. ويضيف: "إذا أردنا تحقيق المدخول السابق نفسه، علينا رفع التعرفة مرتين أو ثلاث مرات، وهذا مستحيل، لذلك نعمل وفق قاعدة ألا نربح وألا نخسر".
أما الثانية، فهي اضطرار الفرق إلى إلغاء نشاطات كانت تنوي تنظيمها بسبب عدم توفر المحروقات في الأسواق، علماً أن لبنان مرّ خلال الأشهر الماضية بفترات فُقدت فيها المحروقات، ما أدى إلى نشوء سوق سوداء كانت الأسعار فيها أكبر من أن يقدر عليها معظم اللبنانيين، ذلك بالإضافة إلى صعوبة تنظيم بعض المسارات نتيجة الاضطرابات والتظاهرات التي يشهدها لبنان بشكل متكرر في الأعوام الأخيرة.
كانت تجربةً فريدةً أقوم بها للمرة الأولى، تكررت كل شهر أو شهرين، لكن عندما أمضيت ليلةً قرب نهر بسرّي، أصبحت علاقتي بالطبيعة مختلفةً، إذ حوّلني هذا النشاط إلى إنسان آخر. هي رياضة للجسد والروح، والرحلة منها تساوي ربما عشر جلسات للعلاج النفسي
بحسب المكان المقصود يتم فرض تعرفة على الراغبين في المشاركة في الأنشطة التي تُقام على طول الجغرافيا اللبنانية وفي كل الفصول، فلكل فصل أمكنة مفضلة، ومسارات المشي منتشرة من الشمال إلى الجنوب، على الساحل وعلى الجبال، وبصعوبات مختلفة بحسب خبرة "الهايكرز" وقدرتهم، وتتراوح التعرفة حالياً بين 250 و350 ألف ليرة لبنانية، أي تقريباً ما بين 8 دولارات و12 دولاراً، وذلك يتضمن عادةً النقل والدليل السياحي.
بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة، قررت بعض المجموعات وقف الرحلات، والاكتفاء بالنشاط الفردي، خاصةً بعد أن كثُرت أزمات توافر المحروقات، وارتفعت أسعار إيجار الباصات بسبب تبدّل سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأمريكي.
هادي وكورين أثناء رحلات المسير
المحميات في لبنان مقصد للهايكرز
عام 1992، صدر القانون الرقم 121، وأُنشئت بموجبه محميتا حرش إهدن وجزيرة النخيل في شمال لبنان، وهذا التاريخ كان بداية إنشاء المحميات في البلاد، وتوالت بعدها إعلانات المحميات، ومنها محمية جبل موسى التي تُعدّ مقصداً لمحبّي رياضة المشي في الطبيعة.
واليوم في لبنان ثلاثة محميات نموذجية، واحدة منها تُعدّ محميةً حيويةً في منطقة الشرق الأوسط، هي محمية أرز الشوف في منطقة جبل لبنان، وهي الأكبر في البلاد وأكثرها غنىً بالحياة البرية، وفيها مستنقع عمّيق. ومحمية حرش إهدن التي تقع في الشمال، وهي الأكثر غنىً بالتنوع النباتي، وفيها عدد كبير من أنواع الأشجار النادرة في شرق البحر المتوسط، ومحمية جزر النخيل الطبيعية، التي تتألف من مجموعة جزر صغيرة غنية بالتنوع السمكي والطيور البحرية، مقابل مدينة طرابلس شمالاً.
بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة، قررت بعض المجموعات وقف الرحلات، والاكتفاء بالنشاط الفردي، خاصةً بعد أن كثُرت أزمات توافر المحروقات، وارتفعت أسعار إيجار الباصات بسبب تبدّل سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأمريكي
وهناك محميات أخرى لا تقل أهميةً، منها محمية شاطىء صور في الجنوب اللبناني، ومحمية أفقا الطبيعية التي تقع في محافظة كسروان جبيل، ومحمية اليمّونة الطبيعية التي تقع في البقاع، ومحمية تنّورين الطبيعية في شمال لبنان، ومحمية كرم شباط الطبيعية التي تقع في القبيّات في قضاء عكار، ومحمية بنتاعل التي في جبيل، ومحمية وادي الحجير التي تقع جنوب لبنان.
في محمية جبل موسى الطبيعية التي تقع في قضاء كسروان، وتبلغ مساحتها 65 كيلومتراً مربعاً، 15 مساراً مخصصاً لمحبّي رياضة "الهايكينغ"، يقول إيلي خليل العضو في جمعية حماية جبل موسى، مشيراً في حديث إلى رصيف22، إلى أن المحمية استقبلت في العام الماضي نحو 32 ألف زائر، كونها تشكل مقصداً مهماً لمحبي هذه الرياضة، خاصةً أن امتدادها يصل إلى سبع قرى هي يحشوش وقهمز وجورة ترمس ونهر الذهب وغبالة والعبرة وشوّان، وهي مميزة في كل الفصول، وتحديداً خلال الصيف لوجود أماكن للسباحة فيها، والشتاء بسبب وجود الثلوج.
من محمية جبل موسى
يتحدث خليل عن بعض المشكلات التي تعاني منها المحمية، مثل التعديات على الأشجار، والصيد الجائر، مشيراً إلى أن القوى الأمنية تبذل بعض الجهود لمكافحة هذه التعديات، من دون أن يكون ذلك كافياً، عادّاً أن الوعي هو السلاح الأول لمواجهة الأمر.
غابات لبنان في خطر
في كل محمية فريق أو جمعية تُدير شؤونها وتحاول الحفاظ عليها في وجه كل التعديات، وفي وجه الحرائق التي التهمت في السنوات الخمس عشرة الأخيرة، ما يزيد عن 360 مليون متر مربع من غابات لبنان، أي تقريباً ما يزيد عن ربع المساحات الخضراء فيه بقليل، وكل ذلك بسبب غياب الدولة وعدم قدرتها على مواجهة هذا الخطر كما تفعل البلدان التي تهتم بغاباتها وثرواتها الحرجية.
فمنذ العام 2017 وحتى العام 2020 فقط، خسر لبنان نحو 100 مليون متر مربع، بسبب الحرائق الضخمة التي عُدّت الأكبر في تاريخ لبنان الحديث، ليكون هذا الأمر بمثابة إعلان حالة طوارىء للمعنيين، لو أرادوا الالتفات إلى هذه الثروة التي لا تُقدّر بثمن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...