"تصبحوا على خير. منحكي بكرا"، إنها الرسالة الأخيرة التي يختم بها أحد الأصدقاء عبر مجموعة مشتركة على واتساب. هم ثلاثة أصدقاء اجتمعوا في الجامعة باختصاص "التصميم الغرافيكي" في العام 2020. إنها فترة انتقالية يعيشها جيل الشباب بعد إنتهاء "الطيش" في المرحلة الثانوية.
تشارك الأفراح والأحزان
ربيع، أيمن وليزا، لم يجدوا روابط مشتركة بين بعضهم البعض بدايةً، إلّا أنّ هذه الصداقة باتت اليوم ملجأً يتشاركون فيه أفراحهم وأحزانهم.
ربيع (19 عاماً)، من بلدة جنوبية ويسكن وحده في بيروت منذ أن بدأ مشواره الجامعي. حلم منذ صغره بالتصميم بسبب تعلّقه الكبير بمواقع التواصل الاجتماعي، "يوتيوب" بشكل خاص.
"أغمضت عيناي لأهرب من التراكمات التي أرخت بكل ثقلها على يومي، بدأت تراودني الأفكار التي تنهشني في كل ليلة، وذكرياتي التي حاولت تناسيها لسنوات عدة"
أيمن (20 عاماً)، يعيش في جبل لبنان، واختار اختصاصه الجامعي بالصدفة، فهو لم يتمكن من تحديد ما يحب فعلاً قبل الدخول الى الجامعة. وبعد استشارة بعض الأصدقاء، وجد نفسه في صفوف التصميم لأخذ شهادة جامعية، بحكم أن المجتمع يحتّم عليه ذلك.
يشعر أيمن دائماً بالوحدة، وهو شخص كتوم عادةً، نادراً ما يشارك المحيطين به ما يمرّ به.
ليزا (20 عاماً)، فلسطينية، عاشت كل حياتها في عاصمة الجنوب صيدا. تفوّقت خلال المرحلة الثانوية وحازت على أعلى المعدّلات في الامتحانات الرسمية، وحصلت على فرصة للتعلّم في اليونان، إلا أنّ الضائقة المالية التي يمرّ فيها لبنان منعتها من ذلك.
ربيع وأيمن وليزا... المصائب تجمع
"أغمضت عيناي لأهرب من التراكمات التي أرخت بكل ثقلها على يومي، بدأت تراودني الأفكار التي تنهشني في كل ليلة، وذكرياتي التي حاولت تناسيها لسنوات عدة"، هذا ما يتردّد على لسان ربيع في كل جلسة نفسيّة أسبوعية.
يتوجّه هذا الشاب صباحاً إلى موقع إخباري حيث يصمّم فيه صوراً، لكنّه في كل يوم يتأخّر حوالي الساعة عن دوامه، إذ "يتساير" مع ليزا وأيمن على "واتساب"، منفرداً في غرفته، ليخبرهما عن إنزعاجه ليلة أمس وانتظاره "ليطلع الضوّ"، ويطمئن على مشاريع ليزا وأيمن خلال اليوم، ويسألهما عن الساعة التي سيلتقون بها، فهو اعتاد على لقائهم بصورة شبه يومية، ويستاء عندما يمضى يوم من دون إقامة جلسة "الفضفضة".
يعيش ربيع صّراعاً يومياً مع عائلته، وفق ما قاله لرصيف22: "مشاكل البيت والصراخ الذي عشتهم في صغري لا يزال يرعبني، ربما أبحث عن أبي وأمّي في أصدقائي".
طالت الأزمة الاقتصادية التي يعيشها اللبنانيون أيمن، بالطبع كغيره من الشباب، إلا أنّ "كومة" أزمات تنهال عليه: "استيقاظي في كل صباح هو أتعس ما في يومي"، يقول.
الأرق الليلي ينهش أيمن لأسبابٍ لا يعلمها، ولا يزال ربيع وليزا يحاولان إقناعه باللّجوء للعلاج النفسي، إلا أنه ليس لديه قدرة مالية كافية للجلسات النفسية التي أصبحت باهظة الثمن.
يبتعد قليلاً عن والديه اللذين ينفصلان تارةً ويحاولان "ضبضبة" مشاكلهم تارةً أخرى.
الثقة التي يحاول أن يبنيها أيمن وأبويه باتت شبه مستحيلة بعد ما عاش خيبات عدة.
في طفولته، تلقّى وعداً بعودة أمّه التي أمضى معظم طفولته بعيداً عنها بسبب خلافات الوالدين بصورة مستمرة، وها هو اليوم، يبحث عن هجرة تجعله يضطلع بـ"مسؤوليته وحده"، بعيداً عن أزمات الاتصالات، والتنقل، والتعليم، والطبابة.
أزمة الجنسية
إلى جانب كل ما يعيشه ربيع وأيمن، تصحى ليزا يومياً على تشتّتها وضياعها في لبنان. في كل مرة تتقدم فيها إلى وظيفة جديدة في مجال التصميم الذي تعشقه، تُرفض وينكسر لديها الشغف مرةً تلو الأخرى. هي التي وُلدت لأب فلسطيني وأم لبنانية، تعيش أزمة هوية حقيقية كمثيلاتها.
"على قد ما بحب لبنان، على قد ما بحس حالي مهمّشة فيه"، تردّد ليزا هذه العبارة عندما يُفتح موضوع إعطاء الجنسية لأبناء الأم اللبنانية. حمل الأم للجنسية اللبنانية ليس كافياً لإعطائها للأطفال. هي قضية تطالب فيها أمّهات لبنان منذ سنوات عدة، إنما الغايات السياسية والطائفية تعيق تحقيقها. شكّلت ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر خيبة لليزا، فهي لم تترك الشارع ورأت بالثورة أملاً لها، فقد شهدت الساحات حينها مطالبات مستمرة بإنصاف مثيلات ليزا.
تصحى ليزا يومياً على تشتّتها وضياعها في لبنان. في كل مرة تتقدم فيها إلى وظيفة جديدة في مجال التصميم الذي تعشقه، تُرفض وينكسر لديها الشغف مرةً تلو الأخرى. هي التي وُلدت لأب فلسطيني وأم لبنانية، تعيش أزمة هوية حقيقية كمثيلاتها
يتشابه الأصدقاء الثلاثة كثيراً، وهم يشكّلون نموذجاً مصغّراً عن المشهد اللبناني. الجميع تأثّر بالأزمة الحياتيّة، والجميع رأى بتفجير 4 آب/أغسطس النهاية، وكلّهم في ضياع. ليزا التي لم توفر لها السلطات اللبنانية الشعور بالانتماء، تشبه أيمن وربيع الّلذين يحاولان "لملمة" فُتات الهوية اللبنانية، ويريان الهجرة المنفس المتبقي لديهما.
"شباب لبنان كُسِرَت أهدافهم وغُدروا في خضم الأزمات"
بعد المرور بمرحلة الطفولة والمراهقة ينتقل الفرد إلى مرحلة الشباب، حيث الإنتاجية وتحقيق الذات. يسعى الإنسان إلى تحقيق كل الطموحات والأحلام التي بناها في عقله منذ الصغر. تتطور هذه الشخصية في كل مرحلة عمرية، إما سلباً أو إيجاباً، بحسب تربية الأهل للطفل، فإذا كانت هذه التربية سويّة، يتكوّن لدى الإنسان مناعة وصلابة لمواجهة الأزمات التي يمر بها في حياته.
"يختلف الإنسان عن الآخر بحسب مبدأ الفروق الفردية، وبالتالي مواجهته للضغوط والأحداث تختلف بحسب طريقة تربيته وأسرته والعوامل المؤثرة فيه"، وفق ما أكدت الأستاذة الجامعية، هيلغا علاء الدين، المتخصصة في علم نفس الشخصية وعلم النفس الإيجابي.
يعني ذلك أن تفرد الشخصية، يتمثل بطريقة التصرف والتفكير والعاطفة والتفاعل الاجتماعي، إلّا أن الشباب يتشابه بالظروف التي يمر بها اليوم.
تاريخياً، لم يعش لبنان استقراراً اجتماعياً واقتصادياً لفترات طويلة منذ الاستعمارات، الاجتياحات الإسرائيلية، الحروب الأهلية، الاغتيالات وانفجار مرفأ بيروت. اليوم، ترخي الحرب الاقتصادية الباردة بثقلها على كاهل الشباب اللبناني، ومعدلات الهجرة القياسية ما هي إلا دليل ذلك، إذ تشير دراسة مرصد الأزمة، التابع للجامعة الأميركية في بيروت، إلى أنّ لبنان الذي دخل موجة الهجرة الثالثة، بات 77% من شبابه يفكرون بالهجرة أو يسعون إليها، وهي نسبة تتعدى أي نسبة مشابهة في المنطقة العربية.
تشير علاء الدين، في حديثها مع رصيف22، إلى أنّ الشباب اللبناني كُسِرَت أهدافهم وغُدروا في خضم هذه الأزمات المتتالية، فهم لا يجدون فرص عمل بسبب الانهيار والفساد المستشري، بل وأقل متطلبات الحياة يصعب عليهم تحقيقها: "يشكّل وجود وظيفة لدى الشاب الشعور بتحقيق الذات والاكتفاء النفسي والانجاز وبأن الإنسان ذو قيمة، ولا يقتصر على الاكتفاء المالي فقط"، بحسب قول علاء الدين، موضحة بأن تشابه هذه الضغوط التي يعيشها الشباب يشعرهم بأنهم من دون كرامة إنسانية ما يخلق شعوراً بالظلم أو بالذنب أو الفشل.
يتشابه الأصدقاء الثلاثة كثيراً، وهم يشكّلون نموذجاً مصغّراً عن المشهد اللبناني. الجميع تأثّر بالأزمة الحياتيّة، والجميع رأى بتفجير 4 آب/أغسطس النهاية، وكلّهم في ضياع. ليزا التي لم توفر لها السلطات اللبنانية الشعور بالانتماء، تشبه أيمن وربيع الّلذين يحاولان "لملمة" فُتات الهوية اللبنانية، ويريان الهجرة المنفس المتبقي لديهما
يتداور الشباب الثلاث على الدعوة لـ"سهرة" في بيوتهم، إذ يوفّرون من خلالها التكلفة "المدولرة" لأغلبية المقاهي والمطاعم، وتقتصر السهرات في الحانات الليلية على مرّة أو مرتين بالحدّ الأقصى في الشهر. يترافق ذلك مع تسعيرة الاتصالات الجديدة التي أطلقتها الحكومة اللبنانية مؤخراً، حيث ارتفعت تكلفتها قرابة أربع مرّات، وهو ما يمكن أن يطاول أحاديثهم على مجموعة "واتساب" الخاصة بهم.
"أتلاحظون كيف حطّموا أحلامنا، كنّا نسعى أقلّها لامتلاك سياراتنا الخاصة عند دخولنا الى الجامعة. أمّا اليوم، فبتنا ننتظر أن ينخفض سعر المحروقات لعلّ تكلفة السرفيس ترحمنا قليلاً"، هي خلاصة حديث يدور دوماً في جلسات ربيع، ليزا وأيمن.
يقارن الشباب بين توقعاتهم السابقة والظروف التي لم تفسح لهم المجال لتوظيف قدراتهم. حقيقةً، وصل اللبنانيون اليوم إلى مرحلة التبلّد الانفعالي والتأقلم السلبي مع الظروف، لا سيّما وأنّهم لم يجدوا استراتيجيات بديلة إلى حدّ الآن، ومن الصعب إيجادها في المدى القريب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...