شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
تريدين بيروت؟ هاكِ بيروت وتعايشي معها

تريدين بيروت؟ هاكِ بيروت وتعايشي معها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الخميس 4 أغسطس 202201:35 م

منذ الصغر تفتنني بيروت. كنت أعشقها وأحب أن أزورها دوماً يوم كانت خالتي تسكن فيها. لطالما كانت تعني لي الحرية والنجاح والتملّص من عبء العادات والمفاهيم العائلية الضيقة. ربما لأنني شهدت على نجاح خالتي، وعشقت حريتها وأسلوب حياتها منذ أن غادرت بلدتنا الشمالية. عشقت منزلها في محلّة السيوفي في الأشرفية. أردت أن يكون لي منزل في الأشرفية مثلها، ووظيفة في بيروت، تشغلني يومياً وأرسم من خلالها مستقبلاً واعداً.

تخيلت نفسي أتنقّل من قهوة إلى أخرى، ومن حانة إلى أخرى. في ذاك المنزل الصغير، شربت النبيذ للمرة الأولى، وشربت القهوة للمرّة الأولى. كانت خالتي تضع لي الموسيقى. هناك أيضاً، في الأشرفية، أعطتني خالتي ورقةً وقلماً، وقالت لي: "اكتبي". يومها اكتشفت أنني أحب الكتابة، فهي تعطيني شعوراً غريباً بالسعادة والرضا، وتشعرني بأنني أنجز شيئاً ما. كنت أصاب بالإحباط في يوم عودتي إلى بلدتي. يتجهم وجهي وأُضرِب عن الكلام خلال طريق العودة وخلال الأيام التي تلي عودتي.

كبرت وحملت شهادة الصحافة وذهبت بها إلى بيروت، علّني أجد وظيفة الأحلام. لا أحلام ولا من يحزنون. توظفت في إحدى شركات الإحصاءات. كان الراتب زهيداً لا يمكن أن أستأجر من خلاله منزلاً صغيراً كما كنت أحلم. استأجرت سريراً صغيراً غير مريح في إحدى الغرف المشتركة في منطقة الدكوانة. منذ الليلة الأولى، بدأت أحلام الطفولة تتلاشى، وراح يحل مكانها واقع غليظ. لم أنَم خلال الليلة الأولى؛ ضجيج لا يطاق في المنزل المشترك وفي الشارع المكتظ. خرجت إلى الشرفة: لا شيء سوى مبانٍ شاهقة وملتصقة ببعضها، حيث يمكنك أن تسمع محادثات الجيران ومشكلاتهم، لا بل يمكنك أن ترى تفاعلهم مع كل شاردة وواردة. يمكنك أيضاً مشاركتهم المكالمات الهاتفية ومشاهدة التلفاز، لا سيما البرامج السياسية اللبنانية الأقرب إلى المهرجانات المضحكة، منها إلى العمل السياسي.

لا أستطيع تحديد ما إذا كانت الإقامة والعمل في بيروت بعد 4 آب/ أغسطس، انتحاراً عاطفياً أم شجاعةً مطلقة. ألتقي يومياً بالناطور الذي فقد زوجته وبطفلة تقطن في الطابق الرابع مع أهلها، فقدت عينها في الانفجار

يكاد الهواء ينقطع. على عكس بلدتي الشمالية الصغيرة التي ترى منها البحر، وتشهد يومياً غروباً أجمل من الذي سبقه، وترى رأس الشقعة أو رأس شكّا الذي يشق البحر ويحمل جمالاً وجبروتاً لا مثيل لهما. حسمت أمري وتركت الشقة المشتركة في الدكوانة فوراً بعد الليلة الأولى، وكان ضرباً من الجنون. اخترت الذهاب والإياب من الشمال إلى بيروت يومياً. ترك الوظيفة لم يكن وارداً، حتى الراتب الزهيد وفظاظة مديري كانا بمثابة محفّز نحو مستقبل ما، ربما أقل قسوةً.

يبدأ المنبّه بالرنين المزعج عند الساعة الرابعة والنصف صباحاً. لا أستيقظ. تتريث أمي ثم تقوم عند الساعة الخامسة وتفعل فعل المنبّه الحقيقي. تذكرني بأنني سأتأخر. أنهض وأجهز نفسي بالقوة، وأخرج من منزلي عند الساعة الخامسة والثلث. أسير نحو الطريق العام. لا أحد على الطرقات سوى رجل مضطرب، يشتم يومياً السياسة الدولية وأمريكا "الشيطان الأكبر"، ويشتمني أيضاً عندما يراني ولكنه لا يزعجني. أعلم أن الحياة قست عليه.

أستقلّ نقليات بشرّي، فهي "أءمن" كما تقول أمي. ظلام، لا أحد يقوى على الحديث. يضعون التراتيل والصلوات، وأغفو إلى أن نصل إلى جونية وتتبدل الصلوات بفيروزيات الصباح. أستيقظ، وأراقب المباني نفسها، وتقريباً الوجوه نفسها يومياً. في حركة متناسقة، يرسم الجميع إشارة الصليب عندما نقطع كنيسة سيدة النجاة في الذوق. نقطع نهر الكلب، ونعلق في زحمة ضبية، ثم نصل إلى الدورة. أترجّل، وأمسك بحقيبتي وكأنها طفل صغير أخاف من أن يُسرَق مني. إنها الساعة السابعة والنصف: زحمة خانقة، ومتسولون، وبسطات، وروائح غريبة أميّز إحداها؛ إنها رائحة الفلافل، لا بل زيت الفلافل العتيق. لم يكن بنك بيبلوس مدجّجاً بالأبواب الحديدية بعد. كان الموظفون والموظفات يدخلون بأبهى الحلل صباحاً، حاملين علب الغداء الصغيرة والأنيقة. كنّا نحسدهم يومها: "موظف بنك" نقولها بحسد.

يتصارع سائقو الأجرة على الركاب وأنا واحدة منهم. أقف إلى جانب الطريق. أشعر بالقوة، وأشعر بأنني مخيّرة في هذه اللحظات، أختار السيارة التي تحلو لي، والسائق غير اللجوج. أدفع ألفَي ليرة فقط من الدورة إلى الدكوانة. كنت أعمل مع جيل حرب، جيل "شرقية" و"غربية"، وأنا لا أعرف سوى بيروت واحدة. خلال خمس سنوات، من العام 2015 وحتّى العام 2020، تنقّلت من عمل إلى آخر، ضمن نطاق الدكوانة، وسن الفيل، والدورة، وصولاً إلى الحمرا. استمر الروتين نفسه؛ مواصلات، وباصات، وسيارات أجرة، ورواتب زهيدة، ومدير أفظع من الذي سبقه، وأنا "مكانك راوح".

اختبرت بيروت الجميلة خلال انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، يوم كنا نملك الشوارع من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. ألزمني وباء كورونا منزل أمي في الشمال. ارتحت من تعب بيروت لكنني اشتقت إليها. انتظرت نهاية الحجر حتى ذهبت لأبحث عن وظيفة في بيروت. فكان لي ما أردت. وظيفة جديدة في مبنى النهار. في 13 تموز/ يوليو 2020، عدت إلى بيروت. عدت إلى الروتين نفسه؛ مواصلات، وباصات، وسيارات أجرة، ورواتب زهيدة، ومدير أقل فظاظةً من الذي سبقه.

أيقنت مع الوقت أنني لست سوى شاهدة تنقل ما ترى يومياً على شكل جمل قصيرة أو حتى كلمات، تربطها ببعضها مستعينةً بأحرف الوصل وتستخرج بذلك حقيقة واقعنا ويوميات بيروت. تريدين بيروت؟ هاك بيروت وتعايشي مع تبعاتها

أصل باكراً، وأشرب القهوة في أحد المقاهي الأجنبية، وأراقب تمثال الشهداء، وأقرأ قليلاً ثم أصعد إلى مبنى النهار. أتجول في أروقة الطبقة الخامسة حيث مكتبي. أتفحّص صور جبران تويني وسمير قصير. أقرأ عناوين الجرائد القديمة وأعود إلى مكتبي. أنصرف عند الساعة الخامسة. أتوجه سيراً نحو الجميزة. تستوقفني الغرافيتي وعبارات الثورة. أصوّرها وأتابع سيري نحو الجميزة. أصوّر المباني القديمة يومياً، كأنني لم أرَها من قبل، وكأنني لن أراها على حالها بعد اليوم. أصل إلى إحدى الحانات حيث أشرب الجعة وأتّبع الروتين المسائي نفسه: أستقل سيارة أجرة نحو الدورة، ثم أستقل باصاً وأعود أدراجي نحو الشمال. أسبوعان من الروتين اللطيف، كنت خلالهما "مكانك راوح"، ولكنني كنت راضيةً.

في 4 آب/ أغسطس 2020، شربت القهوة مع حبيبي. ربما هو الثابت الوحيد بالإضافة إلى أعراض اضطراب ما بعد الصدمة والإرهاق وتمثال الشهداء منذ ذلك اليوم. كان كل شيء روتينياً. يوم عادي جداً تماماً كالذي سبقه، لكنني لم أخرج عند الساعة الخامسة، إذ راقت لي الأجواء في المكتب يومها. بعد الساعة السادسة ببضع دقائق، انفجرت بيروت دفعةً واحدةً. ضجيج لا يوصف، وحر شديد، وظلام، وغبار، وزجاج، وعويل، ورعب، وعزلة. اختلف الروتين. دُمّرت البيوت التي كنت أصوّرها يومياً. لم يعد المقهى الذي كنت أجلس فيه صباحاً موجوداً. لم تعد الجميزة وحاناتها مكاناً مناسباً للتسكّع. لم أجد يومها سيارة أجرة تقلّني من وسط العاصمة إلى الدورة. مشيت وحذائي مهشّم بالزجاج ودماء زملائي تسيل على يدي.

بعد سنة عدت إلى بيروت. سكنت في شقة صغيرة في الأشرفية، تماماً كما أردت. لا أستطيع تحديد ما إذا كانت الإقامة والعمل في بيروت بعد 4 آب/ أغسطس، انتحاراً عاطفياً أم شجاعةً مطلقة. لا أزال أجد زجاجاً في أرجاء المنزل. ألتقي يومياً بالناطور الذي فقد زوجته. ألتقي يومياً بطفلة تقطن في الطابق الرابع مع أهلها، فقدت عينها في الانفجار. أراقب أعمال الصيانة، وأتفادى "السقالات" التي أتخيلها تهوي على رأسي. أمرّ من أمام منازل الضحايا، وأسمع أحاديث الناس في الطرقات. الحديث نفسه؛ تفاصيل 4 آب/ أغسطس. أمقت السهريات والأغاني والضوضاء وأمتعض تارةً من كل من يرتاد هذه المدينة المنكوبة للسهر لأعود وأثني على قوتنا وقوة "طائر الفينيق" الذي ينبعث من تحت الرماد، ولأعود مجدّداً وأشتم كل شيء في هذه المدينة.

ظننت أنني متشائمة. كتبت هذه السطور ومحوتها ألف مرة، ولكني أيقنت مع الوقت أنني لست سوى شاهدة تنقل ما ترى يومياً على شكل جمل قصيرة أو حتى كلمات، تربطها ببعضها مستعينةً بأحرف الوصل وتستخرج بذلك حقيقة واقعنا ويوميات بيروت. تريدين بيروت؟ هاك بيروت وتعايشي مع تبعاتها.

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image