شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"تروما" الأزمات... لبنانيون ولاجئون محكومون بأن يُنكَّل بهم بأشكال مختلفة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الاثنين 15 أغسطس 202205:19 م

الأربعاء 6 تمّوز/ يوليو 2022، قرّرت رشا أن تقضي يومها برفقة صديقاتها على أحد الشواطئ المحاذية لبيروت. كان في انتظارها لقاء غير متوقع مع الماضي، حين سمعت هدير طائرة يقترب بشكل سريع. صار الماضي حاضراً وقاسياً. "كان بدّي ياها توقف، تروح"، تقول رشا بصوت يرتجف.

"مع صوت الطائرة، عدتُ إلى حيّنا في دمشق، في تمّوز/ يوليو من العام 2012، ونحن هاربون بثياب النوم. عادت النداءات من الجوامع إلى مسمعي وهم يحذّرون الناس للابتعاد عن أطراف الطرقات والبقاء في المنتصف خوفاً من غارة محتملة". لحظة دامت أربعة أيّام طوال، قضتها رشا مع عائلتها في رحلة الهروب من دمشق إلى لبنان.

رشا (30 عاماً)، كاتبة فلسطينية سورية تعمل في المجال الإنساني وتعيش مع أفراد عائلتها في مدينة صيدا منذ لجوئهم إلى لبنان عام 2012، قررت العام الماضي (2021)، أن تتوجّه إلى العلاج النفسي، والدافع لهذه الخطوة كان إدراكها لبعض ما تحمله من رواسب الماضي وصدمة الحرب واللجوء. لكن الأزمة الاقتصادية التي ضربت لبنان حالت دون تحقيق رغبتها هذه. هي منذ ستة أشهر على لائحة الانتظار في إحدى الجمعيّات التي تؤمّن خدمات العلاج النفسي مجّاناً في صيدا. وفي حين أنّ العدد الأكبر من الجمعيّات موجود في بيروت، إلّا أنّ الأزمة تعود مجدّداً لترخي بثقلها على رشا كما على جميع المقيمين في لبنان، حيث الانقطاع الدائم للمحروقات وغلاء تكلفة المواصلات من العوامل التي تحدّ من خيارات الجميع بمن فيهم رشا، بل تجبرهم على تنازلات لا خاطر لهم فيها.

"أكيد الحرب ملاحقتني، ما توقعنا نبقى هون كلّ هالمدّة. كنّا مفكرين شهر، شهرين، ومنرجع على بيتنا". صدمة أخرى ترافق خيبة أمل شابة تسرح بخيالها في زوايا منزلها في "الست زينب": كيف كان وما آلت إليه حاله اليوم، تحاكي رفاقها الذين لم تسمح لها الحرب بوداعهم. تفكّر بحرقة في والدها العالق هناك بين القصف والمتحاربين، يخوض حربه الخاصة، من أجل لقمة العيش.

حالات الإنكار؟

يامن (29 عاماً)، ويحيى (27 عاماً)، صديقان دمشقيّان، عايشا بشاعة الحرب السورية حتى أصبحا، على حدّ تعبير يامن، لا يتأثّران بأيّ شيء: "ما في شي بينقّزنا، ما في شي بنوقّف عنده"، لكنه في الوقت نفسه يعاني من صعوبات كثيرة في تحقيق الاندماج الثقافي والاجتماعي في محيطه الجديد. وإلى اليوم تصيبه نوبات الخوف لدى رؤيته حاجزاً للجيش، وإن كان للجيش اللبناني.

يروي يامن بهدوء تفاصيل إحدى لقاءاته مع الموت في منطقة الدويلعة في دمشق، المنطقة التي تنامت لتشكّل عشوائيات تعجّ بالنازحين الهاربين من مناطق ريف دمشق حيث المعارك المحتدمة. في عيد الأم من العام 2018، وبعد إعلان دمشق وريفها منطقةً خاليةً من الإرهاب، توجّه يامن وزميله "مطمئنَّين" إلى الجامعة للمشاركة في فعاليّات تنظيمية لأحد المؤتمرات. وصلا، وكانت الثواني التي كانا خلالها يدفعان أجرة السائق هي المسافة الفاصلة بينهما وبين الصاروخ الذي سقط في شارع كشكول.

حين سمعت هدير طائرة يقترب بشكل سريع. صار الماضي حاضراً وقاسياً. "كان بدّي ياها توقف، تروح"، عدتُ إلى حيّنا في دمشق، في تمّوز/ يوليو من العام 2012، ونحن هاربون بثياب النوم خائفين من غارة محتملة

لم تنَل منهما الصدمة، فقد اعتادا على هكذا لحظات قاتلة. "هيي لحظة وحدة تأكّدنا فيها إنّو نحنا مناح ولسّاتنا عايشين". يصف يامن الشارع العابق بـ"رائحة الدماء المنبعثة من أشلاء ومن أنصاف أجساد"، وهو وصديقه، وسط هذا المشهد، يحاولان المساعدة بأيّة وسيلة. بعد هذه الحادثة بمدّة قصيرة، انتعل يامن أحذية السفر واللجوء مرغماً، وبدأ رحلته متوجّهاً إلى ماليزيا، ثمّ عاد ليستقرّ في لبنان مطلع العام 2021.

من جهته، يخبر يحيى عن أحداث الرُعب والترقب التي عاشها في حزيران/ يونيو من العام 2016، في أثناء زيارة لمنزل خالته في منطقة دوما. يراقب يحيى من مخبئه ساحة القرية بعد مداهمة الجيش للمنازل: "الجنود يجرّون صفاً طويلاً من الفتيان الذين تتراوح أعمارهم بين الرابعة عشر والثامنة عشر. وجوههم مغطاة بقمصانهم القطنية الملفوفة على رؤوسهم. يُضرَبون من خلف بالعصي وبأعقاب البنادق". يفكّر يحيى كم كان ممكناً أن يكون بينهم وهو يشاهدهم يؤخَذون بعيداً إلى المجهول. بعد مدّة قصيرة، "هرب" إلى لبنان.

في سوريا، كانت الكحول أوّل الحلول التي لجأ إليها الشابان لتحمّل جنون الواقع، ثمّ المخدرات. "نحنا ما كان فينا نصحى"، يقول يحيى. ويعقّب يامن: "ما فينا نكون طبيعيين لنتأقلم أصلاً".

صدمة انفجار بيروت

شكّل انفجار المرفأ في الرابع من آب/ أغسطس 2020، صدمةً لكل لبناني ولبنانية. تروي أميرة، وهي صيدلانية تدير إحدى الصيدليات في منطقة الأشرفية في بيروت، كيف أثّر هذا الحدث عليها. "منذ ذلك الحين، تغيّرت. صرت أقسى"، تقول وهي المصرّة على إبقاء ذكرى الرابع من آب/ أغسطس في الصيدلية: "علب أدوية وخزائن ملطخة بدماء مختلطة، لا طائفة ولا هوية ولا جنسية تفرّق بينها".

بالرغم من صلابتها في ذلك اليوم، وبقائها وهي مصابة لساعات تقدّم الإسعافات الأوّلية للمصابين وتوزّع الضمادات والمستلزمات الطبيّة، وتمسّكها بأملها بوطن دامج لمواطنيه كما اندماج الدماء على علب الأدوية، إلّا أنّ صدمة الانفجار الذي هزّ بيروت ولبنان ببشره وحجره، حفر بصماته عميقاً في نفسها وأيامها. تقول: "أشعر بتعب دائم. لا طاقة لي على القيام بأعمال المنزل. لم أكن هكذا يوماً. صرت أفضّل الجلوس في زاويتي وبجانبي كل ما أحتاجه؛ تلفوني، ودخاناتي، وفنجان النسكافيه، والشوكولا، والمعقّم. يمكنني الجلوس لخمس أو ست ساعات بلا حركة، وراسي فاضي، ما بكون عم فكّر بشي".

صرت أفضّل الجلوس في زاويتي وبجانبي كل ما أحتاجه؛ تلفوني، ودخاناتي، وفنجان النسكافيه، والشوكولا، والمعقّم. يمكنني الجلوس لخمس أو ست ساعات بلا حركة، وراسي فاضي، ما بكون عم فكّر بشي

ترى أخصّائية علم النفس العيادي ومنسّقة برنامج الدعم النفسي الاجتماعي التي تعمل في "جمعيّة الجنى" الأهليّة باسكال مراد، أنّ "حالة الرّهاب لرؤية أيّ نوع من أنواع المظاهر العسكريّة هي من أكثر الأعراض شيوعاً لاضطراب ما بعد الصدمة عند اللاجئين السوريين. والأكثر انتشاراً بين سكان لبنان عموماً هو انعدام أو صعوبة القدرة على النوم".

بالإضافة إلى عواقب الحرب واللجوء، واجه السوريون، مثل اللبنانيين، جائحة كورونا والحجر تزامناً مع الأزمة الاقتصادية واستمرار تفاقمها وانهيار العملة المحلية وارتفاع أسعار السلع الأساسية والغذائية. ثمّ انضمت إلى اللائحة أزمتا المحروقات والكهرباء وتبعهما نقص المياه ثمّ انقطاع الخبز والطحين. تعلّق مراد على تداعيات كل هذه التراكمات، قائلةً: "الفرد في لبنان غير قادر على مواكبة المتغيّرات".

غضب وحزن

تعرّف جمعيّة الطب النفسي الأمريكية اضطراب ما بعد الصدمة، بأنه اضطراب نفسي يتشكّل في الحالات التي يتعرّض فيها شخص ما لحدثٍ مؤلم يتجاوز حدود الخبرة الإنسانية المألوفة، مثل التعرّض للتعذيب، أو لعمل إرهابي، أو لحرب ونزاعات مسلّحة، أو لاغتصاب، أو التعرّض لحدث مباشر يهدّد الحياة، أو لعنف جنسي أو لإصابة خطرة. ومن أعراضه، التبلّد والانفصال عن الواقع والنسيان وردود الفعل الجسدية الحادّة وانعدام أي تصوّر للمستقبل.

وفي دراسة أجراها مركز غالوب، وشملت 138 دولةً، كان لبنان في المركز الأوّل في معدّلات الغضب (49%)، والثاني في كلٍّ من الحزن (56%)، والضغط النفسي (74%).

وتمثّل الأزمة الاقتصادية في لبنان تحدّياً كبيراً للصحّة النفسية للمواطنين، بحسب مراد، التي توضح أنّ "تتابع الأزمات يزيد من حدّة العوارض ويفاقم شعور الناس بالعجز كما الغضب، ممّا يرفع من حدّة تواتر الأفكار السلبية والسوداء والأفكار الانتحارية، ويعزّز شعور عدم الأمان واللا استقرار. الناس لم تُعطَ الوقت لاستيعاب التغييرات الجذرية التي طالت حياتهم. الفرد في لبنان في حالة قتال وهرب (fight and flight) دائمة ومنهِكة".

وأدّت الأزمة إلى تراجع نسبي في الاهتمام بالصحة النفسية، فبالنسبة إلى الغالبية، الأولوية هي لتأمين سبل المعيشة الأساسية وبخاصة الغذاء. تقول مراد: "نواجه الكثير من الحالات التي تحتاج إلى متابعة نفسية، خصوصاً في ما يتعلّق باضطراب ما بعد الصدمة، لدى جميع الشرائح، سوريين ولبنانيين، إلّا أنّ المطلب الأوّل هو تأمين الغذاء".

بدورها، الجمعيّات التي تقدّم خدمات العلاج النفسي تعاني من ظروف قاسية. فبغياب نظام صحيّ اجتماعي ونفسي ترعاه الدولة وتموّله، يقع الحمل كاملاً على الجمعيّات المحلية والدولية العاملة في لبنان، ممّا يزيد من طول لوائح الانتظار التي تُدرج عليها أسماء المرضى والتي تمتدّ أحياناً لشهور، وفقاً لمراد.

جلسات الدعم النفسي الجماعية تنمّي حسّ المشاركة مع الآخر، وتساهم في خروج الفرد من وحدة المشاعر حيث يدرك أنّ آخرين يتشاركون معه التجربة نفسها. وتساهم في خلق خليّة مجتمعيّة تغذّي نفسها وتتماسك بتماسك أفرادها

وفيما تقاسي الجمعيّات من نقص حادّ في التمويل ولوائح انتظار طويلة، تستمرّ كلفة العلاج النفسي في العيادات الخاصة في الارتفاع مع انخفاض قيمة العملة المحلية مقابل الدولار الأمريكي، إذ أصبحت تتراوح بين الـ300 ألف والـ600 ألف ليرة لبنانية للجلسة الواحدة، أي أنّ كلفة جلستين تعادل أو تفوق الحدّ الأدنى للأجور البالغ 600 ألف ليرة لبنانية. أمّا الزيارة الواحدة للطبيب النفسي فكلفتها تصل إلى أكثر من مليون ليرة لبنانية.

وفي ما يخص الأدوية المعالِجة للأمراض النفسية، مثل مضادات الاكتئاب، فهي مدعومة بشكل جزئي ومهدّدة برفع الدعم عنها بشكل كامل. وترصد الصيدلانية أميرة، أثر هذه التحدّيات على زبائنها، إذ تصف توترهم وخوفهم الدائمين في ظلّ انقطاع الكثير من الأدوية، كما أنّ الكثيرين الآن صرفوا انتباههم عن العلاجات النفسية في ظلّ أزمة أدوية الأمراض المستعصية: "في عندهم همّ أكبر. علبة الإنسولين كانت بـ80 ألف ليرة، صارت بملايين ومقطوعة كلياً من السوق".

حلول من وحي الألم

بالرغم من التحدّيات الاقتصادية والاجتماعية، إلّا أنّ الوعي الفردي هو عامل أساسي في المضيّ من حالة الصدمة إلى التعافي. "التقبّل وطلب المساعدة، مع الوقت والحركة، يمكنهما أن يكونا الحلّ"، كما تؤكّد مراد، وهي تشيد بتميّز اللاجئين السوريين بصلابة نفسية ومرونة عالية في التأقلم: "لديهم قدرة عالية على استيعاب هول ما عانوا وما يعانون، وتقبّله للمضيّ قدماً. هذه الخاصيّة نجدها بقدر أقل بين اللبنانيين، وخاصةً بعد انفجار المرفأ".

وتشير إلى أنّ "جلسات العلاج النفسي ليست الخيار الوحيد، فجلسات الدعم النفسي الجماعية لها أهمية وفعالية إذ تنمّي حسّ المشاركة مع الآخر، وتساهم في خروج الفرد من وحدة المشاعر حيث يدرك أنّ آخرين يتشاركون معه التجربة نفسها. وتساهم هذه الجلسات في خلق خليّة مجتمعيّة تغذّي نفسها وتتماسك بتماسك أفرادها، الأمر الذي يساعد في عملية الاندماج للاجئين وتعزيز حصانة المجتمع المضيف، وهذه الجلسات لا تتضمّن فقط الحديث عن الصدمات، فهي مساحة لنتشارك فيها الذكريات السعيدة أيضاً".

حين يجد الإنسان أنّ مصيره أن يعاني، فعليه أن يقبل معاناته على أنها مهمته الفردية والفريدة. وسوف يكون عليه أن يعترف بحقيقة أنه وحيد وفريد في الكون حتى في معاناته

وتشدّد مراد على أهمية "التركيز على المعنى"، مستحضرةً قصة شخص كان يعمل في الإغاثة في سوريا وتمّ اعتقاله فعانى الأهوال، وانتهى به المطاف لاجئاً في لبنان، مكملاً عمله في الإغاثة: "هو يرى معاناته كثمن بسيط في سبيل إكمال رسالته ممّا زاده تصميماً على العمل الإنساني، فالمعنى الذي نعطيه لخساراتنا خاص وفريد ومنقذ للنفوس".

يقول فيكتور فرانكل، في كتابه "الإنسان والبحث عن المعنى": "حين يجد الإنسان أنّ مصيره أن يعاني، فعليه أن يقبل معاناته على أنها مهمته الفردية والفريدة. وسوف يكون عليه أن يعترف بحقيقة أنه وحيد وفريد في الكون حتى في معاناته". قناعة قد تنسحب أيضاً على الشعوب، فهل من علاجٍ جماعي ودواءٍ ناجع لأوجاع النفوس الشاردة على قارعة الأوطان والأوجاع؟

في ما يلي لائحة لروابط وأرقام هواتف عائدة لجمعيّات تقدّم خدمات العلاج والدعم النفسي بالمجان أو لقاء مبلغ رمزي للّاجئين وللّبنانيين:

جمعية الجنى http://al-jana.org – رقم الهاتف: 01819970

مركز ريستارت Restart Center http://restartcenter.com/restartcenter – رقم الهاتف: 71208487

جمعية غمرة Embrace Lebanon https://embracelebanon.org – رقم الهاتف: 01341941

Blue Mission http://bluemission.org – رقم الهاتف: 07732636

قرية النجاة لحماية ومعالجة الطفل Al Najat Village https://www.facebook.com/Al.Najat – رقم الهاتف: 81229670


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image