شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
عن المرأة التي تتحدث عنها نانسي عجرم وثقافة الانكسار

عن المرأة التي تتحدث عنها نانسي عجرم وثقافة الانكسار

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 2 نوفمبر 202211:51 ص

يقف رجل بثياب ممزّقة وجسد متسلّخ، تفوح منه رائحة لا تحتمل، ويبكي ويشتم. يحدث ذلك في وضح النهار في قلب بيروت. نسخ كثيرة منه تنتشر في كل زاوية. جميع أبناء هذا المشهد يبدون وكأنهم يحاولون التحدث، ولكنّهم يصطدمون باستحالة التعبير فيعودون إلى منطقة هلاميّة خاصة وغامضة، ويطلقون أصواتاً ليست سوى سلسلة لا تنتهي من الاحتضارات.

الأحوال الممنوعة من التعبير تنتقم. تراكُمُها وكثافتها يمنعها من أن تكون هامشاً يمكن التحايل عليه وإحالته إلى النسيان والتجاهل، بل باتت متناً يصفنا ويمثلنا. تجاهلها يعني الافتراق التام عن الذات وأحوالها، واصطناع ذات مغايرة كاملة التزييف لا تتّصل بنا بأيّ شكل من الأشكال.

أوهام صناعة المصائر

يقول لنا نجم التنمية البشريّة على صفحته التي تضمّ ملايين المتابعين وتدرّ عليه أرباحاً ضخمة إنّك مسؤول عن حياتك، و قادر على الإمساك بمصيرك وصناعته وإدارته على النحو الّذي تشتهيه وتتمناه إذا ما اتّبعت سلسلة معيّنة من الإرشادات والتوجيهات.

يقنعنا نجم أسرار الطاقات وخبيرها أنّ باب الثروة والمجد مفتوح أمامنا، وليس علينا سوى تنظيف هالاتنا، وتلاوة بعض التعاويذ والقراءات، والقيام بتمارين التنفّس بشكل معين، وسنجد أنفسنا أمام الثروة والحظ والرزق والنجاح. يحدث كلّ ذلك في بلاد تفتقر لأدنى مقومات العيش، ولكنها تقدّم هذا المحو شبه التام لشروط العيش التي تنمو الثقافة تحت ظلالها ومن قلبها بوصفه ثقافة انتصار.

الدفاع عن ضرورة التعبير الثقافي عن الانكسارات والهزائم إنما هو في الواقع دفاعٌ مشروع عن حياة تُصادَر منها معالمها، وتستبدل بأنماط متصلة من تزييف عميق بات قادراً على إعادة تأليف كلّ شيء

لا خارج ممكنا في ظل سيطرة هذه الثقافة التي تعمل على نفي المسؤوليات عن التسبب بالكوارث، وتقيم مسافة بين الناس والأوضاع عبرخلق سياقات ثقافيّة تحول الناس إلى كائنات منفصلة عن الواقع، وتعمل على تحويل أي تعبير ينحاز إلى الثقافة الأنتي انتصاريّة إلى حديث لا يمكن ترجمته إلى لغة واضحة المعالم.

نتركه يتعفن في العزلات، ويتخذ هيئة خطاب مبهم لا يتوجه إلى أحد. يتم طرده بعنف من دائرة النطق باسم ثقافة البلد، بينما تنتشر في الوقت نفسه سلاسلُ خطابات تتماهى مع مفاهيم الانتصار وأوهام صناعة السعادة وتعيد إنتاجها بشكل أو بآخر، جاعلة بذلك المسافة بين حقيقة ما يعتمل في النفوس من انكسارات حادة، وبين الفضاء العام تتوسع إلى حدود لا يمكن تخيلها.

نانسي عجرم لن تكون مطربتي إنها ببساطة، وسواءً غنت ما تغنيه عن جهل أو غباء أو استسهال، هي عدوي الثقافي

النغمة الانتصاريّة ليست متصلة بالعقلنة، بل بالوقاحة الاحتفاليّة والبذاءة العنيفة، وكأنّ من يقف وراءها لا يريد الالتفات إلى شيء، بل الإقامة الدائمة في لحظتها وتطويلها وفلشها على امتداد تاريخ البلاد وحاضرها ومستقبلها.

النتاج الثقافي الذي يصدر تحت ظلال هذه الثقافة يخرج مسكوناً بالعنف والبلاهة. يمكن ملاحظة أمرٍ على قدر كبير من الأهميّة والدلالة، وهو فقدان عناصر الانسجام والتآلف الناتجة عن سيطرة منطق الاستسهال والتسرع، بوصفه قيمةً مرغوبةً وحاسمةً، كما هو حال السكّر والمربّى في أغنية وائل كفوري.

نجوم هذه المرحلة ليسوا معنيّين بالنطق بلسان الناس، ولا التعبير عن رغباتهم بل بمعاداتهم. إنهم ضباط إيقاع الرداءة الذين يزينون درب الصمت باللّغو الكثير المتماهي مع السلطات، والباني لمنطقها وخطابها.

في مثال واضح على شيوع هذا النزوع تنادي كلمات أغنية نانسي عجرم الجديدة المرأةَ وتحضّها على الخضوع، في الوقت الّذي تخوض فيه المرأة في كلّ المنطقة معركة الحريات والكرامة. كذلك لم تجد المغنيّة حقلاً دلاليّاّ ينسجم مع مقاصدها سوى عبارات السفاح والسلاح. توظّف كلّّ غنجِها ودلالها في مشروع تحويل الرعب إلى دلع، ويصبح بذلك مألوفاً وأليفاً.

رافضو منطق الأغنية سيجدون أنفسهم أفراداً معزولين يواجهون منظومة متماسكة من ملايين الفانزات الذين تحوّلوا إلى نوع جديد من الجيوش، تكْمن مهمّتهم في الدفاع المستميت عن حدود ثقافة امتداح العنف وشرعنتها، بينما يدفن الناس كلامهم في الصدور والسرائر، أو يطلقونه في فضاء لا يتيح له التماسك، فيتبدد، ويتحول إلى صمت قاتل.

الانكسار أملاً

الدفاع عن ضرورة التعبير الثقافي عن الانكسارات والهزائم إنما هو في الواقع دفاعٌ مشروع عن حياة تُصادَر منها معالمها، وتستبدل بأنماط متصلة من تزييف عميق بات قادراً على إعادة تأليف كلّ شيء، من علاقتنا بالمكان إلى طريقة تفاعلنا مع الأحداث، وكيفية تعاطينا مع أنفسنا وتمثّلنا للثقافة، والسياسة، والفن، وأشكال التعبير.

الانكسار ليس هزيمةً، والتعبير عن الأحوال الفعليّة ليس تماهياً معها، ولا يصب في خدمة شرعنتها، بل العكس هو الصحيح. نحتاج إلى أن نكون أنفسنا، وأن نكتبها ونرسمها ونغنيها وأن نصفها ببساطة، كي لا نسمح لمنع التعبير أن يصبح ناطقاً باسمنا وقادراً على توصيفنا واختصارنا

نحن مهزومون، ومفلسون ويائسون، نفرّ من البلاد المتخمة بالانتصارات في قوارب هشة لا تقود سوى إلى موت أكيد، ولكنّنا نركبها على الرغم من ذلك، لأننا نعتبر أنّ أيّ مكان في العالم يمكنه أن يحمل من معالم الحياة أكثر مما يحمله البلد الذي صار موتاً خالصاً.

كل ذلك الواقع الفظّ والمشحون بالدلالات لم ينجح في فرضِ نفسه على النتاج الثقافي، فلا زال البلد ينتج كلمات أغانٍ تستحضر السفاحين والسلاح، ويستقبل أغاني البذاءة الخالصة، ويحتفي بالانتصارات التي لا تقبل إلا أن تكون مطلقة وعالميّة.

حياتنا تقع وتجري خارج الثقافة العامة التي يسوقها البلد. لا مفرّ أمامنا سوى الدفع بها إلى الواجهة عبر الإصرار على إنتاج ثقافة تعيد تمثيل الواقع وتدافع عنه.

من هنا لا بد أن ننظر إلى أيّ منتج يتماهى مع ثقافة الانتصار بوصفه اعتداءً صريحاً على الناس لا يمكن أن يعكس الحرية وإلإبداع.

أمام واقع يفوق الخيال ماذا يمكن أن نتخيل؟

للأحداث الكبرى وظيفة إحالة الخيال إلى التقاعد ووضعه أمام محدوديّته وهشاشته. لذا فإنه حين يُستحضر إزاءها لا يكون على قيد الحياة، بل مجرد جثة. لا نفهم لماذا يبذل جلُّ منتجي الثقافة في لبنان حاليّاً جهداً ممحموماً في الدفع بمثل هذه الجثة إلى الواجهة ما لم يكن الأمر حرباً مفتوحة ضدّ واقع الناس وثقافتهم.

نحن مهزومون، ومفلسون ويائسون، نفرّ من البلاد المتخمة بالانتصارات في قوارب هشة لا تقود سوى إلى موت أكيد، ولكنّنا نركبها على الرغم من ذلك لأننا نعتبر أنّ أيّ مكان في العالم يمكنه أن يحمل من معالم الحياة أكثر مما يحمله البلد الذي صار موتاً خالصاً

لماذا لا ينزل الرّسامون إلى شارع الحمراء وغيره من شوارع البلد، ويرسمون وجوه الناس أو الأمكنة، ويبرزون حجم التحولات الضخمة التي حلت بها.

ولماذا لا يغني لنا أحد على الرغم من غزارة المطربين. رجلُ نانسي عجرم يحمل ملامحَ قاتلي، ولا تهمّني حبيبةً مثل تلك التي تروّج لها، فهي لا تشبه النساء اللواتي يصنعن الحياة والحبّ والأمل في البلد والمنطقة. إنها امرأة تحتفي بالقمع، ومن واجبنا طردها من الأغاني والكلام، واستبدالها بالنساء الثائرات اللواتي يتصدرن مشهد الرفض، ويمهّدن بالدماء والتضحيات للخروج من زمن الملالي الّذي يجثم على صدورنا في كلّ المنطقة.

نانسي عجرم لن تكون مطربتي إنها ببساطة، وسواءً غنت ما تغنيه عن جهل أو غباء أو استسهال، عدوي الثقافي الذي يجب عليّ العمل على إخراجه من المشهد؟

الانكسار ليس هزيمةً، والتعبيرعن الأحوال الفعليّة ليس تماهياً معها، ولا يصب في خدمة شرعنتها، بل العكس هو الصحيح. نحتاج إلى أن نكون أنفسنا، وأن نكتبها ونرسمها ونغنيها وأن نصفها ببساطة، كي لا نسمح لمنع التعبير أن يصبح ناطقاً باسمنا وقادراً على توصيفنا واختصارنا.

الأنثويّة خياراً ثقافيّاً

قد نكون في هذه الفترة أمام فرصة ثقافية لامعة، تتجلى في الانحياز المفتوح للثقافة الأنثويّة بما تحمله من عناصر الانفتاح والاحتواء والاحتضان والتفاهم ورفض الحروب في مقابل هيمنة ثقافة ذكوريّة تعزّز الصراعات والنزاعات، وتفكّك التواصل وتبحث بشكل دائم عن مراكمة السلطات.

في الأنثويّة يتكثّف الإنساني بمعناه الرحب، ولعلّ نضالات النساء في المنطقة، وما يتعرضن له من قمع في الميادين كافة، وبشكل خاص في الميدان الثقافي، ما يشجع على الانحياز لمثل هذه الثقافة وتبنيها، لأنّها، وهي تعبر عن انكساراتها، تخاطب العالمَ بلغةٍ يفهمها وتتصل به، وتشكّل التناقض الراديكالي الحاسم مع ثقافة الإرهاب بكلِّ أشكاله المباشرة وغير المباشرة.

كلّ ثقافة الإرهاب تقوم على البحث عن ديمومة الصراعات والحروب وعلى سحب المنزل بوصفه مكان الألفة وساحة الحميم والأليف من التداول، بينما تقوم الثقافة الأنثوية بتعزيز ثقافة العودة إلى المنزل بما يعنيه ذلك من بحث عن الراحة والأمان وتعزيزهما ورفض الحرب والموت والخراب.

الإرهاب يريد أن يجعلنا غرباء، بينما تحرص الثقافة الأنثوية على أن تجعلنا أهلاً وأحباباً. في التناقض الحاسم بين هذين البعدين تتجلى آلية صناعة الثقافة في بلادنا، ومدى صدورها عن مخيلة إرهابيّة مقابل وضوح سبُل الرفض والانحيازات الضروريّة.

ليس من قبيل الصدفة حرص كافة التيارات في لبنان والمنطقة على إخراج المرأة من دائرة التأثير والفعالية، والدفع بالثقافة المضادة لها إلى واجهة المشهد خطاباً وسلوكاً ونتاجاً معرفيّاً وثقافيّاً.

صوت المرأة في تعبيره عن الانكسار يدافع عن احتمال الأمل و يقول للمحاربين عودوا إلى البيوت. الثقافة التي يتبناها ويدافع عنها تطرد القتلة وتستحضر الرقة والألفة، إنها بنية لقاء وتفاهم وانسجام وأناقة، بينما نحيا الآن في زمن فظاظة وديع الشيخ وشتائم سارية السواس وجعيرها الذي كرسته ثقافات الإرهاب المتنامية بوصفه الغناءَ الّذي يتماهى مع اقتلاع الحناجر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image