شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
الأزمة التي حوّلت اللّغة إلى صراخ

الأزمة التي حوّلت اللّغة إلى صراخ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 16 سبتمبر 202211:23 ص

يقول رئيس الجمهورية اللبنانيّة في تصريحٍ حديثٍ له إنّه سيغادر القصر في الموعد الدستوري لنهاية ولايته إذا كان ذلك اليوم يوماً طبيعيّاً. المفردة في معناها الاصطلاحي تحمل دلالةَ العادي والمألوف، ويمكن تفسيرها بالتضاد مع المصنّع والمزيّف. شبكة المعاني المتوافق عليها والثابتة عبر تاريخ طويل من التّراكم والاستعمال لم تستطع أن تجعل كلامَ الرئيس مفهوماَ لعموم اللبنانيين. بدا وكأنّه قد اخترع لغةً خاصةً به للتوّ، لم يسبق لأحد أن نجح في تفسير رموزها ودلالاتها، أو أنّه ركَن إلى لغةٍ سحيقة كانت موجودة في يوم من الأيام، ومفرداتها لا يمكن أن تنتظم في معنى واضح ومحدد.

تفكيك دلالة اللغة وإخراجها من دائرة إنتاج التخاطب والحوار أحال كلَّ ما يقال في البلد من كلام إلى طلاسم، وجعل التفاهم بين السياسيين والناس مستحيلاً، وكذلك التفاهم بين الناس وأقرانهم.

لم يقتصر ذلك الانحطاط العام الذي ضرب اللغة على مجالٍ محدد بل بات أشبه بتسوماني جرف كلّ ما راكمه البلد من تاريخ ومن ثقافة، وحوّله إلى ركام صوتي يعلن أنّ اللغة قد ماتت في هذا البلد، وتم استبدالها بالإشارات والترميزات البدائيّة ما قبل اللغويّة.

لا يخفى على أحد ما يحمله هذا الواقع من دلالة على زمن البلد، وخصوصاً أنّه طالما كان بلداً لغويّاً بامتياز. مكانته كانت ترتبط على الدوام بإنتاج اللغة.

كلُّ أوهامه وأساطيره، واقعه وأحلامه، كانت محمولة على أجنحة لغةٍ كانت تطير وتحطّ، وتعتمد المبالغة، أو تركن إلى القسوة، أو تذوب في اللين والرخاوة، ولكنّها في كلّ أطوارها كانت تصنع وطناً قابلاً للنقاش والنموّ والحوار.

بدا وكأنّ الرئيس اللبناني اخترع لغةً خاصةً به، لم يسبق لأحد أن نجح في تفسير رموزها ودلالاتها، أو أنّه ركن إلى لغة سحيقة كانت موجودة في يوم من الأيام، ومفرداتها لا يمكن أن تنتظم في معنى واضح ومحدد

يأتي ضياعها وتبدُّدُها الآن ليقول إنّ البلد لم يعد قابلاً لإنتاج نفسه أو تسويق أساطيره وبيعها. الخراب الذي حلّ فيه والذي يجد تمظهره الأكثر ضراوةً في تفكيك اللغةِ صار الحقيقةَ الصلبةَ التي لا تقبل التزويرَ ولا التأويل.

الشّتيمة من الثّورة إلى اليأس

راجت إبّان ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر عام 2019 شتيمة السلطات، وكان نشيد الـ"هيلا هو" الذي طبع خطابَ تلك الثورة محاولةً لدفع اللغة إلى أقصاها وتحميلها ببُنى الرفضِ والاحتقار.

ذلك التواطؤ العام حول الشتيمة جعلها مالكةً لمعنى متماسكٍ وصلب، ولا يمكن اللّعبُ به، ولا إعادة تعريفة أو تزويره. ما أن تُطلق هذه الشتيمة السحريّة حتى يحضر معناها كاملاً ومكتملاً، ويُحضر معه كلَّ الجماهير بمطالبِها وصخبها.

يقول رئيس الجمهورية اللبنانيّة في تصريحٍ حديثٍ له إنّه سيغادر القصر في الموعد الدستوري لنهاية ولايته إذا كان ذلك اليوم يوما طبيعيّاً

أيّ فرد كان يستطيع عبرها أن يكون جزءاً من جماعة، وتالياً فإنّ البنية التعبيريّة التي خلقتها كانت تتصل بالاجتماع والتفاهم، وتعزّز روحَ التعارف والتعاون، وكانت تبثّ فكرةً عن العام والجامع، وتدافع عنهما.

هزيمة الثورة دمّرت ذلك الطابع الوظيفي للشتيمة، وجعلتها مجرّد تعبيرٍ عن اليأس. انحدر الشأن العام، وباتت السلطات، وتحت تأثير الإحساس بنشوة الانتصار، تشعر أنها قادرة على إنتاج خطابٍ يسفّه الجماهيرُ عموماً.

لم يعد أحدٌ من أصحاب السلطة يشعر أنّه بحاجة إلى التخاطب مع الجمهور. ماتت فكرةُ الجمهور، وحلّ مكانها تجمع المؤمنين الذين يشكل غيابُ التفكير شرطَ وجودهم.

بذلك بدا وكأنّ الحاجة إلى اللغة لناحية كونِها بنيةَ إنتاجِ معانٍ وأفكارٍ قد انتفت. فلجأت السلطة إلى الأسطرة ونشر الخرافات عبر خطابات ليست سوى هذيانٍ يتمّ استقباله بلا نقاش.

نشأ، انطلاقاً من هذا الواقع، اجتماعٌ جديد لا يتلقى ناسُه الخطابَ من قادتهم، ولا يسمعونه أساساً، لأنهم مؤمنون به سلفاً. وتالياً فإنّ التواصل غير ضروري كونه يستوجب نقاشاً يخالف في طبيعته شروطَ الإيمان والتسليم والخضوع.

لعل الاحتقار الذي يصف علاقةَ السلطات والأحزاب بجماهيرها جعلت من انعدامِ التواصل شكلاً نهائيّاً للولاء.

حشد المؤمنين لا يسمع الزعيمَ، ولكنه مستعدّ للموت في سبيله. لا يلتقط معنى، بل يستقبل المعجزاتِ والخوارق، أو يدافع عن مظلوميّة، وفي كلّ ذلك يحضر الاستعداد للقتل والموت كعاملٍ مشترك يصف جماهير المؤمنين على اختلافهم وتنوّعهم.

انتُزعت من الشتيمة فعاليتُها الثقافيّة والاجتماعيّة ودلالتها المقرونة بصخب الحياة وضجيجها، لتصبح أقرب إلى غمغمة غير مفهومة، تكاد تكون مونولوغاً شخصيّاً لا يعبّر عن اليأس فقط بل ينتجه ويعمّمه

بناءً على ذلك صارت الشتيمة عنواناً لتعبير ضيّق ومحدود أمام الاستحالات اليوميّة للعيش، ولكنها بعد أن كانت مشحونة بحيوية الرفض والروح الجماعيّة، صارت خطابَ يأسٍ عارم وعميم لا يحضر إلا في السياق الفردي والخاص.

انتقل مجال الشتيمة من الشارع إلى العزلات، وتحوّل من تعبيرٍ عن العموميّ إلى وصفٍ للخاصّ، والذي على الرغم من كونه مشتركاً، إلا أنه غير قابل للتماسكِ وإنتاجِ شأنٍ عامٍّ، لأنه لم يعد مقروناً بقوّة الناس، بل تحوّل إلى نوعٍ من التخاطب مع قدرٍ لا يُردّ ولا يمكن التحايلُ عليه.

لا يشتم الناسُ السلطةَ، بل يؤمنون بها، ومن لا يفعل فإنه لا يمتلك كلاماً في الأساس ليطلقَه لأنّه يكون مهدّداً، ليس بالنبذِ والإقصاء وحسب، ولكن بالقتلِ المباشر.

لا يمكن رصدُ لغةٍ فعليّةٍ للاعتراض، لأنّها غير ممكنة الظهور، ويعمد أصحابُها إما إلى لجمِها بالكامل، أو يفضلون الدخولَ في لغةِ التفاهم مع الجماعة وترديدِ خطابها، وفي المرّات التي يحاولون فيها التعبيرَ عن الاعتراض يعتمدون الشتيمةَ، ولكنهم لا يشتمون الفاعلين، بل يشتمون البلدَ، والقدر، الأسعارَ، والأحوالَ، وكأنها بنى أسطوريّة نمت واستفحلت من دون فاعلين.

هكذا انتُزعت من الشتيمة فعاليتُها الثقافيّة والاجتماعيّة، ودلالتها المقرونة بصخبِ الحياة وضجيجها، لتصبح أقربَ إلى غمغمةٍ غير مفهومة، تكاد تكون مونولوغاً شخصيّاً لا يعبّر عن اليأس فقط، بل ينتجه ويعمّمه.

الفظاظة خطاباً وسلوكاً

بعد تفجير المرفأ عام 2020 بدا وكأنّ المدينة قد غادرت زمنَها وموقعَها، وتاليّاً فقدتْ لغتَها.

لم يكن لذلك الحدثِ سابقٌ في تاريخ البلاد، لا في نوعه، ولا في أثره، ولا في شكل الدّمارِ الذي خلّفه، وكذلك في الرائحة التي نشرها لفترة طويلة في عموم المدينة. التعامل معه وكأنه كارثة طبيعيّة، كرّسه وجعله السيرةَ الفعليّة للبلد والنهج الذي على أساسه يقوم العيشُ وتفاصيله.

لم يتم تجاهل الجريمة التي تسببت به فقط، ولكنّها تشرعنت، وتمّ البناء عليها واعتمادها كآليةٍ لإنتاج السلطة والثقافة كذلك.

التجمع البشري القائم في لبنان لم يعد مجتمعاً، حيث أنه فقد التعاون الذي يشكّل مفهومَ مجتمعٍ تصنعه لغةٌ مشتركة، توحّد الهمومَ والقيَمَ، تنتج الأفكارَ، وتحتوي المشاعر

تم تعميم سلطةُ شرعنةِ الجريمة من ناحية، والعمل من ناحية أخرى، على توكيد ثقافة القدريّة والوقاحة ورفض نسبِ الجرائم إلى مرتكبين .

نتج إثر ذلك احتفاءٌ عارم بالفظاظة و خطابها، وبدت وكأنها تواكب الخراب وتتناغم معه. انتشر التردّي المشهديّ والسلوكيّ، وتمادى مع استفحال الأزمة الاقتصاديّة التي سرّعت تحويل البلد عموماً إلى سوق خردة بكلّ ما للكلمة من معنى.

بناءً على ذلك صارت لغة الفظاظة ومنطقها هي اللغة الشائعة والمعتمدة في وصف الأحوال. أيّ جولةٍ في شوارع المدينة، وفي أيّ منطقة لبنانيّة، تسمعنا وترينا سطوة الفظاظة في السّلوك وفي الشكل وفي الكلام.

باتت تلك الفظاظة وكأنها انعكاسٌ لموتِ الحقائقِ، وتمثلت في حركةِ رجوعٍ عنيف إلى حقل البيولوجيا المباشرة، حيث يجد كلُّ شخص في الآخر تهديداً، وعليه أن ينفخ نفسه ويكبّر حجمه بلغةٍ متورمةٍ شبيهةٍ بالبالونات كي يخيف خصمه.

التهذيب العادي واللياقات المألوفة صارت نادرة. لا أحد يشكر أحداً. "صباح الخير" وعبارات التحية صارت مفرداتٍ مهجورةً. حلّ مكانَ كلِّ هذا الكلام المألوف، والذي صنعه العيش المديني، نظامُ القتل الرمزي بالنظرات الحادة والتجنب المتعمد والكلام المشحون بفظاظة متمادية، تقول بوضوح إنّ اللغة السائدة هي لغة النفي والطرد.

الصراخ بوصفه مصيرَ اللغة

خلقت الأزمة نوعاً جديداً من الضحايا الذين لا يملكون الحقَّ في أن يكونوا ضحايا، لذا اقتصر تعبيرهم عن أنفسهم بالصراخ.

بالتنزّه في شارع الحمراء يمكننا أن نصطدم بعدّة شخصيات بائسة تنام في الشارع وتظهر وكأنّها افتقدت اللغة أو طوّرت وعيًا حادًا بعدم جدواها.لا يطلبون من الناس شيئًا ولا يتكلمون بل يصدرون صراخًا وعويلًا، وأحيانًا يقهقهون.

يشترك معهم بدرجاتٍ متفاوته القسمُ الأغلب من اللبنانيين حيث بات الصراخ هو الطريقة التي تستبدل الكلام الواضح.

يمكن تعريف الصراخ بأنّه حالة تنتفي فيها اللغة، و تنتمي إلى ما قبلها، وكأنّ أصحابه ومُطلقيه فقدوا الصلة بالمجال التعبيري والتواصلي الذي تفتحه اللغه، وصاروا عاجزين عن تمثله.

الصراخ اللبناني لا يقول الألم والجوع والغضب، بل يخبر عن وجودهم وحسب، وكأنه أثرهم وامتدادهم، وعندما يصبح متفشيّاً، فهذا يعني أن أصحابه لا يتوجهون إلى أحد، سواء كان هذا الأحد شريكاً لهم في الوضع أو مرجعيّة ما يمكن التّوجه إليها.

يعني ذلك أن التجمع البشري القائم في لبنان لم يعد مجتمعاً، حيث أنه فقد التعاون الذي يشكّل مفهوم مجتمعٍ تصنعه لغة مشتركة، توحّد الهموم والقيَم، تنتج الأفكار وتحتوي المشاعر.

العراء الذي تحيا فيه البلاد عراء اللغة من فعاليتها وجعل الصراخ مصيرها المحتوم. نسكن الآن في لغة تتلاشى أمام الانتشار المتسارع للصراخ الذي صار صوتاً نهائيّاً للبلد، وبشكل أدقّ، لغته، التي تعلن بمرارة أنّ العيش فيه بات تعذيباً مفتوحاً.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard