شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"العالم وهو يهجرنا"... وحواسّنا المعذَّبة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 7 سبتمبر 202212:01 م

يبني الهجران علاقةً إقصائيّة مكتملة الأركان مع من يقعون عليه. المهجورون يصبحون مباشرةً خارج التداول، ويفقدون حقَّهم في امتلاك كيانٍ قابل للتعريف أو التفاعل.

عندما يلعب العالم هذا الدور، فإنه يتحول إلى مصنع إقصاء كونيّ. يحرص الكاتب والباحث بلال خبيز في كتابه "العالم وهو يهجرنا" الصادر عن دار النهضة العربية في بيروت، بفصوله الخمسة ومقدمته وخاتمته، على رصد معالمه التي ترسمها لوحاتٌ متعدّدة تتوحد في دلالتها على مفهوم الإقصاء، ويحاول البحث عن موقع وسط معالم الخراب المتنامية.

شبكة التحولات التي يرصدها الكتاب تشمل الحياة العامة والخاصة، تفكك الدولة لصالح المؤسسات الخاصة، الحب والعلاقات، تمثلات الجسد وصوره، الحواس، وظيفة المدن، الاستهلاك، والمواطنة.

الدولة الذاوية وصعود المستهلك

تتعاظم سلطاتُ الشركات الكبرى الخاصة وقدراتها وثرواتها بشكل متسارع، أمّن لها القدرة على التفوق على الدول وخلق شبكة قوانين وقيمٍ جديدة.

غلبة الشركات الكبرى نفت المواطنين وفكرة المواطنة ومفهومها، وأخرجتها من التداول لصالح الاستهلاك، كما أنتجت بنى إقصاء طاردة لكلِّ من لا يستطيعون الإيفاء بمتطبات الاستهلاك الذي يتحدد، خلافاً لمفهوم المواطنة، على أنه دور ووظيفة، وليس هويةً وصفة.

يحرص الكاتب والباحث بلال خبيز في كتابه "العالم وهو يهجرنا" على رصد معالمه التي ترسمها لوحات متعدّدة تتوحد في دلالتها على مفهوم الإقصاء، ويحاول البحث عن موقع وسط معالم الخراب المتنامية

السلطة الهائلة التي انتزعتها الشركات جعلتها منتجة سلوكاتٍ وأمزجة وأنماط حياة، قدرتُها الطاردة والنافية والتي تماثل في وقعها الإعدام، باتت النظام الأكثر شيوعاً ومناعةً. طردنا من حيز استهلاكي معين لأننا لم نلتزم بقوانينه أو تمّ تصنيفنا بأننا لا نتناسب مع معاييره، إنما يطردنا من حيز الوجود بأسره، ويجعلنا غير مرئيين وغير قابلين للمعاينة.

 البنية الأكثر خطورةً كما يحددها الكتاب تتجلى في أن الثروات التي تسيطر عليها الشركات باتت منتجةً للحيز العام؛ مفاعيل قوتِها وضعفها تشمل جميعَ سكان أي مدينة، ما يعني أنها باتت تحتلّ أولويةً ما يستوجب الدفاع عنها بكل الوسائل، لأن أي خلل يصيبها سوف يخرج المدينة من المشهد، ويتسبب بضرر هائل قد لا يمكن ترميمه، يطال جميع أبنائها.

المصائر المرسومة سلفاً

العالم المعاصر يحدد المصائر مسبقاً. وصفة النجاح تبدو وكأنها هديّة مجانيّة ينالها المرء بمجرد ولادته في بيئة ثريّة. التماسك الذي تتصف به هذه الوصفة يكاد يكون مطلقاً، ويندر أن يشذ عنها أحد. الناجحون يشكلون نسباً وعصباً يفيض على كلّ المنتمين إلى حيزه، ويجهزهم لاحتلال واجهةِ المشهد في المجالات كافةً، اقتصادية وسياسية وفنية.

في مثل هذا العالم تتخلّق بنية جديدة للثروة تفقد فيها الأشياء قيمتَها المباشرة لصالح قيمةٍ رمزية تولّدها تلك السلطات. الذهب يستطيع أن يبقى متاحاً للاستهلاك العمومي إلى حد كبير، ولكنه ما أن يكتسب توقيعَ "تيفاني"  على سبيل المثال، فإنه يصبح علامةَ السلطات الجديدة، وتعبيراً عن بنيتها التي لا يمكن أن يطال مقنيها أيُّ شك لناحية انتمائه إلى حيز المستهلك المميز الذي يجب على العالم أن  يتشكل وفق أهوائه.

غلبة الشركات الكبرى نفت فكرة المواطنة ومفهومها  وأخرجتها من التداول لصالح الاستهلاك، كما أنتجت بنى إقصاءٍ طاردة لكل من لا يستطيعون الإيفاء بمتطلبات الاستهلاك

لم تعد الثورات ممكنة، لأن الخراب الذي يطال ثرواتٍ تحولت إلى رصيدٍ مطلق للبلد وصورته، يخلق شبكةً من المتضررين تشمل الثائرين أنفسهم.

لا ينكر الكاتب انحيازه أمام هذا الواقع المتفشي للخضوع، ولكنه يدافع عن تعريف مغاير له يجعله مساراً للبحث عن موقعٍ ما في عالم رجراج.

في جحيم التواصل المستحيل

تعطيل المشاعر الإنسانية شرط أساسي للعيش في المدن. تجاهلُ ما يحدث حولنا ليس ترفاً يمكن التحايل عليه أو المزاح في شأنه. القصص والمآسي مهما كانت مؤلمةً، تمرّ أمام أنظارنا، ولا يمكننا التدخل فيها ولا التعاطف. يعني ذلك أن الآخر لا يستطيع أن يخبرنا شيئاً، وأن التعرف عليه مستحيل، وتالياً فإن العلاقة المفترضة معه قائمة على العداء.

هذا العداء الذي يضعه الكتاب في صلب علاقتنا بالحيز المديني، يخلق نوعاً جديداً من الإنسان الذي يجب عليه التخفّف من إنسانيته إلى الحدود القصوى كي ينجو.

تتعقد شروط النجاة وتتصلّب مع كل مشكلة. ما خلقته أزمة كورونا على سبيل المثال ساهم في إضافة جماعات كثيرة على قائمة المقصيّين. متطلبات الدخول إلى مقهى وشرب فنجان قهوة باتت تفترض سلسلة إجراءات، قد لا يكون كثيرون قادرين عل النجاح في تجاوزها. وعليه فإن التواصل، الذي يشكل سمةَ الاجتماع البشري، يتلاشى ليحلَّ مكانه نظامُ التجنّب التام أو النظرة من الخلف التي تمثل روح الافتراس.

تعطيل المشاعر الإنسانية شرط أساسي للعيش في المدن. تجاهُلُ ما يحدث حولنا ليس ترفاً يمكننا التحايل عليه أو المزاح في شأنه

التقنية المتفشية تلعب دوراً موازياً، إذ أنها تعمل على تصفير الحاجة إلى الخروج من المنزل والاصطدام بشارع صار قريناً للغابة. تتقلص مساحةُ الوجود لتنحصر في غُرفِنا التي تحولت إلى مخازن وسائط  تقنيةٍ تجتهد على مدار الساعة في الترويج لعالمٍ  لا يحيا إلا على الشاشات.

الحواس المعذّبة

العلاقة التي نقيمها مع روائح أجسادنا تتصف بالنفور والاشمئزاز، نعمل على إخفائِها ومحوِها وفضِّ العلاقة معها وكأنها لم توجد في الأساس، وكأنه من المستحيل أن نكون منتجين لها أو مصدرَها الأصلي.

يكرس الكاتبُ الأنفَ سيداً للحواس، ويجعله في الآن نفسه، وانطلاقاً من حرصنا الدائم على تمويت روائحنا الأصلية، صانعَ وحدتِنا. نحن نخشى الاقتراب من الآخر لأن ذلك يضعنا أمام امتحان انكشافِ روائحنا، والتي في حالِ ظهرتْ، تهدّدنا بالازدراء والنبذ. هكذا فإن العزلة هي مصيرنا المحتوم في عالمٍ لا يحقّ فيه لأجسادنا امتلاكُ روائح.

الحال مع حاسة السمع التي يمكن التأكيد على انحياز الكاتب لها مختلف. تلقّي الطرب، كما في حال الاستماع إلى أم كلثوم مثلاً، يحوّلنا إلى نوعٍ خاص من المؤمنين، ويدفعنا إلى التسليم والركون.

العالم المعاصر يحدد المصائر مسبقاً، وصفة النجاح تبدو وكأنها هديّة مجانيّة ينالها المرء بمجرد ولادته في بيئة ثريّة

إنه خطاب أمان يطلق مجالاً يحث على الاقتراب والتفاهم، ذلك لأنه يفكّك علاقتنا مع الزمان والمكان، ويجعلنا كائناتٍ أثيريةً لا يمكن أن يطالها أيُّ أذى.

العين باتت أسيرةَ رغبةِ البحث عن ما هو مكرّر،  ما جعل العلاقةَ مع المرئيات تخزينيةً. العالم انتقل من المجال العام إلى الغرف المغلقة التي يمكننا فيها النظرُ بأمان، وتالياً أصبح كلُّ ما يمكن أن نعدّه مألوفاً وآيلاً للنظر والانتباه، مجردَ انعكاسٍ لما كنا قد شاهدناه سابقاً على شاشاتنا.

يخلق ذلك ما يسميه الكاتب "نزعة إماتةِ المكان"، ولا يستبعد أنه في المقبل من الأيام سيميل إلى الاختفاء، لأن مسار التقنية يخلق اجتماعاً بشرياً قائماً على العزلة.

اللمس يؤدي وظيفة مغايرة للنظر. إذا كان النظر ينتج الأحكامَ، فإنّ اللمس يفتّتها ويخربها. في النظر تتحدّد المقادير والأحجام والملامح، ويصعب إخفاء مرور الزمن وآثاره، ولكن اللمسَ، وفق الكاتب، يجعل الملموسَ لا نهائيّاً وبلا حدود، وكذلك فإنه يدعم مفهوم التآلف مع العيش وحبّ الآخر.

الإشكالية التي يثيرها تحليل اللمس في الكتاب،  تكمن في أننا نلمس جلدَ الآخر المعتنى به، وبذلك فإننا نراكم جهلَنا به، وندخله في جحيم الشبهِ مع عددٍ لا يحصى من الآخرين. من هنا فإن ذلك التعسف القاسي الذي نفرضه على أجسدادنا بإصرارنا على استبعاد واقعِها من التداول ونفيِه يجعلنا كائناتِ القلق الدائم.

صخب الأعضاء وموت الإغواء

تحارب الأجسادُ المعاصرةُ الرغباتِ بأنواعها، وتعمل كذلك على نفيِ الزمن، وبذلك فإن تقسيماً حاداً للأجساد وتصنيفها عمّ وشاع، وبات يقيم فصلاً حاسماً بين الأجساد المستعملة والأجساد الجديدة.

الخضوع للرغبات بما يتركه من آثار على الجسد تخرج صاحبها من دائرة الصورة التي تجعله مرئيّاً، أما تلك الأجساد التي تبدو جديدةً، فهي تخاطب الصورةَ، وتتوجه لها، ولكن متطلباتها المجهدة والكلفة الكبيرة للحفاظ عليها تجعل من البقاء على قيد الصورةِ وظيفةً بدوامٍ كامل.

في الحالتين يموت الإغواء من حيث هو مشروع حبٍّ وتواصلٍ تحت وطأةِ ما يسميه الكاتب "صخب الأعضاء"، الذي يعني أنها مشحونة بصراخ وعويل خاصّين لا يريد أصحابُهما لأحدٍ أن يسمعهما.

تسيطر المرأة على رمزية الرّحم المنتج للحياة، وهو رمز يدعم قيامَ نسق التواصل، ويربط الحياة البشرية والاجتماع البشري بالعقلنة والمشاعر، بما يعيد تمثلها وفهمها إلى الفلسفة، وليس إلى الرياضيات 

يُستبدل الإغواء برغباتٍ مسعورة تنمو في الصمت والعزلة، ما من شأنِه أن يحوِّل أيَّ علاقةِ حبّ إلى ما يشبه الاغتصاب.

يشير الكاتب في الختام إلى أننا أصبحنا أسرى رياضيات تحتفي بالعابر والطارئ الذي لا يحدث سوى مرة واحدة، والذي نجد نموذجه في منطق البثّ المباشر، بينما لا تُبنى الحياة البشرية والعلاقات فيها على هذا المنوال، إذ يشكلها التكرار، وتجد معناها عبر تمثّل المشاعر ووعيها الذي تدعو إليه الفلسفة.

ذلك الانحياز إلى الرياضيات يضعنا خارج أنفسنا، وفي النهاية، وعلى الرغم من أن الكتاب يقدّم نفسَه بوصفه بحثاً في الإشكالات، فإنه يطرح اقتراحاً عامّاً يحذّر من سطوة الذكورية التي تتبنى استخدام القوة العارية كوسيلةِ تعبير، ويرى أنها باتت قوةً تهدّد العالمَ، وتهدد نفسها كذلك.

يدعو الكتابُ في المقابل إلى الدفاع عن الأنثوية وخطاب الأنوثة؛ المرأة بعد قرون من الاضطهاد طوّرت خطاباً متقدماً عن الجسد، يحتفي بالإغواء ويصنع له خطاباً، وباتت قادرةً على مواجهة العالم بجسدٍ يحضر بتمامه في كلّ لحظة، أي بالوجهِ والأحشاء على حدٍّ سواء.

تتمثّل القوة الاجتماعية للنساء في تحويل البيت إلى عنوانِ العيش البشري، وليس ميادين الحروب، ما يعني أن الدفاع عن مفهوم المنزل ومعناه يكرس اجتماعاً ينفي العنف من أصلِ تكوينه.

 سياسيّاً تسيطر المرأة على رمزية الرّحم المنتج للحياة، وهو رمز يدعم قيامَ نسق التواصل، ويربط الحياة البشرية والاجتماع البشري بالعقلنة والمشاعر، بما يعيد تمثلها وفهمها إلى الفلسفة، وليس إلى الرياضيات.

 أن نعقل، وأن نفكر، وأن نشعر، تلك هي الوصية التي يدافع الكتاب عن ضرورتها كأملٍ ممكنٍ في مواجهة عالمٍ لا يكفّ عن تطوير آليات الطرد والإقصاء.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard