عندما قصفت مليشيا الأسد منزلهم في دمشق، وتحطمت جميع النوافذ، وانهارت معظم الأسقف والتحفت جميع ممتلكاتهم بالغبار والحطام، صرخ الأب – (معتز) الذي يؤدي دوره الاستثنائي الممثل السوري سامر المصري: "الله أنا أحبك حقاً، فأنقذ لي منزلي". هكذا في ثانية تشعر أن السرد البصري يكثف روح الثورة السورية بتفاصيلها من وجع وقهر وموت ودمار، وحلم، وحب، وحياة. هذه ميزة سرد الثانية، تقول كل ما سبق في كادر بصري واحد.
كلمة "نزوح" كما نقرأها على الشاشة السوداء في بداية الفيلم الروائي "نزوح" للمخرجة الفرنسية سؤدد كعدان، تعني أن العالم ينهار من حول الأب معتز وهو يحاول أن يبذل قصارى جهده بصفته الرجل المسؤول عن زوجته هالة وابنته المراهقة زينة.
الفيلم الشعري الدرامي الذي تم عرضه عام 2022 ليس سوى قصيدة أخرى للفقر "الإباحي" واستعراض التفجيرات والدمار في سوريا، بعد كل شيء يمكننا مشاهدة ذلك في الأخبار. فلماذا نحتاج إليه في السينما؟
الفيلم الشعري الدرامي الذي تم عرضه عام 2022 ليس سوى قصيدة أخرى للفقر "الإباحي" واستعراض التفجيرات والدمار في سوريا، بعد كل شيء يمكننا مشاهدة ذلك في الأخبار. فلماذا نحتاج إليه في السينما؟
"نزوح" هو حكاية امرأتين والرجال الذين يحبونهما. رجل واحد وصبي واحد، والقوة والسحر الذي يحمله الحب والقلوب.
في حين أن فيلم سؤدد كعدان الأول"The Day I Lost My Shadow"، الذي تم عرضه لأول مرة في مهرجان البندقية أيضاً عام 2018، قد يكون أصابني بالحيرة قليلاً في بعض الأحيان، إلا أن "نزوح" استحوذ على مخيلتي وانتباهي، تماماً، منذ البداية إلى النهاية.
لقد أثبتت المخرجة أنها صوت يحسب له حساب في السينما العالمية، وأنا أتطلع إلى أعمالها المستقبلية، إذ تغير أسلوبها وطريقة تقديمها بشكل كبير من مشروع إلى آخر.
لقد أثبتت المخرجة أنها صوت يحسب له حساب في السينما العالمية.
في "نزوح"، استعانت كعدان بأربعة ممثلين ساحرين، من بينهم سامر المصري وكندة علوش في دور الأم "هالة". كندة الممثلة الشجاعة التي صعدت إلى قمة الدراما السورية والعربية في وقت وجيز، تلعب دوراً مميزاً، والممثلة هالة زين في دور المراهقة "زينة" من خلال أفكار سريالية جميلة جداً، تتحول السماء إلى بحر ترتطم فيه "زينة" بالأقمشة التي تخفي الضرر مثل الأشرعة. والممثل نزار العاني في دور الجار الشاب "عامر" الذي يجسد بدوره خيال زينة.
بعد اختفاء جيرانهم وتركهم الحي كومة من الأنقاض، يكافح معتز للحفاظ على نفسه وعائلته من النزوح. هنا أزمة اللاجئين تلقي بظلالها على الفعل والحدث البصري. لكن، زينة تكتشف الحرية، وحبها الأول من هذا المنزل "المزين" حديثاً، حيث تتحول الملاءات المزهرة إلى ستائر نوافذ، وستارة تنفتح على مسرح الخيال. خلف هذا الستار، ترى هالة وزينة محبطتين، حيث السماء المفتوحة تمنح إمكانيات وخيارات لا حصر لها.
يلعب العاني دور الشاب البسيط والوسيم والمشاهد بينه وبين زين الجميلة هي بعض من أجمل مشاهد الحب وأكثرها صدقاً التي شهدتها في السينما السورية. ومن المفيد، أيضاً، الحديث عن الواقعية الإيطالية الجديدة، مصدر إلهام دائم لكعدان. عالم يصبح فيه الطفل والداً والعكس صحيح.
يأس المصري وطاقته المهدورة على القارب المتسرب في قلب دمشق حيث الحرب على قدم وساق، يدفع "معتز" مؤشرات التفاؤل إلى مستويات قياسية نادراً ما تصل، لأن القصف يهدد بواقع مؤلم ومعلق، يحتل القناصة والدوريات المسلحة تجول في شوارع المدينة المهجورة والمدمرة. بدأت المياه والكهرباء والغذاء في النقص الشديد، مما يدفع الوالد للقيام بجولات خطيرة. ولكن، الخوف من أن يصبح لاجئاً يتزايد، ويتمسك "معتز" بمنزله مثل بلح البحر في صخرته.
معتز- الذي يمثل حياة العائلة ومنزلها في دمشق - يجعله طافياً على قدميه طوال الفيلم، مما يجعله شخصية ذكورية محبوبة جداً في السينما السورية. إن ضعفه العاطفي يتعارض مع مظهره الجسدي الرجولي، لدرجة أنه يجعل بعض اللحظات خفيفة تثير ضحك.
نجح الفيلم في استعادة اللجوء، ومقاربة البقاء أو المغادرة في أجواء "تراجيكوميدية"، وهو إعلان واضح عن قوة السينما وقدرتها على تغيير العالم، من خلال تغيير وعينا وتهذيبنا
ومن الرائع أن نواجه أخيراً الأسباب البشرية وراء الهجرة الجماعية التي بدأت مع انطلاق الثورة السورية عام 2011 إلى دول الجوار وأوروبا. نشاهد أزمات اللاجئين من الجبهات، ولكن من المستحيل إلقاء نظرة داخلية على محركات تلك الهجرة، لا أحد يغادر بلده باختياره. وفي "نزوح"، حصلنا على الخلفية الدرامية لنفهم أخيراً أين يحدث النزوح أولاً، عاطفياً أم جغرافياً؟
في نهاية المطاف، فيلم "نزوح"، هو فيلم يجب مشاهدته، وجزء من السبب هو اللذة البصرية فيه. لا يمكن نكران دور مدير التصوير هيلين لوفارت وبراك كانبير والمدير الفني عثمان أوزكان. الفيلم تم تصويره في تركيا، حيث من الواضح أن سوريا البعيدة قريبة من أسئلة كعدان، وذلك استدعى إنشاء منزل سوري من الصفر هناك.
فيلم "نزوح" لا يصرح ببيان سياسي، ولا يوضح موقف كعدان السياسي. نجح الفيلم في استعادة اللجوء، ومقاربة البقاء أو المغادرة في أجواء "تراجيكوميدية"، وهو إعلان واضح عن قوة السينما وقدرتها على تغيير العالم، من خلال تغيير وعينا وتهذيبنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...