"إنتِ من سوريا؟"؛ بهذا السؤال المكوّن من كلمات ثلاث، أجبت الزملاء والزميلات مدة ساعة ونصف متتاليةً، لماذا لم أكتفِ بنعم؟ حينها حضرت فيروز إلى المخيلة لتشرح عن بلد "الشبابيك المجروحة بالحب والمفتوحة عالصدفة"، ربما الأصح "بلد الشبابيك المجروحة بالحرب والباقية بالصدفة".
في المدن والعواصم العربية المغربية والمشرقية التي جمعت صحافيين وصحافيات من الوطن العربي، كانت كل العيون تتجه نحو سوريا، بحربها ودمارها، بتراثها المادي واللا مادي من "طعام، وغناء، وشراب، ولهجات"، بنزوحها ولجوئها، وحتى بممثليها وممثلاتها. أسئلة كثيرة بعيدة عن السياسة التي خجل معظمهم من السؤال عنها، طُرحت، ربما لأن "الحال من بعضه" في شرق الوطن العربي وفي غربه.
عن "المحاشي، والحرّاق بأصبعه، والباشا وعساكره"، وباللهجة الشامية التي حاول الزملاء تقليدها مثل "المعلّم عُمر، وأبو صياح، وأم عصام"، سأل أهل المغرب عن حال دمشق، وسأل أهل المشرق عن تدمر، ودرعا، ودمشق، واللاذقية، وجميعهم/ هن سألوا/ ن عن الحارات القديمة في دمشق وما بقي منها.
في المدن والعواصم العربية المغربية والمشرقية التي جمعت صحافيين وصحافيات من الوطن العربي، كانت كل العيون تتجه نحو سوريا، بحربها ودماره
ماذا يعرف الزملاء والزميلات عن سوريا غير الحرب والمسلسلات الشامية؟ بين سطور هذا التقرير كلمات، ومعارف وعبارات لصحافيين وصحافيات من المشرق والمغرب عن سوريا التي يعرفون.
خارج الكادر!
منذ عام 2011 وحتى اليوم، تعمل كل وسيلة إعلامية في داخل البلاد وخارجها، وفق أجندتها السياسية، من دون التركيز على تفاصيل البلاد الجامعة، والعادات، والتقاليد، والتراث المادي واللا مادي، وتعمل الدراما على عكس الواقع أحياناً، وإحياء التاريخ أحياناً أخرى، كما يريد الكتّاب والمخرجون.
ومع كل هذه الرسائل الإعلامية والدرامية، ماذا يعرف الصحافيون والصحافيات، والناشطون والناشطات، عن سوريا القديمة الجديدة؟ وما هي الصورة الذهنية التي يحتفظ/ تحتفظ بها، كل منهم/ هن خارج حدود الكادر الذي فرضته الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي؟
تختلف المعرفة بينهم، بحكم كل عناصر الخبر والواقع، "القرب المعنوي، والجغرافي، والروابط الاجتماعية". تقول هديل إسكندر، صحافية لبنانية، لرصيف22: "أوّل ما تُذكر سوريا، تخطر على بالي مخيمات اللجوء، وكوني من لبنان الجارة، أعرف الكثير من المدن السورية غير دمشق، مثل حمص لقربها من مكان إقامة أجدادي في بعلبك، إذ كانت النساء قديماً يذهبن إلى سوريا لتجهيز العروس، أما بعد الحرب، فسمعت بإدلب وعرفت عنها أكثر".
صدّرت الدراما السورية واقع البلاد بعد الحرب، "من فقر، وبطالة، وفساد، ولجوء"، وهذا ما أتابعه حالياً بعيداً عن مسلسلات البيئة الشامية، وتشير هديل ضاحكةً إلى أن المسلسلات السورية رافقتها منذ الطفولة بدلاً من أفلام الكرتون، فهي كانت تمثّل واقع كل البلاد العربية، مثل يوميات مدير عام، وعيلة 4 و5 و6 نجوم".
فرح الدرعاوي، الصحافية الأردنية، حاولت الحفاظ على سوريا بصورتها التي تعرفها قبل 2011، وعند سماع اسم سوريا تذكر "شجرها، وزرعها، وهواءها وأكلاتها، فطعم الأشياء فيها غير. تشعر عند تناول أي شيء في سوريا بطعم مختلف، حتى الماء طعمه فيها لا يشبه طعمه في أي بلد آخر".
تعود علاقة فرح بسوريا إلى أيام الطفولة وزياراتها المتكررة مع والدها. ترفض رؤية كل ما يرتبط بدمار جارة بلدها الأردن، وتتذكر اللاذقية وبحرها، وحلب وصناعتها وأريافها الجميلة، ودمشق بكل ما فيها، ودرعا جارتها القريبة، وتشير إلى أن الدراما والممثلين والموسيقى قدّموا سوريا للعالم: "دريد لحام، ورشيد عساف، وسامية الجزائري، وميادة الحناوي، وغيرهم/ هن".
صحافيون من المشرق العربي ومغربه، يتحدثون عن سوريا ويحاولون أن يتخطوا صور الحرب التي ترزح تحتها، تعود بهم الذاكرة إلى حلب وريفها، اللاذقية وبحرها، الشام وحاراتها. لكن هل فعلياً يعرفون سوريا أكثر من حدود الطبيعة والمأكل؟
هديل إسكندر القريبة من سوريا قرب دمشق من بردى، وفرح الدرعاوي القريبة من سوريا قرب بصرى من درعا، لم تتطرقا إلى آثار أخرى ومناطق جديدة. ماذا تعرفان عن القلمون وآثاره؟ وماذا تعرفان عن حمص وريف مصياف؟ ولماذا لا تعرفان شيئاً عنها؟
وقالَ التاريخ!
يحفظ السوريون والسوريات من الطلبة والطالبات، منذ المرحلة الابتدائية، القواسم المشتركة التي تجمعهم/ هن مع كل بلاد الوطن العربي. سؤال تاريخي بعلامات كثيرة للحديث عن "اللغة، والآمال، والآلام والمصير المشترك"، ورثته الأجبال، ليربط هذه البلاد ببعضها، وسؤال آخر عن توزّع النفط والثروات المعدنية والزراعية في شرق الوطن العربي وغربه، على خريطة كبيرة، يجب على الطالب/ ة في سوريا رسمها بدقة، ومن التاريخ والجغرافيا تتشكل المعرفة الأولى لأهل سوريا عن غيرهم من بلدان العرب، فماذا يعرف أهل المغرب العربي الكبير عن سوريا؟
محمد اليوسفي، الصحافي التونسي الذي تعرّف إلى سوريا على مرحلتين، الأولى في الطفولة عند مشاهدة الأفلام الكرتونية المتحركة التي دبلجها سوريون وسوريات، والمرحلة الثانية في الجامعة يوم احتكَّ بأساتذة تونسيين درسوا في سوريا أيام الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وخاصةً في دمشق، ويعتقد اليوسفي أن هذا الرابط الأكاديمي بين سوريا وتونس مهم جداً لأنه نقل صورة سوريا إلى الأجيال التونسية بعيونٍ أكاديمية.
يقول لرصيف22: "الموسيقى السورية مثلاً، فيها هوية خاصة وطعم خاص، ولها بصمة في تاريخ الموسيقى العربية وهذه البصمة وصلت إلى تونس عبر فنانين كبار، كالراحل صباح فخري الذي نقل الإعلام التونسي حفلاته الكبيرة"، ويتقاطع اليوسفي مع إسكندر في أنه اكتشف الكثير من المدن السورية بعد الحرب بسبب تواتر الأخبار، أما كتب التاريخ والجغرافيا فقدمت لهم/ ن حضارة سوريا القديمة والعريقة على حد تعبيره.
يروي اليوسفي أن التونسيين اكتشفوا الطعام السوري "بعد الحرب، عند انتقال العديد من السوريين للعيش في تونس، حيث افتتحوا مطاعم، وتالياً باتت العادات الغذائية السورية موجودةً على الطاولة التونسية"، منوهاً بأن "الأعمال الدرامية السورية كانت شديدة التأثير في تونس وحضورها قوي، فسوريا بلد فريد على مستوى التنوع العرقي والديني والثقافي في منطقة تمثّل قلب العالم".
"الكواسر" و"الجوارح"
التونسيون اكتشفوا الطعام السوري "بعد الحرب، عند انتقال العديد من السوريين للعيش في تونس، وباتت العادات الغذائية السورية موجودةً على الطاولة التونسية
تتشابه معارف الصحافية الجزائرية ماجدة زويني، مع جارها وزميلها التونسي. تقول لرصيف22: "عندما أتذكر سوريا اليوم أوّل ما أتذكره تدمر وزنوبيا، ثم باب الحارة الذي نقل لنا الحياة في سوريا والعيش في الحارات الضيقة والعريقة والبيوت السورية التي لها ساحة وفي المنتصف تتواجد بحيرة ماء و’كسر السفرة’ كما يقال في سوريا. أرى أن الدراما السورية تمكنت من توصيل أفكار جيدة عن سوريا، لأنه عند الالتقاء بأصدقاء سوريين نشاهد الأفكار نفسها التي نقلتها الدراما السورية، سواء في أنواع الأكلات أو التقاليد".
عندما يقال أمامها سوريا، تفكر ماجدة في أنها من الدول التي تمثّل مهد الحضارات البشرية بجانب العراق، وبالنسبة إليها "لا أتذكّر الحرب، لأن الصورة الذهنية التي أحملها قبل الحرب إيجابية جداً، وأتذكر أيضاً الأساتذة السوريين الذين قدموا إلى المغرب العربي الكبير لتدريس اللغة العربية، وأذكر أيضاً لبنان لأن سوريا ولبنان شيء واحد".
بالإضافة إلى المعارف التي يملكها كل من زويني واليوسفي، يتحدث الصحافي التونسي صابر عياري، عن تأثّره بما قدمته المسلسلات السورية التاريخية القديمة عن سوريا: "الكواسر" و"الجوارح" (من المسلسلات السورية)، ويشير إلى أنه يعرف الكثير من المناطق والأماكن السياحية، وخصوصاً في دمشق، ويخشى أن تكون قد تأثرت بالحرب، ويتحدث عن سوريا بأنها أرض استقبال كل العرب مهما كانت توجهاتهم الدينية والثقافية.
مونولوغ
خلال ساعة ونصف من حديث الزملاء والزميلات، غابت قصص الكهرباء والغاز والمازوت والحرب، ودار مونولوغ داخلي بين العقل والقلب: هل أحب هذه البلاد بالرغم من كل قساوتها؟ ولماذا أريد أن تكون بلادي جميلةً بعيون الجميع؟ فجأةً، حضرت كل معلوماتي التاريخية، وحدثتهم/ ن عن القلمون وآثاره، وعن مصياف، وعن الرقة، وعن دير الزور، وعن القامشلي وصديقتي الكردية، وعن السريان الآشوريين والأرمن، وعن حلب، وعن طرطوس وقراها.
وفي نهاية المونولوغ، فكرت في ماذا أكتب: هل أكتب مادة رأي أم أكتب تقريراً؟ ولماذا أخالف شرط المادة الصحافية الخبرية لأقدّم رأياً؟ فهل من مبرر للصحافي عندما يكسر جمود الخبر برأي، إن كان عن بلاده المتعبة؟ تذكرت حينها أمي وجدتي اللتين كانتا ترفضان أن تعلو أصواتنا كي لا يسمع الجيران مشكلاتنا. كنت مثلها في ذلك اليوم، وكانت سوريا بعيوني أجمل ما خلق الرب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون