لم تنس طهران أن تشيد رمزها الحضري بعدما اختيرت لتكون عاصمة الإيرانيين قبل 235 عاماً، لتتقدم على العاصمتين السابقتين، إصفهان وشيراز، المشهورتين بفنهما وبناياتهما التراثية.
تشتهر طهران اليوم بـ"برج ميلاد" كرمزٍ لها، والذي يبلغ طوله 435 متراً فهو وجه العاصمة الجديد، افتتحته الجمهورية الإسلامية عام 2008 ليكون شاهداً على تقدمها. أما الدولة الملكية الشاهنشاهية فقد شيدت برج شَهيَاد أو آزادي (الحرية) وفق تسميته بعد الثورة، وبلغ ارتفاعه 45 متراً وهو كان الرمز الأبرز لإيران وطهران منذ عام 1971.
ولكن الحكومة القاجارية التي رأت في مدينة طهران، الموقعَ الأنسب والأقرب من مسقط رأس السلالة القاجارية، مدينة دامغان، والقريبة أيضاً من مدينة رَي التاريخية، فهي التي عملت على بناء أول بناية شاهقة وأسمتها "شمس العمارة".
حكم ناصر الدين شاه (1831-1896)، رابع ملوك الدولة القاجارية نحو نصف قرن، وقد اتسم عهده بتحديث البلاد وذلك لكثرة أسفاره إلى أوروبا وإعجابه بالفنون والهندسة المعمارية والصناعة والتعليم والموسيقى والسينما وحتى الزي الغربي.
وقبل أن تبدأ رحلات شاه إيران نحو بريطانيا وفرنسا وروسيا، وعندما كان يستقبل الإيرانيين العائدين من الإفرنج وإثر مشاهدته للصحف وصور البطاقات البريدية الغربية التي كانوا يجلبونها معهم، قرر عام 1865، بناءَ برج عال يطلّ من خلاله على جميع حدود مدينة طهران.
عمارة أوروبية على طراز إيراني
يتكون هذا المبنى المرتفع ذو الهندسة المعمارية الفريدة، التي تمزج بين العمارة الإيرانية التقليدية والهندسة الأوروبية الحديثة، من برجين يبلغ ارتفاعهما 35 متراً، تتوسطهما ساعة كبيرة، وهي هدية من ملكة بريطانيا فيكتوريا إلى الملك ناصر الدين شاه.
"في الصباح ارتديتُ الثياب وذهبت إلى البستان للنزهة، ثم ذهبت إلى شمس العمارة. جلست هناك وطالعت الشارع. نزلت من هناك وتناولت العشاء. ثم عدت إلى شمس العمارة، وجلست أنظر إلى الناس الذين يذهبون من هناك، وبعد ذلك رجعت إلى الداخل"
بدأ المعمار الشهير علي محمد كاشي ببناء البرج الذي يتألف من خمسة طوابق في الجانب الشرقي من قصر گُلستان الذي كان يقطنه الملك وحاشيته، وبعد عامين من العمل الدؤوب أزاح ناصر الدين شاه الستار عن "شمس العمارة" المطلة على شارع يحمل اسم الشاه (ناصري)، قبل أن يتحول اليوم إلى شارع "ناصر خسرو" وهو أحد شعراء البلاد ورحالتها الاشهر.
وأصبحت طهران منذ ذلك الحين تمتلك برجاً من أكثر المباني روعة وجمالاً، إذ تتميز شمس العمارة بتصميمها المعماري وشكلها الظاهري، فضلاً عن ترتيبها الداخلي واستخدام شتى الفنون مثل الزخرفة بالقاشاني والمرايا والرسوم والنقوش وأعمال تجصيص على الشبابيك والجدران والسقوف.
بناية فريدة ونموذج كامل من الهندسة المعمارية والزخرفة الداخلية في العهد القاجاري، والذي مزج بين الهندسة الأوروبية والإيرانية. كما استُخدم القاشاني في هذه العمارة باللونين الأصفر والأسود لزخرفة الواجهة الخارجية للعمارة مع الاحتفاظ برسوم ونقوش كل جدار على حدة.
الملك والمناظر البانورامية
أحب ناصر الدين شاه برجه المرتفع الجديد، وأخذ يقضي ساعات طويلة من اليوم فيه لما يوفر له من مناظر بانورامية أخاذة ومميزة ومنعشة للمدينة، فمن أعلى هذه العمارة كان يرصد أحوال العاصمة، ويطلع على أحوال سكانها، كما أنه بات يستقبل السفراء الأجانب في الطابق المطل على داخل القصر، وقد اختاره محلاً لاجتماعات مجلس الوزراء.
"في الصباح ارتديتُ الثياب وذهبت إلى البستان للنزهة، ثم ذهبت إلى شمس العمارة. جلست هناك وطالعت الشارع. نزلت من هناك وتناولت العشاء. ثم عدت إلى شمس العمارة، وجلست أنظر إلى الناس الذين يذهبون من هناك، وبعد ذلك رجعت إلى الداخل". هكذا يصف الملك في مذكراته إحدى أيامه الروتينية في المبنى الذي أصبح نموذجاً على تقدم البلاد في عصره.
وتحول شارع ناصري الذي تطلّ عليه شمسُ العمارة وهي أول ناطحة سحاب في طهران، إلى أهم شوارع العاصمة، ومحل للنزهة لما له من منظر جميل لالتقاط الصور مع أعلى البرج.
يشرح الكاتب الشهير ومترجم الملك القاجاري، اعتماد السلطنة، أهمية شارع ناصري: "تملأ المصابيح جانبي الشارع حيث تضاء كلَّ ليلة، وهو موقع لنزهة الناس من جميع الشرائح، يرتادون عليه حتى بعد مضي 3 ساعات من غروب الشمس. في الجانب الأيمن منه تقع محلات ومنازل السكان، وفي الجانب الأيسر ثمة جدار كحصن لقلعة الملك".
قلّما نجد سائحاً يزور طهران، ولا يضم زيارة قصر گلستان وبرج شمس العمارة إلى جدول برامجه اليومية، كما ترعى الحكومةُ هذا الموقع التاريخي بصفته أولَ برج مرتفع في تاريخ العاصمة الحديث
وشيّدت أمام الواجهة الخارجية من البرج، محلاتٌ تجارية، إذ يقول اعتماد السلطنة في مذكراته: "هناك صيدلية في القسم السفليّ من العمارة، وفي الجزء العلوي يوجد محل تصوير فوتوغرافي، ويرتاد الكثير من الناس على هذين المحلين يومياً".
ساعة فيكتوريا وانزعاج الطهرانيين
لم تكن ساعة شمس العمارة حاضرةً منذ بداية تشييدها، بل جلبها ناصر الدين شاه معه من بريطانيا كهدية، ووُضعت هناك عام 1879 أي بعد مضيّ 12 سنة على وجود البرج. وكان أفراد قصر گُلستان وعامة الناس ينزعجون من صوت ناقوسها العالي، حتى اضطر الشاه إلى إصدار قرار بخفض صوت الساعة التي كانت تحظى بمكانة عالية عنده كونها هديةَ الملكة فيكتوريا. وعند العمل على خفض صوت الناقوس، انطفأت الساعة ولم تعد للعمل حتى مطلع عام 2021، إذ تم تشغيلها بعد محاولات كثيرة.
اعتبر المؤرخون بناية شمس العمارة من أهم العمارات المتبقية من حصن طهران التاريخي التي تمر نحو 157 عاماً على تشييده، كما أنها نقطة لانطلاق الفن الحديث في البلاد لما تتمتع به من أسلوب رائع، يمزج الأنماط الأروبية بالزخارف التقليدية.
قلّما نجد سائحاً يزور طهران، ولا يضم زيارة قصر گلستان وبرج شمس العمارة إلى جدول برامجه اليومية، كما ترعى الحكومةُ هذا الموقع التاريخي بصفته أولَ برج مرتفع في تاريخ العاصمة الحديث.
وعن رمز العاصمة الإيرانية يقول مدير برج ميلاد الأسبق فَرزاد هُوشيَار: "على مدى التاريخ تتغير رموز المدينة، فكان برج آزادي (الحرية)، الرمزَ الكلاسيكي لمدينة طهران. وقبل ذلك كان باب الحديقة الوطنية، رمزَ العاصمة، ومن قبلها برج شمس العمارة الذي كان أعلى البنايات، إلى أن أصبح اليوم برجُ ميلاد رمزَ طهران الحديثة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...