شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
صور من الذاكرة... الحالة الغريبة لإسماعيل ياسين

صور من الذاكرة... الحالة الغريبة لإسماعيل ياسين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأحد 9 أكتوبر 202205:52 م

لأن الذاكرة مخاتلة وخادعة. وليس كل ما ترويه هو الحقيقة، بل هو انطباعها عن الحقيقة


عندما تكون شراييني مفتوحة أمام القلق، أجد في صوت رجل، كل بضاعته هي السذاجة، هدهدة، وشيئاً من الطمأنينة، وغُسلاً من غيوم سوداء في الصدر... إنه صوت إسماعيل ياسين.

كانت ملاحظة عابرة، أنكرتها سريعاً، ثم تكررت حتى استحالت يقيناً، ومن ثَم حرجاً يجب إخفاؤه، لا يمكن ذكره، لأنها تربطني فوراً بوصمة الحماقة وتقيدني إلى أشباح، واستعادة لكل ما ظننت أنه سقط عن قلبي كجلد ميت، وودعته. لكن متحف مومياوات الذاكرة، لم يكن إلا بيتا رحباً، كل ما فيه حي يدَّعي الموت، وينبعث تحت جنح الليل، إذ يوقد القلق في عيني نهاراً شاقاً وصاخباً بالأحاديث، بكل ما هو مؤلم، بكل ما ينزف.

سذاجة صوت إسماعيل هي وسادة وثيرة لقلق لا يغفو، لكن تلك الموجات الطفولية الهزلية الأسيانة، مُهدئة حقاً، لأنه لم يمنحك عبر هذا الصوت حياته السعيدة، بل أهداك شقاءه. دائماً ما تتضاءل أحزاننا إذا ما نظرنا عن كثب إلى أحزان شخص آخر.

لم تكن حياته إلا ساعة حظ بين قوسين، أولهما شقاء وآخرهما حسرة. لم يظهرا إلا في رجفة أسى مخبأة داخل أغنية هزلية، كأنها خُبال سكران يهذي في الطريق.

حتى وهو يسجل سيرة شقائه بصوته، لا يفعلها إلا برضا أقرب للاستسلام، النبرة نفسها التي تدعونا للضحك هي نبرة حزن لا نلحظه إلا لأنه حزن قد غفر مقدماً كل شيء. شقاء يُحكى بظُرفٍ هائل، لكن بشحوب من ينكمش مرتعداً داخل ذاته، في خطفة خفيفة يطفر فيها صوت دمع منحبس، لأن ما حدث حقا حزين، لكن عليه أن يتجاوزه إلى الأمام.

عندما تكون شراييني مفتوحة أمام القلق، أجد في صوت رجل، كل بضاعته هي السذاجة، هدهدة، وشيئاً من الطمأنينة، وغُسلاً من غيوم سوداء في الصدر

نفس مرهفة، حتى وهي تتفادى معالجة معاناتها أو مواجهتها، بل تكدسها خلف أكوام من النكات وطاحونة عمل لا تهدأ، خلف "تعويجة بُق" هازئة بذاتها أولاً، فقد تقبَّلها كما تعلم أن يتجرع مصيره، لقد كانت لعنة "البُق" الواسع طلسم حظه. هذا الصوت، الوجه، كانا طيبين بالفعل، لا أحد بتلك الطيبة في ذلك العالم، ولا نحن، كأنه قطعة مسروقة من كل ما نظن أنه كان بإمكاننا أن نكونه. لكن فسادنا الذي تجذر، رُعب الجميع من الجميع، وحذر الجميع من الجميع، يجعل شخصية إسماعيل ياسين في السينما، حلوة فقط، وملعونة فقط.

تلك النفس، لم تسكن سوى في اللحظة. فرار من الذاكرة إلى المستقبل لأن لا ذاكرة للمستقبل بعد، هو مُتَخيَّل كساعة حظ ستدوم أبد الدهر، اللحظات سياط تدفع حمار الطريق فقط إلى الأمام.

عند لحظة ما، سيتوقف ذلك الهارب عن الركض، قسرياً من التعب ربما، أو ربما لأن الماضي صار مستقبله، وتكوم كل ما نساه خلفه، ليصبح أمامه كسدّ، فيدرك أخيراً أن حياته كلها تعطلت لسهو ما، وأن لا أمام من جديد، إلا بالعودة للوراء، بحثاً عن ذلك السهو، خطأ المسار. لأنه في النهاية يدرك أنه لا يمكن الفرار خارج الزمن، خارج الخطأ الذي شكلنا، وأن ساعة الحظ، كانت استراحة بين قوسين.

لم تكن حياته إلا ساعة حظ بين قوسين، أولهما شقاء وآخرهما حسرة. لم يظهرا إلا في رجفة أسى مخبأة داخل أغنية هزلية، كأنها خُبال سكران يهذي في الطريق

في حالة إسماعيل ياسين كان الخطأ الذي فات أوان علاجه، هو نسيانه فترة الشقاء، معاملتها بعادية، حتى أنه لم ينتبه عندما ابتسمت له الحياة أخيراً، اخترع الطفل لنفسه حكاية خرافية: لن يعرف الشقاء مجدداً، لأنه تمكن مرة من روايته كنكتة حزينة بعض الشيء، سيعود ذلك الخطأ ليلعنه، لأن الدنيا لم تكن كأفلامه، لن تحرسه طيبة سذاجته من سوء الحظ.

لم يكن طيباً في حياته، أظن، ولا شريراً، بل مغفل يجوب الزمن بطاقة الأمل. لا وقت لديه للتعساء خلفه لأنه جرب التعاسة، صار يتجنبها لأنه عرف معنى أن يلفظك الزمن، عامل الملفوظين منه كالجذام. هذا الحظ والمال ملكي، حق صنعه العرق، أغمض عينيه عن الشقاء، لكن الشقاء لم يغمض عينيه عنه. إنكار طفولي وليس شراً أو خسة أصل.

يحصد الحب رغماً عن الواقع، لأن الواقع في عينيه ليس سوى بقعة معتمة، غير مفهومة. إسماعيل ياسين هو فكرة واحدة مهووسة بتكرار نفسها إلى الأبد، لكن عبر تلك السطحية حفر رسوخاً، ونجاة

في السحاب الذي يصنعه طفل بأكوام من القطن نسجها أولا في عينيه، ثم يجلس فوقه متخيلا أنه يطير في الأعالي، يظن أن لا قانون قادر على أن يطوله، وأنه قد تحرر أخيراً من الإذعان. أن فردوسه الذي هو محض بيت بسور، زوجة محبة وابن جميل ومال في البنك، هو العالم، إذا ما جلب فكرة عن الشقاء خارجه إلى داخل بيته، سيتكدر عالمه القطني، ولن يفلح في طرد أشباح التعاسة. ذلك الخطأ كان خطيئة، وبسببه عاد القوس المقفول للحسرة ليطوق حياته.

إسماعيل ياسين، لا يحمل أي مضاعفات لشخصيات محتملة، هو شخصية واحدة مكررة مئات المرات، لا تمل، لا تضيف، عالقة في الزمن بلا أي تطور. يحصد الحب رغماً عن الواقع، لأن الواقع في عينيه ليس سوى بقعة معتمة، غير مفهومة. إسماعيل ياسين هو فكرة واحدة مهووسة بتكرار نفسها إلى الأبد، لكن عبر تلك السطحية حفر رسوخاً، ونجاة. على الأقل صار لواحد مثلي هدهدة مطمئنة.

لكن بالتفكير في مصيره، الذي رفض فهم العالم أو ظن نفسه معفياً وناجياً من الشقاء، يتولد المزيد من الشك، القلق، تصير وسادة سذاجته الوثيرة قنبلة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image