لم تجمعني من قبل جلسة أدبية بأحمد الفخراني، كنت قد تعرفت عليه من مقالاته التي ينشرهافي المواقع الإلكترونية، أحببت اختياراته للموضوعات التي يكتب عنها، كما أحببت كثافة أفكاره في النص الواحد، وأعجبت بتلك الأفكار التي تتسق مع وجدان الحالمين بتغيير الواقع.
بلغة عذبة متسقة الإيقاع، يرسم الفخراني عالمه بريشة رسام يتقن مهنته، يشكل أفكاره كالصلصال فيصنع منها ما يشاء، ويتيح لنا، نحن القراء، إعادة الهيكلة من منظورنا الخاص، فتخرج من عالم الفخراني نفسه عوالم أخرى كثيرة ومتشعبة لكنها متشابكة كذلك، وما إن نظن أننا انتهينا من فهم المراد، حتى نصاب باللعنة، اللعنة التي تعني أننا قد بدأنا لتونا في فهم أشياء أكثر، كأن النص يتجدد ذاتياً، لا بمرور الزمن وحده، وإنما بمرور الصفحات نفسها كذلك.
للفخراني فلسفته الخاصة في رسم شخصيات عالمه، دائماً ما يكتسب أبطاله بعداً نفسياً يدفعنا إلى التحليل والتفكير الدائم، وكلما تقدمنا مع أبطال العمل، تقدمنا كذلك في العمر، فنشيخ مع الشخصيات، نرافقهم في محبة أو نكرههم في صمت. يترك كل منهم بصمته في العقل، ويظل الفخراني يُنسج من هذا التشابك، المصنوع بحرفية الراوي، بيئة صلبة متماسكة تدفعنا مباشرة للسؤال: كيف سينهي الفخراني لعبته؟
يكون ذلك أصعب سؤال أواجه به نفسي وأنا أقرأ، بينما الفخراني يعرف تماماً ما يريده، أقول لو أخطأ الفخراني في نهاية روايتي "إخضاع الكلب" أو "بار ليالينا" لانهار ما بناه كليةً، لكنه لم يسقط في هوة الاستسهال أو المبالغة، كل شيء في عالمه مدروس ومتقن.
هل البطل هو ذلك البار الذي انهار بعدما كان لامعاً جذاباً؟ أم هم جموع الكومبارسات الحمقى الذين يفضلون أن يبقوا آمنين على خوض الحياة وصدماتها؟ أم هو ببساطة نحن أبناء هذا المجتمع كشهود عليه؟
عن إخضاع الكلب
رواية صادرة عن دار الشروق في عام 2021، بطلها هارون عبد الرحيم المصور المجروح بالخيانة، ما جعله يقرر العزلة والذهاب إلى دهب حيث لا عواء لدبيب القاهرة المزعج. انتقل هارون المعروف بالفوبيا من الكلاب إلى جنوب سيناء، ليستيقظ من نومه ذات يوم فيجد كلباً أسود مُقيداً إلى شجرة في فناء بيته، وعليه أن يتعامل معه.
أول ما يشدّنا كقراء، في نظري، هو اسم الرواية: "إخضاع الكلب". لماذا سيخضع الكلب؟ وكيف؟ وإلى ما يرمز؟ فلدينا رجل تعرض للخيانة، وكلب سمتُه الوفاء، في أي فلك سيدور الفخراني؟ وما زاد الاسم غرابة وجمالاً هو غلاف محمود عبده، خلفية سوداء، شباك يشع نور القمر، وثلاثة أشخاص تتلاشى الحدود بين أجسادهم.
تنساب الكلمات كالشلال عذبة وجريئة، ويعطينا الراوي هارون لمحة من حياته في جرعات صغيرة مكثفة، تسأله أسما:
- ماذا تقرأ؟
- عم تتحدث؟
يرد هارون: "عن رجل قرر أن يتصرف كميت، ليرى كيف يسير العالم من دونه". دُهشت، إذا لم تكن بداية الراوية الساحرة والتي تتزامن فيها الأكوان، وتتجول فيها الجنيّات محض إبداع أدبي وخيال راق، إنما هي لمحة من شخصية هارون الحالم، المُبصر ببصيرة عمياء، كأنه تعاطى الأمل، كما تعاطى كالفينو الأدب أو كما وجب على السيد بالومار أن يشاهد النجوم.
كنت أظن أن الفخراني سيلعب السهل الممتنع؛ خيانة زوجية ومصور مكتئب، وكلب على القارئ أن يسقط على ما يشاء، وتسير اللعبة في مدارات معلبة جاهزة وستضمن له النجاح، لكنه بحرفية منقطعة النظير لم يفعل ذلك
لغة موازية
لا تقف فلسفة الفخراني عند تلك المصطلحات المجردة المعروفة للعوام، وإنما هناك فهم دقيق لمكنون الكلام، يظل يتطور كخروج الفراشة من الشرنقة، فيصف هارون على لسان أسما: "الوجود مأساة علينا أن نتقبلها بشجاعة"، وفي عزف متناسق كأنه لحن كلاسيكي، يأتي الرد: "واصلت التقدم كمَن يغتسل من إثم وجوده، تابعاً وعد النسيان المعلق في جوف الشمس، البوابة السرية للسماء المقلوبة. الراحة في البعيد، في الغياب، في اليد الشافية والمباركة للمحو".
كل هذا وأكثر نستنبطه من الصفحات الأولى، إثم الوجود ومأساة النفس مع النفس، مغازلة رقيقة وعذبة للموت، خلق مساحة جديدة يندمج فيها الخيال مع الحقيقة، حقيقة الشخصيات ومآسيهم، كما هي تأملاتهم عن الواقع المرير بنظرة محايدة، كنقطة عبر منها الإنسان إلى الخلود.
جوف الحوت
كنت أظن أن الفخراني سيلعب السهل الممتنع. خيانة زوجية ومصور مكتئب، وكلب على القارئ أن يسقطه على ما يشاء، وتسير اللعبة في مدارات معلبة جاهزة وستضمن له النجاح، لكنه بحرفية منقطعة النظير لم يفعل ذلك، نحن بالفعل أمام رجل عليه أن يُخضِع خوفه، رحلة شاقة على النفس علينا أن نخوضها مع هارون، لنعرف هل ستتحقق تكهناته؟ كيف له أن يشفى من جروحه؟ وهو يعرف تماماً معنى أن يقتل حياً "لا شيء مُخيف بالموت، لكن ثمة شيء قاسٍ في الخفة التي تستمر بها الحياة بعده".
الآن على هارون أن يخرج من جوف الحوت كالنبي يونس، أن يراقب خوفه ويروضه أو يخضعه، بدا هارون متلعثماً "يقرأ بيأس ويدخن بأمل" يتساءل من يشدد له أزره؟
تلك الحياة المادية الملموسة لم تكن وحدها من تؤرق هارون، ذلك الاختزال الذي حاصر به الناس، بات يحاصره. لم يعد مصوراً، لكنه بات يرى الأشياء كصورة من خلف زجاج، تماماً كمشاعره "فلا أحد يرفض أن تلتقط له صورة، لا أحد يقاوم الخلود الوهمي الذي توفره".
حيونة الإنسان
تبدأ اللعبة ليس كقط وقار وإنما كإنسان وكلب عليهما أن يتوافقا، أن يترك كل منهما للآخر مساحة أمنة للحركة والبكاء، بتّ تعرف مأساة هارون: في الحب شكل من أشكال الإخضاع، أليس هذا ما فعله معه والده؟ ذلك الصراع الذي امتد ليطول الكلب، فيندمجان، ولا تدرك من فيهما يخضع الآخر، بل من فيهما الكلب؟ وهو ما أعاد ذاكرتي لممدوح علوان في كتابه حيونة الإنسان "الإنسان بطبيعته ميال إلى رفض الإذلال، ولذلك فإن المهان الذي لا يستطيع رد الإهانة يجب أن يصرّفها مثل الڤيتامين الزائد في الجسم، وهو حين لا يستطيع ردها من مصدرها لا بد له من أن يصرفها باتجاه آخر، إلا أن الشائع هو التصريف نحو من يستطيع أن يتجبر عليهم". ربما الآن بت أفهم ممدوح علوان بشكل أفضل.
الحقيقة والميلاد
الآن يولد هارون من جديد، وكذلك ونيس، يهب كل منهم لحياة الآخر قيمة، بل ويحركها بدلاً من كونها مياهاً راكدة، يراوغ الشك حياة هارون، ويحركه خوفه بل يرسم له مسارات لم توجد، ووعود وهمية... ربما تكن حياته نفسها كذلك، وهمية.
رجل كل ما يريده هو الحب، الذي "يستند على أحجار أوهامه". يعيش حياته كمجذوب أو عاشق تاه في الطريق، "وهبته الآلة الحياة فمتى سكنها الشيطان؟" بدأ يدرك هارون أنه في دنيا أخرى، ويتساءل: "إلى أين يدفعني ذلك الإدراك؟ إلى الرعب؟".
يحكم الفخراني رمزياته بإتقان كما يتلاعب ويشكل لغته بعناية، والآن بت تعرف تماماً معنى الكثافة في النص، جملة واحدة يمكنها أن تحمل عدة مفاهيم، بل تطرح أسئلة أيضاً، ويمكنك أن تقرأ الجملة عدة مرات كأنها منسلخة من زمان آخر، يمكنك أن تبني عليها نصاً، أن تعيد تركيبها في خيالك، أو حتى تكتفي بها لأن بها ما يكفي ويزيد، إلى أن تأتي النهائية الصادمة.
كانت النهاية قوية ومبهرة وهو ما جعلني أعود إلى كتاب حيونة الإنسان "مجتمعات القمع [...] تولّد في نفس كل فرد من أفرادها دكتاتوراً. ومن ثمّ، فإن كل فرد فيها ومهما شكا من الاضطهاد يكون مهيئاً سلفاً لأن يمارس هذا القمع ذاته الذي يشكو منه، وربما ماهو أقسى وأكثر عنفاً على كل من يقع تحت سطوته". أو كما قال الفخراني: "لكن في النهاية لا يوجد للمرء أفضل من مأساته".
بار ليالينا
”وتاهت بينا تاهت
ليالينا، ليالينا
وقولنا نرسي
نرسي على مينا“
"بار ليالينا" هي أحدث روايات أحمد الفخراني الصادرة في العام 2022، هذه المرة نعود إلى مدينة ربما تكون العاصمة لنتابع حكاية نوح الرحيمي.
نوح موظف في شركة أدوية صباحاً، وكومبارس في أغلب الأوقات. قادته الظروف إلى "بار ليالينا"، ليتقابل مع نخبة من المثقفين، أو هكذا بدوا، لكنه سرعان ما يصطدم معهم ما عجل بطرده من البار، ليعود بعد سنين طويلة محاولاً الانتقام.
ما زلت مغرماً بافتتاحية الراوية، تصورت فيها نوح كفارس مهزوم "تحول مجده ببساطة إلى عاره". أرى في نوح صعلوكاً حقيقياً، أحمق لكنه يدرك ذلك، فربما "لولا الحمقى لخربت الدنيا".
بين مرآة الحقيقة وباب الحقيقة
”مشينا وأدينا من غير أهالينا
ولا حد بيسأل فينا
وأتاري الدنيا غدارة“
ليس من الضرورة أن تصبح ”كل الحكايات عزاء طويلاً لفشل الإنسانية الممتد والعميق“، لكن قصة نوح تحديداً هي رحلة من التطهر وكشف الزيف، رحلة ترنو إلى إسقاط الإدعاءات الواهية بالمعرفة والثقافة، وما أكثر المدعين.
الكل يحاول الخلاص من الحقيقة، يجاهد نوح في أن يتخلى عن دوره ككومبارس يكتفي بالصمت، وكذلك خصومه، ربما يريدون أن يصبحوا كومبارسات، في تبادل للأدوار يعلق عليه الرواي (الفخراني نفسه) بخفة: "لكنه تمنى لو كانت الدنيا بسهولة الأمل، أو أنها كانت سخية بما يكفي مع اليائسين".
انشغلت بنوح ولا أعلم إن كان الفخراني استخدم هذا الاسم تحديداً لأن الطوفان قادم لا محالة؟ أظنه كذلك. بين مرآة الحقيقة ومجلة باب الحقيقة شتان، تلك المرآة التي تعكس الصورة كما يجب أن ترى، لا صيغة منمقة ولا تعديل، الحقيقة بمرها كما هي، ربما يجب على نوح أن يتركها دقيقة واحدة مع كل شخص في الحياة ولكن من يضمن أنهم لن يتخلصوا منها كما فعل هو نفسه.
في نفس الوقت كان "باب الحقيقة" مغلقاً بأمر من يسري الحلو، ينصب نفسه ملكاً من لا شيء، يتغذى على وجود الموهوبين الموهومين بجانبه، وإدعاء النبغ لضعف من حوله. لكن ماذا لو كانت كل تلك الثوابت في غير موضعها؟ يضرب الفخراني على تلك النقطة، ويطلب منك التفّكر في أقوال مأثورة قد تجاوزها الزمن، "تؤمنون بالمسلمات دون تفكير، ولا تستخدمون الشك في نفض غبار الوعي الزائف بالحياة من عقولكم".
خطاب إلى الرجل الصغير
”عيني علينا يا، يا عيني علينا
بيعي يا دنيا واشتري فينا“
”إن كل تشابه بيِّن مع شخصيات حية أو ميتة هو محض صدفة“، تلك مقدمة ما أراد الفخراني قوله على لسان فيلهلم رايش: "ولكني لا أعرف لماذا تهوي دائماً بنفسك إلى الوحل الذي تعذبت بداخله طويلاً في السابق؟ [...] أنت من تستعبد نفسك ولا أحد غيرك، أقول لك وهذه هي الحقيقة: لا أحد غيرك يحمل وزر عبوديتك".
أحب تلك الاستعانات غير المرئية التي تخدم صلب العمل وكأنها خلقت له. يُوفَّق الفخراني دائماً في ذلك، يستعين بعوامل خارجية تحقق مبتغاه، تشعر أنه يضع القارئ على درجات، وكلما تمعنت أكثر صعدت درجة أخرى في سلمه الأدبي، يترك لك رسائله ببضع كلمات يخاطبك أنت حتى لو على لسان غيره أيها الرجل الصغير "إنني أريدك أن تتوقف عن الوجود كرجل صغير، أن تصبح أنت، أقول لك: أن تصبح أنت وليس كما تريدك الجريدة التي تقرأها أو جارك السيىء الذي تصغي إليه، ولكن أن تكون أنت. أعرف ولكنك لا تعرف كم أنت عميق في الواقع".
من البطل؟
”إبكي يا قلبي على الحنية
هي الدنيا جرى فيها إيه
حتى الناس صبحت مش هي“
يعيد الفخراني تشكيل الواقع، ولكن من هو البطل الحقيقي في روايته، هل هو بار ليالينا الذي يملأ خلفيته صوت وردة الشجي وألحان بليغ حمدي؟ "وردة وبليغ هما مؤرخا حياته، ومنشدا رحلة طويلة من خيبة الأمل. أغانيهما تصور عشرات الانفعالات التي يكابدها كل يوم، كالخذلان الغائر الذي يثقب الروح، التأسي من غدر الناس وقسوتهم، الخسارات الجسيمة لتمسكه بقيم المحبة وطيبة القلب".
هل البطل هو ذلك البار الذي انهار بعدما كان لامعاً جذاباً؟ أم هم جموع الكومبارسات الحمقى الذين يفضلون أن يبقوا آمنين عن الدخول في أي صدمات جديدة؟ هل هو يسري الحلو بهيئته الضخمة وإدعاءاته الكاذبة؟ أم هو نوح؟ أم هو ببساطة نحن أبناء هذا المجتمع كشهود عليه؟
ما استوقفني رغم سلاسة الحوار، قلة المحادثات السجالية بين نوح ونخبة المثقفين، لم تأخذ ذلك الحيز الكبير رغم أنها كانت ستعطي مذاقاً وحيوية أكبر للنص، تلك النقطة تحديداً كانت يجب أن تكون مباشرة من دون تلميحات، خصوصاً أن العمل طرح تلك الفكرة بقوة وركز عليها.
كما كانت النهاية على جمالها وخفتها سريعة ومفاجأة، تطورت الأحداث سريعاً على عكس الوتيرة الهادئة في بادئ الرواية.
أظن أننا أمام مبدع جديد يحترم عقل القارئ ويتفاعل معه. أخيراً وأقولها بشوق؛ قد وجدنا روائياً قديراً يحيل نظرك بجماله عن هذا الكم اللانهائي من الغثاثة التي يصنفها البعض روايات جيدة، فإذا لم تكن قد قرأت بعد أيا من كُتب الفخراني، فلا تؤخر لقاءك أكثر من ذلك، وإذا ما كنت قد قرأتها فعلينا الانتظار بتلهف لما هو قادم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...