في عام 2012، كان العرض الأول للمسرحية المصرية "1980 وأنت طالع"، التي اعتمد صنّاعها على مشاهد متقطعة "إسكتشات" تُشرّح آمال وأحلام جيل الثمانينيات والأجيال التي تلته، وتأثره بالظروف الاقتصادية والسياسية لمصر على مدار سنوات. وفي 2015 حضرتُ عرضها في الإسكندرية. أُغلقت أبواب المسرح قبل العرض بما يزيد عن 30 دقيقةً، وفرض صناع العمل على الحضور مناخاً تسعينياً خالصاً، فطوال تلك الدقائق صدحت مكبرات الصوت بأشهر أغنيات هذه الفترة، بين"قاسي قاسي" للمطرب الشعبي حكيم، و"بحبك يا أسمراني" لإيهاب توفيق، و"شوفي" لهشام عباس، وغيرها، وكأنها كانت إشارة العودة إلى فن التسعينيات مرةً أخرى، إذ انتشرت أغنياته في الأفراح (الأعراس) والحفلات مما دفع مطربيها إلى إعادة تقديمها للجمهور، فظهر "حكيم" في برنامج "معكم منى الشاذلي"، قبل 5 سنوات، ليغنّي "نظرة"، وفي برنامجي "أبلة فاهيتا"، و"سهرانين" قبل عام، ليغنّي "قاسي قاسي"، وهو ما تكرر مع هشام عباس وإيهاب توفيق وغيرهما من أبناء جيلهم.
نجاح بالمصادفة
لم يتوقف الانتشار داخل مصر، إذ تزامن مع بداية "الكيتش العربي الأصيل" في تونس عام 2018. من مزحة بين بعض الأصدقاء قرروا إقامة حفلة تنكرية بارتداء ملابس التسعينيات والرقص على أغنياتها ليُعجب الجميع بالفكرة ويطالبوا بتكرارها، تطور الأمر وخرجت المزحة من إطار الأصدقاء إلى دائرة الجمهور، بالرغم مما يحمله المعنى الأصلي لكلمة الـ"كيتش" من رداءة، وقد تحوّل لاحقاً إلى تيار في الفن. لاقت التجربة تجاوباً كبيراً من الشباب داخل تونس وخارجها.
"هيثم وشريفة" اسمان ارتبطا بـ"حفلات الكيتش". تعمل شريفة الجعايبي (36 سنةً) مديرةً فنيةً في واحدة من شركات الإنتاج، كما أنها مُنظِّمة حفلات، بينما درس هيثم فنطر (31 سنةً)، علم الأحياء وحصل على درجة الماجستير في إدارة وسياسات الثقافة ليعمل مديراً ومؤسساً لأحد المطاعم. لم يدرس أي منهما الموسيقى ولم يعملا بها إلا أنهما عشقاها منذ الصغر.
يقول هيثم في حديثه إلى رصيف22، إنه تعاون مع شريفة في تنظيم الحفلات، وفي شتاء 2018 قررا تنظيم أول حفل لأغاني التسعينيات في ساحة المطعم الخاص به "يوكا"، وبعد تكرارها بناءً على رغبة الأصدقاء فوجئ بأماكن أخرى "مطاعم وكافيتريات" تطلبهما لتنظيم حفلات "كيتش".
"هيثم وشريفة" اسمان ارتبطا بـ"حفلات الكيتش". تعمل شريفة الجعايبي (36 سنةً) مديرةً فنيةً في واحدة من شركات الإنتاج بينما درس هيثم فنطر (31 سنةً)، علم الأحياء. لم يدرس أي منهما الموسيقى ولم يعملا بها إلا أنهما عشقاها منذ الصغر
على طريقة أخبار النجوم في الجرائد المصرية، وما تحويه من تفاصيل علاقاتهم الخاصة بتلك الفترة وتأثيرها على التعاون الفني، أعلن الثنائي عن عودة حفلاتهما بعد فترة كورونا، فجاء الإعلان: "زوبعة فنية تهزّ الساحة، غرام وانتقام"، وفي تفاصيله أن "مصادر خاصة تسرّب شائعات عن رجوع دويتو الموسم وكل موسم 'هيسم وشريفة' إلى الإنتاجات الفنية المشتركة بعد انفصال دام لأشهر عدة". يوضح فنطر، أن علاقة الصداقة بينه وبين شريفة خلقت بينهما مساحةً لتبادل الحديث باللهجة المصرية في حياتهما اليومية، فأحياناً يقومان باختلاق شخصيات وهمية في إطار المزاح: وهو ما انتقل إلى أفكار التسويق فكانت بالتشاور بينه وبين شريفة وبين صديقهم المؤثر التونسي طيّب، الذي يحتوي حسابه في إنستغرام على عدد كبير من المتابعين وهو ما سمح برواج الفكرة منذ بدايتها.
لماذا لا نعود إلى شخصيتنا؟
حاول البعض تنفيذ أفكار مشابهة بعد انطلاق الثنائي. تقول شريفة في حديثها إلى رصيف22، إن المفهوم الذي أسّساه لم يكن موجوداً في تونس من قبل، ويعتمد على التصالح مع الموروث الثقافي والاستماع إلى أغاني البوب العربية والرقص على أنغامها في "البارات" والأماكن التي يتردد عليها الشباب، وهو ما رأته في مصر ولبنان خاصةً في الأوساط النخبوية فبدأ "الكيتش" بسؤال: لماذا لا نعود إلى أغاني التسعينيات التي كبرنا معها وشكلت جزءاً من طفولتنا ومراهقتنا وشخصيتنا؟
لم يجهل الثنائي المعنى المُرتبط في مخيلة الجميع بـ"الكيتش"، من "الابتذال" و"الرداءة" وكل ما هو "هابط" حسب وصف شريفة في حديثها إلى رصيف22، موضحةً أنهما قصدا استعمال هذه التسمية من دون أدنى أحكام قيمية، فالموسيقى المُستخدمة مستهلكة، وتجارية، وكل الأغاني تحكي الموضوعات والإيقاعات ذاتها، والتوزيع يتشابه إلا أن هناك رابطاً عاطفياً وثيقاً يجمعنا بهذا الموروث، وقد تكون عودتنا إلى هذه الموسيقى رداً ضمنياً على بعض الأفكار النخبوية السائدة التي تُنصّب نفسها كحكّام الذوق الرفيع، مضيفةً أنها وإن كانت موسيقى"كيتش"، فهي تؤثر في ذلك الجيل بشكل كبير لما توقظه في داخله من نوستالجيا وطفولة ومراهقة من جديد.
بدأت حفلات "الكيتش" التي تستعيد إرث موسيقى التسعينيات المصرية في تونس بسؤال: لماذا لا نعود إلى أغاني التسعينيات التي كبرنا معها وشكلت جزءاً من طفولتنا ومراهقتنا وشخصيتنا؟
تُمثل الأغاني المصرية نسبةً كبيرةً من "الكيتش"، بالإضافة إلى بعض الأغنيات الخليجية والجزائرية، وتُرجع شريفة، سيطرة اللهجة المصرية على إعلاناتهم والموسيقى المُختارة لتأثرهم بالثقافة المصرية منذ طفولتهم، فكانت هي الثقافة المهيمنة على أغلب دول المنطقة العربية، فأغنيات أم كلثوم تُذاع أسبوعياً عبر الإذاعة الوطنية التونسية، وفي عيد الفطر كان التلفزيون الوطني يعرض مسرحيةً لعادل إمام فضلاً عن الأفلام والمسلسلات، وهو ما جعلهم يرتبطون باللهجة المصرية ويحبونها ويتقنونها.
توثق شريفة علاقة الكيتش والشعار الخاص بهما، الكيتش العربي الأصيل "هيسم وشريفة" بالفن المصري فتقول، إنه في أثناء بث مباشر للفنانة المصرية فيفي عبده، طلبت منها صديقة أن توجّه إهداءً إليهما وهو ما تجاوبت معه "فيفي" قائلةً: "هيسم وشريفة من تونس بحبكم أوي"، فكان الشعار الذي ضم اسم "هيسم" بحرف "السين" على طريقة النطق المصرية، واستخدم الثنائي تحية فيفي عبده لهما في افتتاحية الحفل الأول، والذي ضم 800 شخص، لتنطلق بعدها جولاتهما في المناطق الساحلية والجامعات داخل تونس، ودبي وفرنسا، وهو ما لم يتوقعاه وتوضح شريفة، أن العفوية والتلقائية هي أساس ما يقدمانه مضيفةً: "نلعب الموسيقى اللي نحبها وتُلهمنا في هذه اللحظة ونشاركها مع الناس".
خلق تُراث من أغاني التسعينيات
ياسمين الفخفاخ (26 سنةً)، واحدة من متابعات حفلات "الكيتش"، وكانت الأكثر إلماماً وحماسةً في حديثها عنها، تقول لرصيف22، إن الفكرة انطلقت من حساب على موقع إنستغرام يملكه مؤثر تونسي باسم طيّب، وهو المنسّق الحالي للكيتش. طرح طيّب، تساؤلاً على متابعيه حول فكرة العودة إلى أغنيات فترة التسعينيات التي كانت تذاع على قناتي "ميلودي، ومزيكا"، طالما أنها تُسبب سعادةً ولو لحظيةً، فلماذا نتذكرها فقط؟ معلناً عن انطلاق حفلات "الكيتش".
لم تتغيب ياسمين عن أي من الحفلات، التي تجد فيها ما لم تجده في غيرها، موضحةً أن التلقائية في تعامل "هيسم وشريفة"، مع الأغنيات، كانت جزءاً من نجاح الفكرة، وأن العروض المُقدمة لم يتم التجهيز لها، فلا يوجد عرض لراقصة مُحترفة مثلاً، والتفاعل مع الأغنيات التي يقدمانها تسبب حالةً من السعادة، موضحةً أنها تُفضّل حضور حفلات الكيتش لما توفره لها من نوعية الأغاني التي تُحبها ومساحة للرقص من دون تقيُد بشكل معين أو "تكنيك" خاص فتشعر بالحرية، الشعور الذي يتفق حوله ضمنياً الحضور، مما يجعل أقل عدد حضور في الحفلات 5 آلاف شخص.
حضور العرض في البداية كان مرتبطاً بوجودك في المطعم أو البار، ثم تطور الأمر بعد ذلك ليكون بتذاكر خاصة يتم بيعها مُسبقاً. تقول ياسمين، إن الكيتش كسر قاعدة الصورة المعروفة في"النايت كلوب" في تونس والتي تلتزم بأغنيات معينة والرقص بطريقة تناسبها، واستطاع أن يُحوّل أغاني التسعينيات إلى تُراث، رافضاً "الخجل" الذي يحاول البعض فرضه على تلك الأغاني بسبب ملابس المطربات أو بساطة الكلمات التي تصل إلى حد التفاهة في بعض الأحيان، حسب وصفها.
الكيتش كسر قاعدة الصورة المعروفة في"النايت كلوب" في تونس والتي تلتزم بأغنيات معينة والرقص بطريقة تناسبها، واستطاع أن يُحوّل أغاني التسعينيات إلى تُراث، رافضاً "الخجل" الذي يحاول البعض فرضه على تلك الأغاني
شهدت سنة 2019، آخر حفلات الكيتش قبل التوقف لمدة عامين بسبب جائحة كورونا، لتعود مرةً أخرى في أيار/ مايو 2022، وتجد روادها ينتظرون في شوق. تذكر ياسمين، في حديثها إلى رصيف22، أنه في أثناء التوقف حاول البعض تقليد الفكرة إلا أنها ظهرت بصورة مُبتذلة، وضمّ الحفل عدداً من الراقصات حتى أنهم كانوا يقدمون الفقرات على طريقة "النبطشي"، و"هو ما جلعنا نشعر بأننا فيكباريه"، وفق وصفها، ولم يكن الأمر ممتعاً كما في الكيتش. وأضافت: "في الكيتش كل مرة نفس الأغاني ونفس البلاي ليست وبنروح وندفع فلوس بس بنتبسط".
مريم أوريد (23 سنةً)، طالبة ماجستير، اعتادت حضور عروض "الكيتش" منذ بدايتها في 2018، تقول في حديثها إلى رصيف22، إن ما يُميز "الكيتش" هو اعتماده على الأغاني العربية، موضحةً أنه لأول مرة في تونس يُقدّم "دي جي" هذا النوع من الأغاني دون غيرها، وهو ما اتفق معها فيه محمد حسن (26 سنةً)، طالب ويعمل في أحد المطاعم، فيوضح لرصيف22، أن الحفلة أُقيمت مرةً في مطعم "يوكا"، وأُعجب الجميع بالعودة إلى الأغاني العربية "المصرية، واللبنانية، والخليجية، والجزائرية"، فحققت نجاحاً باهراً أدى إلى تكرارها.
"موسيقى الجيل"
بدأت قصة فنّ التسعينيات قبل ذلك بما يقرب من 20 عاماً، فكانت نتاجاً للأحداث السياسية والتغيرات الاجتماعية. ظهرت تجارب فنية مختلفة مثل "فرقة النهار" لمحمد نوح، وفرقة "المصريين" لهاني شنودة، وأسست لما أتمّه حميد الشاعري بعد ظهوره بما أطلق عليه "موسيقى الجيل". يقول الدكتور محمد حسني، أستاذ الغناء في جامعة الإسكندرية، لرصيف22، إن الشركة الحاضنة لمشروع الشاعري قررت تقديم أغنية تمزج بين الإيقاع العربي والبدوي بشكل غربي، فكانت "لولاكي" لعلي حميدة، التي حققت نجاحاً باهراً، "فأصبح العالم العربي في يوم وليلة يسمعها من دون السعي إلى فهم كلماتها إلا أن سعادته بالموسيقى غلبت كل شيء لتُدشّن بذلك عصراً جديداً للأغنية العربية".
لم يقتصر الأمر على حميد كشخص، إذ سار على نهجه عدد من الموزعين، مثل عادل عبده وطارق عاكف، وساعدت التكنولوجيا على انتشار هذه الموسيقى لتُشكل مسار موسيقى الألفيّة الجديدة. يرى حسني أن الشاعري أنقذ بموسيقاه جيل الشباب من التيه والبحث عن أغنيات لا تشبههم ولا تعبّر عنهم، مضيفاً أنه كان ومن في دائرته يبحثون عن مايكل جاكسون وجورج مايكل وغيرهما، فجاء الشاعري، بإيقاعه الحديث ليحل محلهما، معلّقاً: "عدنا إلى الأغاني العربية بفضل حميد"، ويتشابه ذلك إلى حد كبير مع ما يحققه "الكيتش العربي الأصيل" في تونس.
بالإضافة إلى ارتباط أغنيات التسعينيات في عقولنا بالذكريات التي نود العيش فيها مرةً أخرى، ربما تكون العودة إليها بعد فترة الثورات والحروب رغبةً من العقل الجمعي في الاستراحة والعودة إلى المتعة من دون قيود، ويقول حسني إنه لم يجد في فن هذا الجيل ما يوصف بالابتذال سواء في الكلمات أو المشاهد المصورة، بغض النظر عن كونه لم يُقدّم شيئاً يرتقي بالذوق العام إلا أنه كان يُحقق السعادة والانبساط والإيقاع الراقص.
فيما يرى محمد شوقي، المؤرخ الفني المصري، أن فكرة "الكيتش" ذاتها دلالة على إثراء الفن المصري ودليل على كونه عابراً للحدود، موضحاً في حديثه إلى رصيف22، أن فترة التسعينيات لم تكن فترة العصر الذهبي للفن المصري، وهو ما يجعل الأمر مُميزاً فالتأثير لم يغب حتى في تلك الفترة، والحنين إلى هذه الأغاني ولو بواسطة الـ"دي جي" دلالة على سيطرة الفن المصري على مساحة كبيرة من الوطن العربي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون