في بداية عام 2012، كنت أعمل معدّاً لبرنامج شبابي مصري يعرض على قناة مصرية. اتفق فريق البرنامج على تحضير حلقة عن "جيل الثمانينيات" وتأثير نجوم ذلك العصر ومواليده أيضاً. كنا نحتفل بمرور عام على ثورة 25 يناير التي قام بها أبناء هذا الجيل، مواليد حقبة مبارك، الذين احتفلوا بعامهم الثلاثين بالإطاحة بحكم أعتى ديكتاتور في الشرق الأوسط.
ومن ضمن أسماء الضيوف المقترحين للحلقة، طرح أحدهم اسم المطرب علي حميدة، صاحب الأغنية الأشهر في أواخر الثمانينيات "لولاكي"، لتتفاجأ مقدمة البرنامج عند سماع الاسم، فقد كانت تعتقد أن "حميدة" مطرب "ليبي". المثير أنها اقترحت اسم الفنان حميد الشاعري، الأب الروحي للموسيقى الشبابية في تلك الفترة، وتفاجأت للمرة الثانية عندما عرفت أن "حميد" هو الليبي الجنسية وليس "حميدة".
بين ليلة وضحاها، تحول اسم علي حميدة، من مطرب يبحث عن فرصة، إلى المطرب رقم واحد في مصر، بألبومه "لولاكي"
الحقيقة، إن ما اعتقدته المذيعة الشابة، ورغم خطأه، إلا أنه يلخص حياة وأزمات المطرب المصري "الظاهرة" علي حميدة، الذي رحل عن عالمنا منذ بضعة أيام. حياته، نجوميته وصراعاته، تمحورت طوال الوقت حول سلطة مبارك في مصر، وعلاقة المطرب بالنظام الليبي وقتها، وقربه من معمر القذافي، وبينهما جمهور يجهل الفرق بين الغناء البدوي لأهل مطروح وبين الغناء باللهجة الليبية.
بين ليلة وضحاها، تحول اسم علي حميدة، من مطرب يبحث عن فرصة، إلى المطرب رقم واحد في مصر، بألبومه "لولاكي"، إنتاج مايو عام 1988، يومها رقص شباب مصر والوطن العربي جميعهم على موسيقاه.
لكن قبل هذا التاريخ، كان المطرب الأسمر الشاب قد عانى سنوات طوال في كسب عيشه ومتابعة شغفه وحبه للموسيقى، وكانت المعاناة الأكبر بعد ذلك النجاح الساحق وتحقيق شهرة لم يصل إليها مطرب شاب قبله، فقد كان حميدة هو المطرب الوحيد الذي حقق مبيعات وصلت إلى 80 مليون نسخة كاسيت، لينافس مايكل جاكسون في الأكثر مبيعاً وقتها. كذلك المطرب الوحيد الذي غامر منتج مصري وأنتج فيلماً يحمل اسم أغنية له، فقط لاستغلال اسم الأغنية وشهرتها هي وصاحبها، الذي ظهر في الفيلم، قام بغناء الأغنية فقط ولم يشارك في التمثيل حتى.
كان حميدة هو المطرب الوحيد الذي حقق مبيعات وصلت إلى 80 مليون نسخة كاسيت، لينافس مايكل جاكسون في الأكثر مبيعاً وقتها
وصل المطرب إلى القمة حقاً، قبل أن يهوى فجأة وبنفس سرعة صعوده، بعد اتهامه في قضية "هتك عرض طفل" في عام 2000، سجن إثرها ثلاثة أعوام، ليخرج ويجد الضرائب قد حجزت على سيارته ومنزله، بعد مطالبته بتسديد ثلاثة عشر مليون جنيه مصري، كضرائب مستحقة على أرباحه من الغناء. فيما يقسم هو أنه لم يحصل سوى على عشرين ألفاً فقط من منتج الأغنية، هاشم يوسف صاحب شركة الشرق للإنتاج، الذي أنقذه ألبوم "لولاكي" من الإفلاس.
في الحلقة، تحدث حميدة كما لم يتحدث من قبل. تكلم عن معاناته قبل الشهرة وبعدها، يوم نام على الرصيف بمعنى الكلمة، محتضنا عوده ولا يجد قوت يومه، وحتى مصادقته للأمراء والرؤساء. قال إن نظام مبارك هو من لفق له تهمة "المثلية الجنسية".
كان الجميع يعرف واقعة سجنه بعد اتهامه بفعل فاضح مع "صبي ميكانيكي"، لكننا لم نتطرق للحديث عنها، لكنه لم يخجل في الحديث عن الواقعة، والحرب التي شنها عليه الإعلام المصري، بقيادة الصحفي مفيد فوزي، والملحن حلمي بكر. عن خيانات الأصدقاء وتهرب زملائه منه في محنته، وتخلي الجميع عنه.
وصل حميدة إلى قمة النجومية، قبل أن يهوى فجأة وبنفس سرعة صعوده، بعد اتهامه في قضية "هتك عرض طفل" في عام 2000
حكى المطرب قصة أغنية "لولاكي" التي كتبها الشاعر عزت الجندي، كأغنية وطنية في حب مصر، ومع توزيعات حميد الشاعري الموسيقية وألحان سامي الحفناوي، تحولت إلى أسطورة بأداء المطرب الذي يفهم ما يفعله جيداً، فهو دارس ومتخصص في الموسيقى العربية ودكتور في الموسيقى البدوية، ويعتز بأصوله وتراثه لقبائل مطروح المصرية، عائلات "أشتور" التي تنتمي لقبيلة "الجميعات"، الممتدة جغرافياً من محافظة البحيرة شرقاً، حتى مدينة طرابلس في ليبيا غرباً.
علاقاته أيضاً امتدت وتشعبت بأغلب أمراء وملوك إفريقيا والخليج العربي، لكن علاقته بالرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، هي ما كانت تثير غضب الرئيس المصري الراحل حسني مبارك، كذلك علاقة المطرب بنجلي الرئيسين، أحمد قذاف الدم وجمال مبارك.
عندما تحدث مطرب "لولاكي" عن الموسيقى، اكتشفت أنه يفهم فيها أكثر من كل الذين هاجموه واتهموه بأنه مجرد "راعي غنم". المتابع كذلك لألبوماته يجد أنه يحمل مشروعاً موسيقياً مصرياً تماماً، بداية من أغنيات ألبوم "لولاكي"، مروراً بألبوم "كوني لي" و"احكي لي" و"نن العين" وحتى آخر ألبوماته "خان العشرة"، إنتاج سنة 2001. لم يكن نجاح "لولاكي" عشوائياً إذن، كما كان يحاول الإعلام المصري أن يروج ويتهم صناعه من "الجيل الجديد" بالانحدار الفني، لمجرد أنهم خرجوا عن الذائقة الموسيقية لمبنى "ماسبيرو" وصناعه، بموسيقى وكلمات لم يفهموها.
لم يكن "حميدة" مجرد راعي غنم "بيعمل دوشة" بل أستاذ للعود بمعهد الموسيقى العربية، وتدربت على يديه المطربة الراحلة، وردة، والمطرب المصري ابن جيله، محمد الحلو. وبالنظر إلى تجربته التي حاول فيها استخدام فلكلوره البدوي في أغانيه، وتعريف المصريين والجمهور العربي باللهجة البدوية المصرية وموسيقاها.
نظام مبارك هو من لفّق لحميدة تهمة المثلية الجنسية
تجربة تشابه إلى حد كبير تجربة المطرب المصري محمد منير، في اهتمامه بالموسيقى النوبية قبل ظهور حميدة بسنوات قليلة، الفارق فقط هو التفاف المثقفين وكبار الشعراء والموسيقيين الواعيين في مصر حول تجربة منير، ودعمها أمام السلطة والذوق الكلاسيكي للغناء في مصر. ربما لو كان حالف حميدة الحظ قليلاً كان حقق نجومية وتفرداً كبيراً في الموسيقى.
غنى حميدة في اللقاء أيضاً، وكانت المرة الأولى التي أسمعه فيها بتركيز واهتمام كبيرين: صوت واهن لكنه يحمل بحة مميزة لا تخطئها أذن، الكفوف وصدى صوت الكورال خلفه، الزغرودة البدوية في صوته الناعم.
بعد انتهاء فقرته، وقبل مغادرته للاستديو، جلس قليلاً مع فريق الإعداد، وأسمعنا على عوده عزفه لبعض الأغاني الشهيرة. كان ودوداً للغاية ويحب إلقاء النكات، وأصر على أن يعزمنا على الغداء في اليوم التالي، لنأكل من يديه أحلى أكل بدوي، فهو معروف عنه أنه طباخ ماهر. طلب من ابن أخيه، الذي صحبه من البداية، تسجيل أرقامنا كلنا ليتصل بنا في الغد، وخرج ليجد سيارة تابعة للقناة في انتظاره لتوصيله إلى منزله بمنطقة الهرم بالجيزة.
لم يكن "حميدة" مجرد راعي غنم "بيعمل دوشة" بل أستاذ للعود في معهد الموسيقى العربية، تدربت على يديه المطربة الراحلة وردة والمطرب المصري ابن جيله، محمد الحلو
فقد حميدة كل أمواله في تسديد الضرائب، باع منزله وسيارته، وخرج من دائرة الأضواء ولم يعود إليها إلا بإعلان إصابته بمرض السرطان الذي كان قد تغلغل في جسده النحيل. لم يتسول حميدة العلاج، لكن سارع عدد كبير من الأشخاص والجهات للاستعداد لعلاجه على نفقتها، منهم الجالية المصرية في ألمانيا، عدد من أمراء الخليج ورجال أعمال مصريين وعرب.
رفضها الراحل جميعها وتلقى علاجه على نفقة وزارة الصحة المصرية. ظهرت محبة الجمهور المصري والعربي لحميدة أيضاً والحزن الكبير على رحيله. رحل في جنازة شعبية في مسقط رأسه بمحافظة مطروح، لم يكن فيها واحد من المشاهير والنجوم. جنازة شعبية تليق بفنان يفتخر به أبناء بلده وأهله وأجداده.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...