تغرب الشمس فوق الوادي الممتد تحت سفح الجبال المقدسة، وتبدأ الإضاءة الخافتة من البيوت والمجمعات السكنية المتناثرة لتوفر للمارة والجالسين نوراً شحيحاً لا يطغي على أنوار السماء. إذا ما رفع السائر عينيه يمكنه رؤية نهر "الطريق اللبني"، أي مجرتنا كما رسمها الأجداد على جدران المعابد وسقوفها. نجومها تتلألأ وتنير الوادي والجبال بنور "ربّاني" جعل من هذا "الوادي المقدس" كما يصفه التعبير القرآني ويمتدحه العهد القديم، قبلة للباحثين عن السلام النفسي والشعور بالاقتراب من الله.
هذا هو وادي سانت كاترين في المدينة التي تحمل الاسم نفسه في جنوب شبه جزيرة سيناء، والذي يشهد هذه الأيام نهاية قرون من السلام والروحانية، بعدما أمر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بتحويله والجبال المطلة عليه إلى مشروع سياحي ضخم يحمل اسم "التجلي الأعظم فوق أرض السلام" كما أسماه هو نفسه، وبات يعرف اختصاراً باسم "التجلي الأعظم".
سانت كاترين قبل مشروع "التجلي الأعظم"
على قدم وساق
بدأت الجرافات في هدم عدد من المباني القديمة وحفر الطرق في مدينة سانت كاترين منذ سبتمبر/ أيلول الماضي وسط قلق أهالي المدينة على مصائرهم، ومصير ثقافتهم ومساكنهم وتاريخهم في منطقة حافظت على طابعها وشكلها ونباتاتها وبيئتها الطبيعية منذ مئات السنين.
ويخشى نشطاء ومختصون أن يدمر المشروع البيئة الطبيعية حول الدير، ويضر بالأهالي، خاصة أن الدولة على عادتها في مشروعاتها، لم تلتزم استطلاع رؤى السكان أو استشارتهم أو حتى إطلاعهم على خطط "التطوير" التي تعتزم تطبيقها، أو تبين انعكاساتها المتوقعة على مساكنهم ومصادر أرزاقهم.
بدأت الجرافات في هدم عدد من المباني القديمة وحفر الطرق في سانت كاترين، وسط قلق أهالي المدينة على مصائرهم، ومصير ثقافتهم ومساكنهم وتاريخهم، في منطقة حافظت على طابعها وشكلها ونباتاتها وبيئتها الطبيعية منذ مئات السنين
يقول الباحث والصحافي السيناوي مهند صبري لرصيف22: "دمرت الجرافات الحكومية المقبرة المحلية، تاركة السكان المحليين لجمع رفات أقاربهم المدفونين. كما تم تهميش المجتمع المحلي في سانت كاترين واستبعاده من أي تخطيط أو حوار قبل تنفيذ هذا المشروع".
ويضيف صبري الذي يتواصل دوماً مع سكان المنطقة: "تهميش المجتمع المحلي في سانت كاترين ومن ضمنهم قبيلة الجبالية المحلية، المعروفة تاريخياً باسم حراس سانت كاترين، وعموم السكان في المنطقة، هو إهانة لا تُنسى للمجتمع البدوي وستترك إحساساً بالغضب الشعبي يستمر لعقود وأجيال قادمة".
أحد السكان المحليين تحدث إلى رصيف22 شريطة عدم الإفصاح عن هويته: "تم هدم جزء من مسجدنا، وحفر المقبرة. المستشفى الآن مغلق، ومن المقرر هدم الصيدلية ومخبز وبقّالة ومحلات ومقاه، ولا يزال مصير الممتلكات الشخصية التي تعترض طريق هذا البناء غير واضح".
وكان الرئيس السيسى قد أعلن عن "مشروع التجلي الأعظم" في سبتمبر/ أيلول 2020، وقال عنه الإعلام المصري حينذاك أنه لـ"تطوير مدينة سانت كاترين ووضعها بمكانتها اللائقة التي تستحقها، وإقامة مدينة جديدة وتعظيم الاستفادة من المقومات السياحية لهذه المدينة ذات الطابع الأثري والديني والبيئي معاً، تماشياً مع اتجاهات التنمية المستدامة".
يعمل سكان المدينة في الزراعة والرعي والخدمات السياحية. وتضم المنطقة المراد تطويرها في جنوب سيناء ثلاثة جبال هي جبل سانت كاترين، وجبل موسى، وجبل الصفصافة. ويوجد غيها دير سانت كاترين المدرج في قائمة التراث العالمي التابعة لليونسكو، ومقام النبي هارون وغيرهما من الآثار الدينية. وتعتبر أكبر محمية طبيعية في جمهورية مصر العربية من حيث المساحة، التي تُقدر بـ641 كيلومتراً مربعاً.
"دمرت الجرافات الحكومية المقبرة المحلية، تاركة السكان المحليين لجمع رفات أقاربهم المدفونين. كما تم تهميش المجتمع المحلي في سانت كاترين واستبعاده من أي تخطيط أو حوار قبل تنفيذ هذا المشروع"
لا صوت للسكان
ورغم تأكيد وزيرة البيئة الدكتورة ياسمين فؤاد في تصريحات سابقة أن "عملية إنشاء النزل البيئي بمنطقة سانت كاترين وسبل التسويق وآليات الإدارة، ستتم وفق ضوابط محددة تساهم في توفير جميع الخدمات السياحية والترفيهية للزوار، مع الحفاظ على الطابع البيئي والهوية البصرية المميزة للمدينة". إلا أن خبراء وباحثين أكدوا عكس ذلك. فقد أطلق ثلاثة منهم هم مهند صبري،والصحافي والباحث ومؤلف كتاب "سيناء: محور مصر، شريان الحياة في غزة، كابوس إسرائيل"، وجون غرينجر مدير مشروع الاتحاد الأوروبي لتطوير محمية سانت كاترين 1994-2002 مؤلف كتاب "حول الجبل المقدس.. القيم الثقافية والروحية للمناظر الطبيعية المحمية - محمية سانت كاترين مثالاً"، وجوزيف جيه هوبز، أستاذ الجغرافيا الفخري بجامعة ميسوري مؤلف كتاب "جبل سيناء"، أطلق الثلاثة نداءاً لحماية محمية سانت كاترين وإيقاف المشروع الذي اعتبروا أنه: "تحدٍ واضح وانتهاك لقوانين وأنظمة المحميات ومواقع التراث العالمي".
انشاءات خرسانية مخالفة للكود البيئي في منطقة المحمية
وقال البيان الذي أصدروه إن "السلطات الحكومية مع الشركات الخاصة بدأت أعمال البناء والهدم داخل محمية وبلدة سانت كاترين، على مستويات لم نشهدها من قبل في هذه المنطقة المعروفة عالمياً بقدسيتها الدينية وثروتها الثقافية التي لا مثيل لها وذات الطبيعة الفريدة من نوعها، متسبباً في مستويات خطيرة من الدمار الذي لا رجعة بعده للطبيعة والبيئة والنظم البيئية والتراث وكذلك للسكان المحليين وللمحمية وبلدة سانت كاترين. وسيستمر هذا الدمار في النمو، ويبتلع البلدة القديمة بأكملها، ويلحق أضراراً جسيمة بالدير، ويلوث بيئة المحمية ما لم يتم إيقاف التدمير على الفور".
مسؤول في دير سانت كاترين: "لسوء الحظ، لم يتم إبلاغ الدير قبل بدء هذه المشاريع الواسعة جداً"
يتضمن المشروع كما أعلنت عنه وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية المصرية، 14 مخططاً متوازياً ومتشابكاً، لإقامة مبان ومنشآت تقع الغالبية العظمى منها داخل المنطقة المجاورة مباشرة لبلدة سانت كاترين، على بعد دقائق من دير سانت كاترين القديم.
ونقل البيان عن أحد الآباء في دير سانت كاترين: "لسوء الحظ، لم يتم إبلاغ الدير قبل بدء هذه المشاريع الواسعة جداً".
تجاهل البيئة والسلامة
سانت كاترين قبل "التجلي الأعظم"
وأكد صبري أن "الطريق السريع الجديد الذي طوله 70 كيلومتراً والمقرر إنشاؤه لربط مدينة الطور الإدارية على خليج السويس بالمدينة القديمة، والعابر وادي الخليل، يدمر منطقة حددتها الحكومة محمية طبيعية، ويقطع المنطقة قسمين، مما يتسبب في دمار بيئي. وهذا تجاهل للالتزامات القانونية للحكومة، بالإضافة لمخاوف بشأن سلامة الطرق السريعة الجديدة في قاع وادٍ تغمره الأمطار كل عام تقريباً وتتسبب في حوادث سنوية. وفي ذلك تعريض لحياة السياح والمقيمين للخطر".
وأشار مهند إلى أنه "لا يتوقع أن يكون لوزارة البيئة أو الثقافة أو السياحة كلمة ولا سلطة لمنع أو وقف هذا المشروع، في مواجهة رأس السلطة السياسية".
وبحسب الباحث المختص في الشأن السيناوي، تضم محمية سانت كاترين 19 نوعاً من النباتات المعرضة للانقراض، ويرجح أن هذا المشروع سيساهم في تدمير بيئتها الطبيعية، مضيفاً: "لم نسمع من وزارة البيئة أي تعليق على الحفاظ على هذه النباتات التي لن يكون لها أي فرصة للنجاة".
ما صارت إليه منطقة وسط المدينة
وختم صبري: "سانت كاترين هي وجهة سياحية بسبب حالة العزلة الطبيعية النقية التي تعيشها منذ مئات السنين، ولكن الدولة لا تراعي التراث الوطني والطبيعي، ورأينا ذلك في القاهرة والأسكندرية. فليس مستغرباً تطبيق ذلك الآن في سانت كاترين".
إسكات المجتمعات المحلية
وبيّنت سيدة تعيش في جنوب سيناء منذ عدة سنوات، فضلت عدم ذكر أسمها لأسباب أمنية، أن الحكومة أبلغت قبيلة الجبالية وهي المجتمع المحلي في سانت كاترين بخطط التنمية عندما أعلنتها مع رسوم توضيحية لمراحل العمل، "إلا أن المجتمع المحلي لم يشارك في التخطيط، ولم يتم إبلاغه بعمليات الهدم التي بدأت في الانتشار داخل المدينة الصغيرة. فالناس قلقون على مصيرهم وبيوتهم وأسلوب حياتهم".
وواصلت: "هذا يمثل تغييراً كبيراً في المناظر الطبيعية والمدينة والمجتمع. فالبناء السريع مع ارتفاع المباني في المركز يقزم منازل البدو في الخلفية، ومن المحزن أيضاً أن نرى التلوث والنفايات في هذا المكان العريق، كما أن كمية الخرسانة المضافة إلى وادي الراحة هائلة. فمن المفترض أن يظل الوادي سهلاً طبيعياً فارغاً كما كان منذ مئات السنين".
ورغم أن المنطقة هي وجهة سياحية لمحبي الخلوة والطبيعة والتأمل وكذلك للمتدينين، "من المثير للاهتمام التفكير في عدد السياح الذين يستعد هذا المشروع لاستيعابهم. متوقع ألا تكون القوى العاملة التي تخدم هذه المباني الجديدة من البدو"، بحسب قول السيدة.
إحدى السكان: البناء السريع مع ارتفاع المباني في المركز يقزم منازل البدو في الخلفية، ومن المحزن أيضاً أن نرى التلوث والنفايات في هذا المكان العريق
وُعدَ البدو الذين يعيشون في وادي الراحة بالتعويض المادي مقابل هدم منازلهم، لكنهم لا يعلمون ما هو هذا التعويض ومتى يتم دفعه. ويخشى الكثيرون أن يجري تعويضهم بشقة لا تناسب أسلوب حياتهم التي اعتادوها، إذ يعيشون في منازل ذات مساحة خارجية لمواشيهم وللزراعة. عن ذلك قالت السيدة: "المشروع عبارة عن فنادق من أربع طبقات وشاليهات خاصة ومبان سكنية وفيلات منتشرة في جميع أنحاء المدينة، بالإضافة لمركز تجاري يهدد تجارة السكان المحليين الصغيرة".
وأضافت: "المقهى المركزي في جوار المسجد بُني مطلع الستينيات، فيه يجتمع معظم أفراد المجتمع على مدار الأيام، وهو الآن مهدد بالهدم. يعتقد معظم الناس أن هذا المشروع ليس لهم ويخشون أن لا تكون هناك مساحة واسعة تطل على المدينة".
وأكدت السيدة أن المجتمع المحلي يستفيد من الوظائف التي يخلقها العمل في المشروع، إذ تم تشغيل بعضهم كسائقين وحراس أمن وفريق انتظار لمهندسي المشروع، و"ذلك سينتهي مع انتهاء أعمال البناء"، حسب تعبيرها.
في سياق متصل، ترى الدولة المصرية أن المشروع سيلفت انتباه العالم لهذه المنطقة السياحية الدينية والبيئية، فيما يقول النشطاء والأهالي إن المنطقة تحتاج أن تبقى على طابعها الأصلي، وهو الهدوء والراحة والسكينة وعدم الزج بها في متاهات السياحة التجارية التي تستقطب سياحاً غير مهتمين بتاريخ المنطقة وقدسيتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 12 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.