شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
تاجرة البندقية تدخّن دون خوف

تاجرة البندقية تدخّن دون خوف

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 8 أكتوبر 202201:51 م

"لا"


كانت تجذبني تلك الشراهة التي يمتصّ بها الرجال من حولي لفائف التبغ. أتأمّل شموخ الإصبعين "الوسطى والسبابة" وهما يضيقان الخناق على السيجارة دون أن ترتجف أو تتزعزع، وكأنها تمنحهم الشعور بالقوة. أصبحت أحب وضع أعواد البخور في فمي مشتعلة لمحاكاة حالة التدخين، لأجلس وإصبعيّ في حالة شموخ بقبضهما على عود البخور الرفيع، وفوقي هالة من الدخان الأبيض برائحة العنبر.

أستمر في تمثيلية التدخين حتى أبلّل العود الخشبي الرفيع ذا الطعم العطري، لأمسك بالدخان وأسكنه رئتي، وأصبح سيدة قراراتي مثل رجال عائلتي. أتحدّث وأنا قابضة على عود البخور بحرية، أتدرّب على طلبي للعبة جديدة، أو الذهاب إلى صديقة تسكن بعيداً، أو الغياب عن الدرس، بثبات وإصرار، وكأنني دون هذا العود أعود طفلة منطوية هادئة.

أخبرتني جدتي سارة أن التدخين للرجال فقط، وهي تقبض عليّ متلبسة بالبخور للمرة العاشرة، كانت كل مرة تسحب من فمي العود المبلّل بهدوء، وتثبته في قلب حبة طماطم على طاولة التلفاز، ثم تعيد لي درس أن التدخين عادة سيئة، ولا يمكن التوقف عنها، وأي شيء لا يمكننا التوقف عنه، وقول "لا" أمامه، هو مدمّر، ولا يقدر عليه إلا الرجال، وكنت أخبرها أنه مجرّد بخور، وأستطيع أن اقول له "لا".

بندقية دون بارود

كيف كان يمكن أن أتقبّل موت جدتي سارة وأنا في التاسعة من عمري، أو موت جارتنا سميرة، التي كنت أحبها مثل أمي وأنا في السادسة من عمري، أو حتى انتقال معلمتي المفضّلة نجاح إلى مدرسة أخرى وأنا في السابعة من عمري، أو إصابة ابن عمي الطفل الصغير بمرض سيجعله معاقاً إلى الأبد وأنا في الثالثة عشرة من عمري، دون دموع؟ أي أسئلة أفرّق بها دماء الغضب والخوف داخلي؟

دموعي وأسئلتي وقتها كانت تتسبّب في كارثتين: الأولى ستسبّب عذاب القبر لمن مات، لأنها ستأتيهم على شكل جمرات يُرجمون بها، كلّما ذرفت من عيني نقطة مالحة حزناً عليهم، والثانية في كون دموعي وأسئلتي أصبحت بمثابة اعتراض، مثل قول "لا" أمام مشيئة الله، وهذا حرام، ويجلب السخط والفقر.

عشت سنوات أصلّي خمسة فروض وأصوم النوافل، حتى أتجنّب نفاذ رصيدي عند الله بسبب أسئلتي وحزني وبكائي، فأتحوّل لمسخ مسخوط. أكتب في ورقة صغيرة كم مرة نقص إيماني، ومال قلبي نحو كلمة "لا"، وكم مرّة مارست طقوس الطاعة لأعدّل بين الكفتين. ظللت احسب بآلة المدرسة معادلات الطاعة والتمرّد، لأخرج ناتجاً يرضي كلانا.

كنت لا أريد الهجرة إلى الجحيم، والإقامة الأبدية مع المتمردين التي كانت محاولات فهمهم تشبه البحث عن بوابة النعيم في بلاد العجائب، بلاد العجائب التي تخلت عن ذكرها القصص الخيالية منذ دهور سحيقة. 

ظللت احسب بآلة المدرسة معادلات الطاعة والتمرّد، لأخرج ناتجاً يرضي كلانا، أنا والله. كنت لا أريد الهجرة إلى الجحيم، والإقامة الأبدية مع المتمردين التي كانت محاولات فهمهم تشبه البحث عن بوابة النعيم في بلاد العجائب... مجاز

في بداية العشرين من عمري، أخبرني رجل لا يعجبني أبداً أنه معجب بي. لم أقل له "لا"، وحين علمت حبيبته أساءت لسمعتي، فمرضت جداً، ولكني لم أقل "لا". عند أول لمسة مختلسة من جسدي، نفرت وبكيت، لكني لم أقل "لا". عندما خرجت ألف مرة مع أصدقاء لأماكن لا أحبها، وظلّ وجهي عابساً، لم أقل "لا".

ظلت "لا" غائبة عن قاموسي، بشكل لا واع، وكأنها سقطت في بئر بطول المسافة بين السماء والأرض. غاب تشخيص العلّة سنوات، كان الأمر يشبه سمكة مصابة بضعف الذاكرة أكثر من المعتاد، تضع ألف بيضة في كل دورة تكاثر، فتأتي سمكة أخرى تأكل منها واحدة في كل مرة، لم تدرك السمكة الأم الحدث أبداً، لكن قلبها يظل يتألم دون القبض على أي سبب.

لم أفهم يوماً منطق من كانوا يصرخون في وجهي بسبب قولي كلمة "لا"، وهم يعاتبون على غيابها بنفس اليقين ووتيرة الصريخ، يسألون، وهم يضعون رجلاً فوق رجل وبين أصابعهم سيجارة هشة: "كيف صمتي؟ كيف سمحتي؟ كيف بقيتي؟". أمر تعجّبهم يشبه إعطائي سدادة فلينية لزجاجة نبيذ فاخرة، لأغلق بها فم بالوعة بطول وعرض سنواتي.

أشبه اليوم من نجا من حرب طويلة، يتألم من ذكرى الحرب ويدعو طوال الوقت للسلام، ويتطرف أحياناً دون قصد من خوفه ليعود أسيراً، فيصنع الأسلحة ويتاجر بها

لا أعلم أي بندقية تلك التي اكتشفت أنا والجميع فجأة امتلاكي لها، واحتمالية التصويب بها ببراعة. إن أحضرنا المنطق سنجد أنه كان طبيعياً جداً أن أصمت أمام رغبة الرجل الذي أخبرني أنه معجب بي، حتى وأنا لا أريده أبداً. اليوم أستطيع أن أصف شكل قمعي لنفسي سنوات، سواء في هذا الموقف أو في ألف غيره، ثمة شيء داخلي يظل يخبرني بأنهم صادقون، وبأنني تافهة وضئيلة، وأنهم رجال وبالتالي يدركون جيداً معنى طلباتهم، ويقبضون على مصائرهم بسهولة مثلما يقبضون على السيجارة بإصبعين ضعيفين، ثم أضع على كافة مشاعري واحتمالية أفكاري قفلاً وأنهي النقاش.

ومع مرور الوقت، نمت هيبة الآخرين وانكمشت أكثر هيبتي، وطال الأمر كل رجل وامرأة، كل غريب وصديق، أهب الجميع صكوك إلحاق الخراب بحياتي دون عواقب، قناعة تطفو على فوهات المنطق في عقلي، تخبرني بأن الجميع لديه أسباب ومبررات لأفعاله، واستحقاق أكبر وأعمق من احتمالية قبولي أو رفضي لأفعالهم، بل أقوى وأكبر من وجودي بأكمله، فاعتدت الظلام والضآلة، وأصبحت عيناي لا تراني، كل جملة تعبر عني أو تصفني غابت النقاط من فوقها، وأصبحت كل الجمل بلا معنى أو دلالة تفيد، حتى البندقية التي جاءت من العدم مع فكرة قدرتي على التصويب بها هي بلا بارود أو رصاص.

تاجرة البندقية

عشت ستة وعشرين عاماً ونصف ثمرة يانعة، لا تتذمّر أبداً، شهية جداً، وبالغة، تعبّر هيئتها عن قدوم موسم القطاف، وحين أصيبت قشرتها الخضراء الخارجية بشقّ من خنجر عامل عابر، مهمّته تقييم محاصيل الموسم، اكتشفت أنني مجرّد غلاف أخضر، وما تحته لا يشبه الثمار، بل حفنة ديدان مقزّزة، ترقص وتبكي وتنام وتتكاثر عللها.

"لا" التي امتلكها ينقصها شيء، ماتت جدتي بكل حكمتها قبل أن تدركه. سأبحث عنه من خلال هدنة، ومحاولة الحياد، وتلجيم شفرات مقصلتي التي تتغذى على كل من يخرج عن النص، وإطلاقها على النص ومن فيه... مجاز

عمري اليوم هو سنة ونصف، وليس ثمان وعشرين. عمري الحقيقي حين شُخّصت علتي، وامتلكت بندقية بها بارود من ماركة "لا"، واكتسبت مهارة التصويب بها. أتعجب من قدرة كلمة صغيرة من حرفين اثنين على إعادة ترتيب المواقف والأفعال والأشخاص. كيف تمسح برشاقة على العتمة فتضح الحدود، وكيف تعيد كتابة النهايات لتمنحك الإنصاف؟

لم تكن جرعة المعرفة وتطبيقها أمراً سلساً، بل جرى الأمر على مراحل طويلة، وبخطط مقصود وغير مقصودة، باستشارات أطباء واكتشاف كل أبعادي النفسية، ذهاب رحلات طويلة نحو الماضي والحديث عنها مع أصدقاء أكبر ودوائر أكثر أماناً، وخاسرات كبيرات، ودموع تشبه سواد وعنف الفيضانات. العام والنصف الذي مارست فيه منهج "لا" استغرق سنوات من محاولة الكشف والإدراك.

أشبه اليوم من نجا من حرب طويلة، يتألم من ذكرى الحرب، ويدعو طوال الوقت للسلام، ويتطرف أحياناً دون قصد من خوفه ليعود أسيراً، فيصنع الأسلحة ويتاجر بها.

ربحت كثيراً وهدئت أكثر، وأصبحت متزنة وحقيقة بوجود "لا" في حياتي. منعت الحدود احتمالات كثيرة لقصص نهايتها ستكون مؤلمة، ومنعت مع تلك التجارب الجانب المندفع المجنون الذي يمنح أصحابه المتعة والإثارة والاكتشاف، فاتسع داخلي شعور الوحدة، وافترستني أفكار احتمالية استمرار انعدام الونس، فترجمة أفعال البشر وتفسيرها وكشفها، يدعم بقوّة الخوف، ويوجّهني نحو التقوقع من أجل استمرار النجاة والسلام.

فقدت متعتي وأنا أسمع كلمات الغزل بسبب توجهي نحو التنبؤ بما سيأتي بعدها، لم يعد الحب مقبولاً دون قواسم تشبه قواسم معادلات الرياضيات، لأتمكن من إخراج رقم بعد علامة الـ "يساوي" ذي قيمة مرموقة. حتى الجسد راحت متعته، تعانق فكرة فصله عن الحب ورفض التصاقه به. أحنّ  من داخلي أحياناً لوقت دون حسابات واستنتاجات، لترك الأبواب مواربة أمام العابرين، لأعود أتأثر وأمتلئ ثم أتقيأ وأمرض، لأقبّل في الظلام الرجل الذي يحبّني، وأتمسك ببقائنا سوية حتى في غياب كل شيء يمكن أن يضمن ذلك. أحبه وأترك الزمام.

أريد أن يبقى أثر "لا" حاضراً، ولكن في نص وسطي. أريد أن أكون ضعيفة أحياناً، ولا أخجل من عيش ضعفي والحديث عنه، مثلما أتحدث عن قوتي وقدرتي على التحكم بمشاعري، والدعوى لذلك. لا أعلم إن كانت تلك النقيصة هي الشوكة التي تعيش في حلق كل ما تمنحه لنا الحياة، أم هي سوء فهم مني، ورحلة أخرى تناديني لأكتشف المزيد عني وعن الحياة.

 أتذكر اليوم جدتي سارة حين أخبرتني أن الأشياء التي لا نستطيع أن نقول لها "لا" هيا أشياء مدمّرة لوجودنا مثل السجائر، ولا يقدر عليها إلا الرجال، فأعود متمسّكة بقوّتي، فخورة بنفوذي على حياتي، بحملي للبندقية، وبتجارتي في صناعتها، من خلال نصيحتي الدائمة بقول "لا"، والتعرّف على الذات، والتوحّد معها، لكنني ما زلت أؤمن أن "لا" التي أمتلكها ما زالت ناقصة شيئاً ما، شيئاً يمنحني الراحة والأمان معاً، لا واحدة منهم من دون أختها.

"لا" التي امتلكها ينقصها شيء، ماتت جدتي بكل حكمتها قبل أن تدركه. سأبحث عنه من خلال هدنة، ومحاولة الحياد، وتلجيم شفرات مقصلتي التي تتغذى على كل من يخرج عن النص، وإطلاقها على النص ومن فيه. سأظل أحاول حتى أدخّن بشموخ ودون خوف لفائف تبغ حقيقة، لا أعواد بخور برائحة العنبر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image