حياكة الكلام
يسير بين الناس مراقباً، تلفته تلك السيقان الممتلئة والبطون المنتفخة للنساء، ينظر إليها لساعات طويلة دون ملل. يهتزّ وجدانه لهذا الدفء الذي يغمره، وهذا الحنين الجارف للنهود المكوّرة التي تحمل الرزق بين قنواتها. لم تجذبه وهو في عمر العشرين تلك النهود الصغيرة للمراهقات، بل تجمّد أمام الأخرى التي تمنحه وعداً بالامتلاء والشبع.
ينظر للمرأة ذات التكوير الممتلئ من المنتصف التي تسير بجانب الطريق، يرمقها بعض الرجال ساخرين من شكلها، بينما هو ينصهر أمامها. تتفتّت خلاياه متبعثرة في جسده المتمرّد عليه. يشعر بالحسد فقط من هذه الكائنات الصغيرة التي فازت بالجنة بينما هو يكتفي بالمراقبة فقط.
تمر الشهور وهو يستمر في الذوبان، يكاد شوقه يدفعه للارتماء بين ساقي أي امرأة ليعود إلى عالمه، بينما يهيم في الشوارع يقترب منهن باحثاً عن ملاذه. في مرة ضربته امرأة فوق الأربعين كاد يلتصق بها، واتهمته بالتحرّش، وسبته قائلة: "اخجل. أنا في عمر أمك". ضحك ببلاهة فتركته ورحلت.
ما معنى أن يكون بهذا الحجم الكبير في هذا الكون الواسع، أليس من الأفضل أن يكون كحبة الفول أو أكبر قليلاً في عالم أصغر كثيراً من ذلك. ما فائدة هذه السيقان الطويلة وهذه الأذرع الممتدة يميناً ويساراً دون حاجة؟!
يشغل حيزاً أكبر مما يريده، ويستهلك ذرات الأوكسجين عبثاً، بينما يشتاق فقط لبدايته ولأول تكوينه.
ما معنى أن يكون بهذا الحجم الكبير في هذا الكون الواسع، أليس من الأفضل أن يكون كحبة الفول أو أكبر قليلاً في عالم أصغر كثيراً من ذلك. ما فائدة هذه السيقان الطويلة وهذه الأذرع الممتدة يميناً ويساراً دون حاجة؟!... مجاز
افترش الأرض تحت قدميها باكياً راجياً، حتى بلل طرف ثوبها. يستجديها منذ أيام حتى توافق، وفي كل مرة تنظر إليه وكأنه أخرق عائد من مستشفى المجانين. يكرّر طلبه فتزجره وتركله بساقها بعيداً، فيعيد الكرّة مجدداً بعد يومين أو ثلاثة دون كلل.
ينظر بين الحين والآخر إلى مسكنه الأول مدققاً، ينتابه الفضول حول رائحته وحرارته، يشتاق لتلك اللحظات البعيدة التي عاشها هناك مطمئناً، دافئاً، ساكناً. هل يمكن أن تستقبله أي امرأة غير أمه، أم أنه سيكون غريباً هناك؟ هل سيستقبله موطنه بحفاوة أم سيلفظه ناقماً؟ لا يستطيع أن يخاطر بالفشل، سيعود من خلال قناته الأولى.
حاولت الأم أن تسدّ أذنيها عن بكائه، تتجنب حتى النظر إليه محاولة وضع حجر مكان قلبها الذي ذبل حزناً عليه، منذ شهرين دخلت عليه الغرفة. وجدته يوشك على الانتحار، فمنعته في اللحظة الأخيرة، ففجر براكين دموعه بين ذراعيها قائلاً: "أعيديني إلى رحمك... هذا هو الحل".
لم تصدق أذنيها أول الأمر ولكنه استمر في هذيانه: "هذا هو المكان الوحيد الذي شعرت فيه بالراحة، هذه الدنيا لا تسعني". لأسابيع لم يترك طرف الموضوع، وظل يكرّره على مسامعها طوال الوقت حتى عرفت أنه أصابه مسّ شيطاني.
كان الشاب يحوم حولها باستمرار، يجلس بين ساقيها. يتحسّس مواضع جسدها وكأنه يشتاق لموطنه الأصلي. لم تعد تطيق صوت البكاء وهذا الإلحاح الذي يجثم على صدرها ويخنقها كل ساعة، قرّرت أن تستجيب له علها تنجو منه أو ينجو هو. أعادت النظر إليه فوجدت عينيه نائمة فوقها، يكاد يلتهمها. ربما يكون هذا هو عقابها: الالتهام، إن لم تستجب له ربما سيمحي وجودها تماماً.
أضواء ساطعة تعكّر عتمة جنته، شيء ما يحدث... كانت الجدران من حوله تنقبض بشكل مباغت أقلقه، صوت والدته يأتيه ضعيفاً راجياً، دفعات تقذف به بعيداً عن عالمه، لقد خرج للجحيم مجدداً... مجاز
سألته الأم كيف ستفعل؟ مس شيطاني ربما أصابهما معاً وكأن الشاب لديه كل الإجابات، تخلّص سريعاً مما عليه ليعود عارياً كما جاء إلى الدنيا. بدأت الأم تستعد لاستقباله وكأنها تفعل ذلك كل يوم. انكمش فهو يعرف مكانه جيداً، دخل بين ساقيها بسهولة كبيرة، تمددت له تلك الأنفاق الضيقة التي ألفته سريعاً، انزلق بينها ليصل إلى هذا العش الذي يعرفه.
عاد الابن بيسر لمسكنه الأول واعتاد على طراوة الجدران وانغمس داخلها. تنفس بسهولة لم يتوقعها، ومع الوقت بدأ يمتص غذائه بغريزته البدائية. مشكلته الوحيدة كانت طول ساقيه، كانت ترتطم مع الوقت بهذه الأشياء التي لا يعرف اسمها. تجاهلها، وبدأ ينعم بالجنة.
نسي منذ سنوات كيف يكون الظلام وكيف يتعامل معه، بدأ يعيش كل شيء من البداية، يتذكر لحظاته الأولى، يعيد ترتيب دقات قلبه بما يتناسب ووضعه، وبعد أسابيع بدأ كل شيء فيه يصغر، عاد رأسه لحجم الجنين، وانكمشت ذراعاه وساقاه، حتى هذا العضو بينهما ضمر ليصبح بحجم الإصبع. لفتته من جديد هذه المياه التي يعرفها.
لم يعبأ بالتغير الذي حل به، وقرر أن يعيش سعادته بكل الطرق الممكنة، كانت تصله تلك الأصوات من الخارج من وقت إلى آخر. صوت أمه ومعها صوت جديد لا يعرفه. من هو؟ إنه صوت رجل. هل قررت أمه أن ترتبط بعدما تخلصت من مسؤوليته؟ حاول أن ينظر من هذه الفتحة الصغيرة التي دخل منها، ولكن حجم عينيه الجديد لم يسمح له.
شعر مجدداً بالاشتياق لوالدته، إلى النور، إلى هذه الروائح التي يألفها، استعاد عزيمته وطرد هذه الأفكار من رأسه. جدد في كل لحظة استمتاعه بهذه الجنة الهادئة، وبعد أسابيع عادت إليه الأصوات بصورة أعلى، صوت غريب يحثّ أمه على الهدوء.
"لقد تأخرت على موعدك كما أتصوّر"... أتاه صوت الرجل الغريب ثانيةـ ثم سمع صوت أمه.
نعم. لن تصدق ولكنه في الداخل منذ 10 شهور كاملة!
أضواء ساطعة تعكّر عتمة جنته، شيء ما يحدث... كانت الجدران من حوله تنقبض بشكل مباغت أقلقه، صوت والدته يأتيه ضعيفاً راجياً، دفعات تقذف به بعيداً عن عالمه، لقد خرج للجحيم مجدداً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...