"لا"
كنتُ طفلة خجولة هادئة لم تعرف غير حاضر ونعم، لكن في خيالها تحلم ب "لا" وتستعدّ لليوم الذي سيمكّنها من اقتناص الحرفين وقذفهم دفعة واحدة أمام الجميع، وتجري لتختبيء وراء الستارة الحمراء السميكة، تختلس النظر بنصف عين، تترقب أثرها على العالم.
عهدت "لا" مرادفاً للخوف فلا مجال يتسع لكلانا معاً، لكنها ظلت قابعة بأفكاري تراودني، وتسللت بعد وقت قصير إلى قلمي، فصار المساء موعداً يومياً مقدساً لي مع دفتر أزرق كبير أبثه "لاءاتي" الكثيرة واعتراضاتي على العالم والأشخاص والظروف الأقرب لي.
تجربة التذوق الأولى لطعم كلمة "لا" وإن كانت مُرة.
ألقيت بأول "لا" بوجه أبي وأمي، معترضة على رفضهم لاختياري للشخص الذي رغبت بالارتباط به لبقية حياتي.
لم يكن الأمر سهلاً، ظلت راية أول "لا" مرفوعة لأربع سنوات، تخللها الكثير من المشادات، حتى رضخوا واستسلموا لمطلبي شريطة ألا أشكو وأعترض يوماً ما، وقبلت.
لا للزواج المدبّر وقسر النساء
بعدها عانيت كثيراً من آثار هذه الـ"لا" ولازلت، لكن الله رزقني بأكبر "لا" وقتها متمثلة في طفلي الأول الذي دأب على رفض كل الحلول الوسطى والحيادية، بداية من رفضه للرضاعة الطبيعية -بعد حادث بعينه- مروراً برفضه للصوت العالي بأول يوم له في الحضانة، ثم رفضه لأسلوب الترهيب بأول عام دراسي.
كانت أولى أغنياته المفضلة هى شرارة أو علامة مبكرة على طريق دفعني له بعد ذلك، كانت أغنية للفنان الليبي حميد الشاعري، يقول مطلعها: "لا قشر البندق لا... آه قلب البندق آه".
كان يكررها ثائراً رغم هدوئه معظم الوقت، فجاء القرار الذي دفعني لثاني أكبر "لا" في مسيرتي التربوية معه.
لا لتنميط طفلي وجعله فرداً من القطيع حتى يرضى المجتمع
قررت بناء على ملاحظاتي ومن منطلق حرصي على بناء شخصيته وسلامه النفسي أن أخوض غمار تجربة التعليم المنزلي أو المرن، بعيداً عن أسوار المدرسة، حيث الأوامر والنواهي والتنميط في أعلى صورهم، وحيث الزجّ به في معركة تنتهي بنصر المجتمع والقولبة إلى حد كبير، خاصة على الذكور.
اعتراضات من الأهل والأقارب والجيران وكل من يسمع بقراري، الكل يُبشّرني بالندم ويُهددني بالنبذ، وبأنني أحكم على طفلي بضيق الأفق والانعزال والتوحّد والأمراض النفسية.
بعدما أعدت تفكير وقارنت الأوضاع التعليمية في مصر ببعضها البعض، لم أجد أفضل من هذا القرار وقتها، إلى أن يجدّ جديد في الوضع العام وأجد المعايير التي أرتضيها لطفلي متاحة بمكان تعليمي ما يناسب إمكانياتي.
أليس جسدي من حقي؟ ما الضرر الذي سيلحق بكم جراء إجهاضي؟ ماذا يفيد المجتمع اذا حملت بطفل أو تخلصت منه؟ وبماذا سيفيدني المجتمع إذا أنجبت طفلاً غير مرغوب فيه، وأصبحت امرأة بائسة تربي طفلاً سيكرهها يوما ما؟ ... مجاز
أخذت على عاتقي المهمة، وخلال أربع سنوات تالية حملت مسؤولية تعليم وتثقيف وتربية ابني الكبير، وطفلي الثاني من بعده، الذي كانت أولى كلماته فى الحياة "لا".
خضت تجربتي وقرّرت أن أترفق بنفسي وبه، ولم أجلده أو أجلد نفسي كأيام الدراسة بالمدرسة إذا فاتنا درس أو نقصت درجاته بعض الشيء، هدأت نفسه وانفض الجمع الغاضب من حولي يائسين مني، فتلمست طريقي معه، وانتبهت لمواهبه وتتبعتها حتى أصبح يعرف فى سن 10 سنوات ماذا يريد أن يتعلم وكيف، ومازلنا ننهل من التجربة حتى يقرر هو أن ينهيها ويعود للمدرسة أو لا.
لا مزيد من الأطفال في عالم يأكل أطفاله
وسط التوسلات المتكرّرة من أمي وأم زوجي بضرورة تفكيرى فى الحمل مرة ثالثة لأني لم أرزق بفتاة، كنت أجابه نداءاتهم بلفت نظرهم إلى واقعنا المرير وصعوبة المعيشة والغلاء وإحساس دفين بالذنب لمجرد أني كنت سبباً فى وجود أطفال فى هذا العالم البائس.
لا جدوى من دفاعاتي ولا أمل من اقتناعهم، وفى خضمّ هذا الضغط يحدث ما لم أكن أتوقعه: "حمل خطأ"... صدمة وتشتت وحزن وبكاء يعقبهم هدوء لمعرفة كيف سأتصرف.
استهلك قرار خلع الحجاب مني عامين حتى نفذته، وأعوام أخرى كثيرة حتى يقتنع أبي أن لي كل الحق فى اختيار كيف سيبدو شعري، به أو بدونه... مجاز
استقرّ قراري على التخلص منه، خاصة وأننا لازلنا فى الشهر الأول، ولكن كيف سأفعلها؟ لن يقبل أى دكتور أن يقوم بها، ولا أمتلك المال الذي يمكن أن يطلبه أحد الأطباء الذين يستغلّون الموقف، ولا أعرف كيف يمكن أن أحصل على نصيحة آمنة لإجهاض آمن.
سألت عن الأدوية التي تساعد على الإجهاض فى الصيدليات، ورغم أنى متزوجة وبيدي خاتم الزواج، لكني لم أسلم من السب واللعن.
أتساءل: أليس جسدي من حقي؟ ما الضرر الذي سيلحق بكم جراء إجهاضي؟ ماذا يفيد المجتمع اذا حملت بطفل أو تخلصت منه؟ وبماذا سيفيدني المجتمع إذا أنجبت طفلاً غير مرغوب فيه، وأصبحت امرأة بائسة تربي طفلاً سيكرهها يوما ما؟
لا مزيد من الأطفال في عالم يأكل أطفاله...
مجتمع يخشى شعري أكثر مما يخشى القنابل
حزينة رحت أبحث عن حلّ حتى وصلت لمن يمكن أن يساعدنى ويأتينى بأدوية تساعدني على ما أريد، ولو كانت بأضعاف السعر المتعارف عليه. لم أخبر أحداً، فمن سيرغب بمساعدة سيدة تريد التخلص من حملها المبكر دون أن يشبعها تقريعاً وترهيباً ويصف لها نار جهنم المستعرة التي تنتظرها.
تمت المهمة بسرية وإعياء شديدين، بعيداً عن أعين المجتمع حامي الفضيلة. رغم الألم، حاوطني شعور بالنصر عليهم جميعاً وتعافيت.
مجتمع يخشى شعري أكثر مما يخشى القنابل
جاءت الـ "لا" التالية في مواجهة مباشرة مع المجتمع والأسرة والشارع والعمل، وحتى حارس العقار، عندما قرّرت خلع الحجاب.
استهلك القرار مني عامين حتى نفذته، وأعوام أخرى كثيرة حتى يقتنع أبي أن لي كل الحق فى اختيار كيف سيبدو شعري، به أو بدونه.
مناورات قمت بها حتى أؤجل أو أجدول معاركي مع الآخرين بسبب خلع الحجاب: أصدقاء، جيران، أقرباء، زملاء عمل... أحياناً بالتجاهل وكثيراً بالحدة والوضوح حدّ التهديد بخسارة الشخص إذا تجاوز فى هذا الموضوع.
ولكن كانت المشكلة الأكبر في أبي الذي يحرص على نصحي بارتدائه سنوياً بشهر رمضان، حتى لا يضيع أجر الصيام والصلاة كما يعتقد، مستنكراً اتخاذي لهذا القرار رغم زواجي وإنجابي لطفلين، وكأن من يخلعنه يفعلنها بحثاً عن زيجة جديدة.
إعادة التفكير في المسلمات يبدأ من "لا"
أما أحدث "لا" فقد ألقاها طفلي الذي أصبح على أعتاب المراهقة في وجهي مؤخراً، عندما واجهني أنه يرى أن السعادة لا يمكن أن تكون في الزواج حصراً، وأن هناك أموراً في الحياة قد تحقق نفس الغرض، مثل العمل فى ظل وجود عائلة محبة وأصدقاء داعمين، وهذا ما ينوي فعله، خاصة إذا أراد لأطفاله حياة سوية مريحة، فاستدركت متسائلة: وكيف سيكون لديك أطفال وأنت لا تنوي الزواج؟ فأجابني أن العالم لديه ما يكفي من الأطفال فلم ننجب له المزيد؟ وأنه حتى وإن تزوج لا يريد الإنجاب وإنما التبني!
فابتسمت ابتسامة مطمئنة له وقلت: "ولم لا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...