"لا"
في طبق بألوان خلابة أضع سمكة واحدة بلونها الذهبي المميز، وعليها بضع قطع من الخضار للتزيين. أضع الطبق الشهي أمام ابنتي، فتؤكد أنها لن تتناوله. أقول في نفسي سأحاول أن أخدعها، فأضع اللحم الأبيض للسمك وسط ملعقة من الأرز الأبيض وأخفيها. تتناول ابنتي الملعقة، فترفضها بعد أن يصل طعم السمك لفمها.
أغضب منها، وأؤكد لها أن طعمه شهي. أحايلها وأغني لها، وأؤكد لها أن السمك سيمنحها القدرة على تنفيذ كل حركات الجمباز الجديدة التي تعلمتها للتو. ترفض ثانية. أخاف عليها حقاً من فقدان القيمة الغذائية الموجودة في الأسماك، وكل المأكولات البحرية التي ترفض تناولها تماماً. أفكر في الخداع مرة أخرى وتكتشف الأمر مرة أخرى. في النهاية قمت بتحضير وجبة أخرى من الطعام لها. نامت الصغيرة بعد يوم طويل هبّت علي به هجمات عظيمة من تأنيب الضمير وترسيخ مشاعر أني أم فاشلة.
*****
في الليل، بعد أن نامت ابنتي، قمت بالتفكير في طريقة تجعلها تتناول كل الأطعمة التي ترفضها. تذكرت نفسي في الصغر، عندما كانت أوقات الطعام أوقات تعذيب خالصة. لا أحب العودة من المدرسة لأني سأضطر لتناول أي نوع من الطعام حتى وإن كنت لا أحبه.
كانت أمي لا تؤمن بالخداع، بل تؤمن بأن كل ما خلقه الله من أطعمة يجب أن نحبه ونتناوله، لذا فإنني أتذكر أن الطعام كان يوضع ومعه "عصا بلاستيكية". كانت الإشارة واضحة والتلميح لا يحتاج إلى تصريح: إن لم يتم تناول الطعام بالرضا فالإجبار باستخدام الضرب موجود. كان الخوف أكبر، فصرت أتناول أي طعام خوفاً من الضرب حتى وإن تقيأت بعده.
كانت أمي لا تؤمن بالخداع، بل تؤمن بأن كل ما خلقه الله من أطعمة يجب أن نحبه ونتناوله، لذا فإنني أتذكر أن الطعام كان يوضع ومعه "عصا بلاستيكية". كانت الإشارة واضحة والتلميح لا يحتاج إلى تصريح: إن لم يتم تناول الطعام بالرضا فالإجبار باستخدام الضرب موجود... مجاز
تلمع في رأسي الفكرة، صحيح أنني لن ألجأ لضرب ابنتي أو لتخويفها مثلما كانت تفعل أمي، لكنني أفعل نفس الفعل، أحاول أن أجبر ابنتي على ما لا ترغب به. أمنع عنها قول "لا" حتى وإن كانت في شيء خاص جداً مثل تذوقها لنوع معين من الأكل.
يقولون إن النساء اللائي حرمن من الركض داخل منازلهن ينجبن بنات بأجنحة. أتمنى أن تطير صغيرتي وأن تقول "لا" التي لم أستطع قولها لسنوات طويلة من عمري، أو بالأدق، بالقدرة على أن تقول وأن تختار ما تريد.
أقرّر بأنني سأسمح لابنتي بقول لا لتناول السمك بطريقته التقليدية، وسأقوم بطهيه بطرق مختلفة حتى تقبله بأحدها.
لا أريد أن تمر ابنتي بما مررت به في صغري من عدم قدرتي على الاعتراض على أي شيء تقبله أمي أو الموافقة على أي شيء ترفضه الأسرة والعائلة. أريدها أن تصل إلى ما وصلت له الآن من إعلان الموافقة والرفض عما تؤمن به وتعتقده، حتى ولو كان اعتقادها شيئاً بسيطاً لن يغير الكون ولن يحقق انقلاباً في الوسط الاجتماعي المحيط بنا. أريدها أن تفعل ما تريد، أن تحب ما تريد، وأن تعيش كما تريد ولا تخجل مما تريد.
إن قدرتها على قول "لا" لتناول نوع معين من الطعام سيمنحها القدرة على قول "لا" بعد ذلك في أمور أكثر دقة وحساسية، تماماً مثلما حدث معي عندما بدأت في مرحلة متأخرة نسبياً قول "لا" لكل العرسان الذين كانت تحضرهم لي نسوة العائلة، ومن ثم امتلكت القدرة على خلع النقاب واختيار شكل الحياة الذي يناسبني بعد أكثر من ستة وعشرين عاماً، وفق الحياة الإجبارية التي يفرضها المجتمع والناس.
القدرة على قول "لا" هو ما يصنع شخصياتنا وما يميز الفرد عن الجماعة، وهو ما يحافظ عليك من أن تصبح إمعة
الإجبار وعدم القدرة على قول "لا" أو الاعتراض بأي صورة أو شكل عما يقرره الكبار والمجتمع حتى ولو كان أمراً هيناً للغاية، واحد من أكبر قواعد التربية التي فرضت على الكثيرين على مدار سنوات، بل هي علامة لحسن الأدب وحسن التربية في المجتمعات العربية. قاعدة تم فرضها في رأيي ليريح الكبار أنفسهم من النقاش والجدال، ولفرض السيطرة التامة على ذويهم، حتى ولو كانوا في سبيل ذلك يقضون على ذويهم أنفسهم. كنت واحدة من أولئك الفتيات المهذبات في صغري أما في شبابي الآن فيرى البعض غير ذلك.
كنت مهذبة فكنت لا أرفض أي طعام يتم طهيه، وكنت مهذبة لدرجة الطاعة يوم سمعت نساء من العائلة يتحدثن في أمر نسائي، وحاولت شرح ما قرأته عنه، ما كان من أمي إلا أن وبختني قائلة: "حتى لو فاهمة لازم تعملي نفسك مش فاهمة". لم أفهم لماذا أنكر أمراً أفهمه؟ ولماذا يجب أن أجهل أمراً نسائياً بحتاً، بينما أنا بالفعل من النساء؟ بالأخير، وافقت أمي ولم أعترض على رأيها كالعادة، لأنه لا قدرة لي حتى على الاستفسار.
*****
يقولون إن النساء اللائي حرمن من الركض داخل منازلهن ينجبن بنات بأجنحة. أتمنى أن تطير صغيرتي وأن تقول "لا" التي لم أستطع قولها لسنوات طويلة من عمري... مجاز
"لا" التي لم أستطع قولها في صغري ليس معناها القدرة على الرفض دائماً، ولكنها أحياناً كانت تعني القدرة على قبول ما يرفضه الآخر، القدرة على تحديد ما أريده وأشعر به وأوده، سواء كان موافقاً لرغبة الآباء أو المجتمع أو العائلة أم لا.
لم أكن أود في صغري أن أعترض، ويكون لي الحق الذي انتزعته بعد سنوات طويلة حين قررت خلع النقاب، ولكني كنت أريد أن أقول في صغري إنني فقط لا أحب مشاهدة مباريات كرة القدم، ولا مسلسل الساعة الثامنة، فقط أريد مشاهدة أفلام الكارتون.
*****
في منزلنا، وكل المنازل من الطبقة التي أحيا بها، التلفاز ملك للكبير، وبالطبع لا يمكن مناقشة الكبير أو مراجعته فيما يقول من أفكار. كانت محطات التلفاز تعمل دائماً وفق ما يختاره الكبير. لا أحب كرة القدم ولكنني أرغم على مشاهدتها. لا أحب نشرة الأخبار التي تذاع في السادسة، ولكني أجبر على مشاهدتها. كل هذا قد يمر لو أتيح لي أن أعلن عن رغبتي في مشاهدة كارتون للأطفال، مثل أي طفلة صغيرة، لأنني يجب ألا أقول "لا" لمن هم أكبر مني سناً.
قدرة الأبناء على قول لا والاستفهام وطرح الأسئلة أياً كانت هي أحد المقاييس القوية لنجاح عملية التربية، حتى وإن حاوطها نظرات الخيبة من الآخرين، تماماً مثلما حدث عندما سألتني ابنتي: "الناس بتتجوز ازاي ياماما؟"، فأجبتها بإجابة تناسب عقلها، بينهما نهرتني أمي عندما كنت في العاشرة من عمري عندما سألتها عن مفهوم الدورة الشهرية، وما تعنيه، وعن كيفية حدوث الحمل.
كان قول "لا" الذي تعلمته على كبر تدريجياً بعض الشيء، بدأ عندما أدركت أنني أعيش داخل فقاعة لا أريدها ولا تشبهني، بداية من العمل واختيار اللبس والمعتقدات السياسية والدينية. كانت جميعها بالنسبة لي لوقت طويل عبارة عن الخط المستقيم الذي يفرضه الناس، وإن حدت عنه أُلقيت في نار العصيان والخطيئة ومحاربة الله ورسوله.
عندما قمت بخلع لنقاب ظللت لسنوات بعدها أرتدي ملابس فضفاضة واسعة، ليس لإيماني بها ولكن لأن: "أنت كنت منقبة لازم تلبسي لبس محجبات". قضيت على تلك المقولة في المرة الأولى التي خرجت بها لشراء بنطلون مناسب، لا أقول بمدى الحلال والحرام، فهذا ليس مكانه ولست أهلاً له، ولكنني في الواقع أشبهني الآن أكثر، أشبهني من الداخل بكل أفكاري وتوجهاتي بالحياة، واستطيع قول "لا" على أي شيء لا أريده.
*****
القدرة على قول "لا" هو ما يصنع شخصياتنا وما يميز الفرد عن الجماعة، وهو ما يحافظ عليك من أن تصبح إمعة. القدرة على قول "لا" من الصغر تساعدك على الاقتناع الذاتي بأنك شخص متفرد، يمكنه ألا يسير وفق أراء وتوقعات الآخرين. القدرة على قول "لا" لا تجعل الناس محط أنظارك، بل تجعل كل أنظارك تتجه إليك.
القدرة على قول "لا" يجعلني أقول إني لا أحب الأميرة ديانا ولا أتعاطف معها، وهو ما يجعلني أقول إن الشاي مذاقه أفضل من القهوة بكثير، وأنني لم أحب يوماً أم كلثوم، وأن هناك الكثير من روايات نجيب محفوظ أفضل من "أولاد حارتنا"، وأن طعم السمك بالطريقة التقليدية قد لا يعجب البعض، ومنهم ابنتي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...