"بَهارِستان" هو قصر البرلمان الإیراني الذي کان دائماً الحاضنة الأکبر لتجمعات الشعب الإیراني للاطلاع علی أخبار البرلمان أو للتعبیر عن دعمه، أو أحیاناً التظاهرات أو التحركات، کما کان یؤدي طوال التأریخ المعاصر دوراً رمزیاً.
من هذا المنطلق یعکس هذا المبنى التأریخي بأبوابه وجدرانه وصخوره ونقوشه ورسومه تاريخ التشریع في إیران بمعماریته وتاریخه. کما بات قصر "بهارستان"، حتی خلال فترات ضعف الجانب التشریعي في إيران، بیتاً للشعب وحدیقة خلفیة للبرلمان، کما أنه کان دائماً یمنحه الحیویة والحیاة.
هنا نسعی لتبیین أهم المحطات التاریخیة لهذا القصر الذي امتزج اسمه بالقانون والتقنین في إیران المعاصرة.
بعد عقد اجتماعات عديدة في قصر "گُلستان" (القصر الملكي التابع للحكومة القاجارية) تم اقتراح تخصيص قصر "بَهارِستان" ليصبح مكاناً لمجلس الشورى مستقلاً عن الحكومة والبلاط الملكي
بعد توقيع مظفر الدین شاه القاجاري، خامس الملوك القاجاریین على نظام المشروطة (النظام الدستوري) في إیران، عام 1905، حصل الشعب الإیراني علی أول "مجلس شوری وطني"، لیسهم بذلك مباشرة في إدارة البلاد وشؤونها من خلال اختيار ممثلين له في المجلس.
بعد تأسیس المجلس واجهت النخبة السیاسیة أول تحدياتها، وهو تخصيص المكان المناسب للمجلس. وبعد عقد اجتماعات عديدة في قصر "گُلستان" (القصر الملكي التابع للحكومة القاجارية)، تم اقتراح تخصيص قصر بهارستان، ليصبح مكاناً لمجلس الشورى مستقلاً عن الحكومة والبلاط الملكي.
كان قصر بهارستان الذي يمثل رمزاً للحكم الدستوري في إيران، وحب الشعب الإيراني للتحرر والحرية، من تركة المستشار ميرزا حسين خان سِبَهسالار، رئيس وزراء الملك القاجاري الرابع، ناصر الدين شاه. ويقول ناظم الإسلام كِرماني عن سبهسالار: "كان ميرزا حسين خان سبهسالار من الرجال العظماء الذي عمل على ترقية إيران، وترك أثراً بارزاً، وشيّد المدرسة الناصرية، وقصر بهارستان الفاخر، وهذه العمارة الشامخة التي أصبحت اليوم ملجأ وملاذاً للناس هي من الأعمال الخيرية للمرحوم سِبَهسالار".
كان سبهسالار من الرجال العصريين، وكان معروفاً بتشجيعه تأسيس نظام برلماني في إيران، وعندما كان يرفع أعمدة قصر بهارستان كان يردد "إني أشيّد برلماناً"، حيث كان يتوقع أن يصبح قصره ملجأ للمشرعين. ويقول عنه الكاتب الإيراني باستاني راد: "يبدو أن توجهات المؤسس في فعل الخير وتوجهاته الثقافية أيضاً قدرتا للقصر أن يصبح بيتاً للشعب".
أرض بهارستان قبل أن تصبح مُلكاً لـسبهسالار، وقبل أن يقام فيها قصر بهارستان ومسجد ومدرسة سبهسالار (مسجد ومدرسة الشهيد مطهري العليا حالياً)، كانت أرضاً مملوكة للحاج علي خان حاجب الدولة مقدم، أول مستشار للملك القاجاري ناصر الدين شاه.
وفي ما بعد باع حاجب الدولة 5 حصص من أصل 6 لسِبَهسالار بسبب رغبة الأخير الشديدة في ابتياعها، وأيضاً الأزمة المالية التي كان يعاني منها المالك. ويقال إن سبهسالار تملَك كل حصص الأرض الست حتى لاقى ذلك رفضاً من قبل ورّاث حاجب الدولة الذي طالبوه بالحصة الأخيرة التي تملكها دون إذنهم، وهي قطعة أرض مشاعة ضمن أرض المسجد، إذ امتنع في ما بعد بعض المصلين من الصلاة في المسجد بحجة أن أرضه مغصوبة، حتى تدخل الملك القاجاري ناصر الدين شاه لحل الخلاف.
وازدهرت الأرض بعد استحواذ سبهسالار عليها حتى إنه أطلق عليها عنوان "بَهارستان" اتباعاً لتسمية البستان الملكي المحاذي لها "نگارِستان".
لم يكن لسبهسالار أطفال، وبحسب عبدالله مستوفي، أحد الرجال السياسيين في الحكم القاجاري ومؤلف كتاب "سيرتي الذاتية": "خشي ناصرالدين شاه أن تُنهب أمواله، فعمل على تشييد قصر وبساتين ومسجد في الأرض، ثم جعل كل أمواله وقفاً شرعياً للمسجد حتى يمنع نهبها بعد مماته".
واستعان سبهسالار بـميرزا مهدي خان ممتحن الدولة شقاقي، أحد أول المعماريين الإيرانيين المتعلمين في الغرب، لتصميم وإشراف وبناء المسجد والمدرسة والقصر. ويقول ممتحن الدولة في ذكرياته: "فكّر الفقيد سبهسالار في بناء قصر بهارستان والمسجد بعد عودته من مدينة قم، ثم عوّل عليّ لتصميمهما وبنائهما".
كما قرر أن يكون الملك في كل عصر متولياً لبساتينه حتى بعد مماته. وفي سياق ذلك، استكمل ناصر الدين شاه القاجاري ما تبقى من بناء المسجد، ثم عمل على ذلك محمد رضا شاه البهلوي، وأكمل ما تبقى.
وقد واجه مقترح إنشاء البرلمان في هذا القصر معارضات لسببين؛ الأول هو أن بهارستان كان آنذاك بعيداً عن مركز المدينة، وكان يرغب العلماء بوجود مجلس الشورى الوطني في مركز المدينة، وفي متناول أيدي الناس. والثاني هو اتهام ناصرالدين شاه بغصب الأرض عدواناً وضرورة الحصول على إذن من أبناء سبهسالار.
لكن بعد فترة وجيزة واجتماعات عديدة في المدرسة العسكرية، توصل النواب إلى أنه لا يوجد في طهران أفضل من قصر بهارستان لإقامة اجتماعات المجلس. يكتب وحيد نيا، رئيس تحرير مجلة "وحيد" الفارسية: "اتفق النواب على أن الحكومة ليست بحاجة إلى بهارستان، وإنهم يرشحونه ليكون مقراً لمجلس الشورى الوطني". وفي النهاية منذ تشرين الأول/أكتوبر 1906 أصبح قصر بهارستان مكاناً لاجتماع نواب مجلس الشوري الوطني.
بالإضافة إلى كل ذلك، الأمر الذي جعل عنوان بهارستان رمزاً للديموقراطية في إيران هو أحداث الشغب التي حدثت أمام "باغْشاه" (بيت محمد علي شاه، سادس الملوك القاجاريين) كرمز للاستبداد، حيث أصبح حاضنة للحشود الشعبية والمطالبين بالدستورية في الأيام التي انتهت بما يعرف بواقعة "يوم المدفع" حيث هاجم لواء القوزاق للحكومة القاجارية بدعم من قوات روسية بقيادة الجنرال "لياخوف" قصر بهارستان، حيث كان يتجمع المحتجون، وذلك بعد مرور عامين على تأسيسه.
وأدى الهجوم إلى مقتل عدد من النواب واعتقال آخرين منهم. يقول السفير العثماني آنذاك: "إن الحكومة الدستورية إذا ما كانت قد تأسست بـمساعدة قوات أجنبية فإنها منذ الآن ستخلد في تاريخ إيران بالدماء التي سفكت".
ويشير عزيز السلطنة الملقب بـ"مَليجَك الثاني" في ذكرياته إلى هدم البرلمان ذاكراً: "السقف هدم تماماً... إنهم رموا الجدران والأبواب بوابل من طلقات المدفعية".
أصبح لبهارستان شأن رفيع لدى المطالبين بالحرية حيث اشترط ستارخان (أحد الثوريين من مدينة تبريز الذي هزم بصموده محمد علي شاه وفتح طهران، برفقة الثوار المجاهدين) إعادة إعمار القصر وتسليمه إلى الشعب كما كان.
الأمر الذي جعل عنوان بهارستان رمزاً للديموقراطية في إيران هو أحداث الشغب التي حدثت أمام "باغشاه" (بيت محمد علي شاه، سادس الملوك القاجاريين) كرمز للاستبداد، ليصبح بعد ذلك حاضنة للحشود الشعبية والمطالبين بالدستورية
بعد اشتداد حدة الحرب بين المجاهدين من جانب ومحمد علي شاه القاجاري من جهة أخرى، فتح المجاهدون طهران في النهاية، وبطريقة رمزية باركوا فتحهم بدخول قصر البرلمان، ومن هناك أعلنوا قرارهم خلع الملك ونفيه.
وبعد مرور ثلاثة أيام على فتح طهران بدأ إصلاح العمارة بتبرعات شعبية ودعم خيري. يقول عزيز السلطان لدى وصفه ذلك: "الشعب عندما أراد التعبير عن حبه للوطن وتأكيد مطالبته بالدستورية عمل بيده على إعادة إعمال قصر البرلمان دون مقابل".
هكذا انتهي البناء والإصلاح بعد فترة قصيرة، وعاد بهارستان مرة أخرى ليكون ملاذاً للمطالبين بالحرية والديموقراطية للشعب الإيراني، الملاذ الذي يحافظ على رسالته حتى يومنا هذا.
البيت الذي شيده سبهسالار وعُرف في ما بعد بـ"بهارستان"، كان لسنوات طويلة مصدراً لكفاح الإيرانيين، وفي سبيله ضحى شباب بحياتهم ليسقوا بدمائهم مبدأ التشريع في إيران، ومن هذا المنظور يعتبر بهارستان فريداً لايوجد له مثيل، ولم ينجح أي معلَم تذكاري آخر في أن يتمتع بمكانة في قلوب الإيرانيين مثل التي لدى بهارستان، بتاريخه السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.