اندلعت الثورة السورية في آذار/مارس 2011. حينذاك اعتقدت أننا بعد عشر سنوات سنعيش في بلد حر ديمقراطي وسنبني مستقبلاً جديداً ومختلفاً.
لم يخطر في بالي، حتى في أسوأ السيناريوهات، أن ننتشر في الأرض، وأن يصبح أصدقائي المقربون وعائلتي في شمال وجنوب الكوكب بحيث يفصلنا فرق توقيت شاسع. لم يخفف من وطأة هذا الشتات الرهيب إلا وجود وسائل التواصل الاجتماعي التي تسمح لنا بالتواصل الآني بالصوت والصورة.
فكرت بكل مراسلات المنفى المنشورة والتي كانت تستغرق أزماناً خيالية لتصل إلى المرسل إليه، وتذكرت بطاقة بريدية أرسلها لي أبي من الولايات المتحدة الأمريكية مطلع التسعينيات حين أتيحت له زيارتها، وتحولت البطاقة إلى طرفة عائلية، فقد عاد أبي محملاً بالهدايا والصور، وبعد عام كامل من وصوله، وصلت البطاقة بالبريد.
لم يخطر في بالي، حتى في أسوأ السيناريوهات، أن ننتشر في الأرض، وأن يصبح أصدقائي وعائلتي في شمال وجنوب الكوكب بحيث يفصلنا فرق توقيت شاسع
أتذكر في طفولتي أن أفلام الخيال العلمي ومسلسلات الكرتون تتخيل العالم الحديث تقنياً بجعل الشخصيات قادرة على التحدث بعضها مع بعض عبر الفيديو، وأتذكر تماماً كم كان ذلك يبدو خيالياً.
كنت أتمنى أن أحدث جدتي التي كانت تعيش في حلب عبر الفيديو، وأتخيل أن نستطيع الاتصال بأحبتنا متى شئنا وأينما كنا.
وقد اكتشفت كم مر من الوقت على هذه الخيالات حينما شاهدت فيديو على قناة يوتيوب يجمع أطفالاً صغاراً ويضع أمامهم هاتفاً ذا قرص، إذ لم يتعرف الأطفال على هذا الجهاز، ولم يحزروا ماهيته، وعندما شرح لهم من يقف خلف الكاميرا أن الجهاز الذي يرونه هو هاتف، ضحكوا.
شاهدت فيديو يجمع أطفالاً ويضع أمامهم هاتفاً ذا قرص، لم يتعرف الأطفال على هذا الجهاز، وعندما شُرح لهم أن الجهاز الذي يرونه هو هاتف، ضحكوا.
شاهدت قبل سنوات في بروكسل مسرحية "عنوان مؤقت" من إخراج وائل علي وبطولة كريستيل خضر وقد أثرت في تأثيراً عميقاً، تتحدث المسرحية عن دورة اللجوء التي ابتليت بها منطقتنا، دائرة من الهروب المتكرر من الكوارث.
تستخدم المسرحية أشرطة كاسيت حقيقية سجلها عم البطلة للعائلة عندما هرب من الحرب الأهلية اللبنانية إلى السويد.
تخيلت السوريين في شتاتهم اليوم، يسجلون مئات رسائل الواتساب التي يتبادلونها على شرائط كاسيت، يرسلونها عبر البريد، وينتظرون الإجابة.
ولعل المسرحية تشكل نقطة انطلاق مناسبة لمناقشة دور وشكل التكنولوجيا التي نستخدمها للتواصل في تكوين التواصل نفسه، فقد كان من المدهش اكتشاف أن ما سجله العم في شرائط تعود لأربعين عاماً مضت، لا يختلف عما يرسله المنفيون عن أوطانهم قسراً اليوم.
تناقش الشرائط تفاصيل الوصول والاستقرار في السويد ومقارنات لا تنتهي بين البلدين، وشوق وحنين لتفاصيل صغيرة أهمها مرتبط بالطعام وعدم توفر المواد المناسبة لإعادة إنتاجه في الغربة.
وأنا أشاهد المسرحية شعرت أنني دخلت في دوامة غريبة، تعيد إنتاج الزمن والحكاية بأشكال متعددة لتنتهي نهاية واحدة، يجمع أبطال الحكايات أغراضهم ويرحلون عن أوطان إذ تلفظهم بعنف إلى مكان آخر جديد يلزمهم بإعادة بناء حيواتهم والتأقلم مع حياة جديدة، تسير فيما يخيم عليها حنين دائم لصورة تبهت ألوانها تدريجياً لحياة جميلة ومثالية في الماضي.
نشرت مؤسسة اتجاهات مؤخراً قراءات مسرحية افتراضية من إخراج وائل علي ووائل قدور، تتحدث بدورها عن الفقد، شارك فيها كل من محمد آل رشي وماسا زاهر وشهاب فطوم، ويتحدث فيها كل منهم عن شكل من أشكال الفقد عاناه، فقد الأرشيف وفقد الوطن والمكان وفقد الصديق.
تبدأ القراءات وتنتهي برسالة أرسلها أحد المخرجين لأستاذته نائلة الأطرش التي تقرأ علينا تلك الرسالة، وقد لفتني جداً أننا لا نعلم التكنولوجيا التي استخدمت لإرسالها، لا يبدو الزمن مهماً هنا، لا فرق إن أرسلت بالبريد أم بالإيميل أم على واتساب، فهي رسالة متأخرة كان يجب أن ترسل منذ زمن، رسالة يبث فيها المخرج قلقه من المشروع، ويعتذر عن التقصير في التواصل، يحاول أن يردم هوة في ماضي الحكاية المسرحية السورية لم يردم، يكشف فيها أنه حاول أن يعمل في غربته منفصلاً عن الماضي وكأنه وجد هنا والآن دون الحاجة للبناء على حكاية سابقة وعلى عمل من سبقوه، ولكنه اكتشف استحالة ذلك مع الوقت.
يشبه ذلك حالنا في التواصل اليوم، نفترض أن تجربتنا خلقت هنا والآن، وأنها الأولى والفريدة وأنها قائمة على نوع التكنولوجيا الذي نستخدمه، ولكن المحتوى لم يتغير.
إذا عدنا إلى رسائل أرسلها كتّاب من منفاهم، فسنجد أن تجربتنا ليست بالفرادة التي نعتقدها وأن التكنولوجيا المستخدمة لم تغير إلا تفصيلاً صغيراً هو الزمن
إذا عدنا إلى رسائل أرسلها كتّاب من منفاهم وإلى شرائط كاسيت لمنفيين قسراً أو طوعاً عن أوطان مزقتها الحروب أو إذا بحثنا في تجارب فن المنفى، فسنجد أن تجربتنا ليست بالفرادة التي نعتقدها وأن التكنولوجيا المستخدمة لم تغير إلا تفصيلاً صغيراً هو الزمن.
وقد يحتج البعض بأن الزمن ليس تفصيلاً صغيراً، ولكنه قد يكون كذلك في ظل الشكل الذي يتخذه الزمن في المنفى. يضيع مفهوم الزمن تماماً في بداية الغربة، فيصبح الزمن الذي يفصلنا عن الوطن كبيراً جداً وكأنه عمر كامل، فيما يمر الوقت سريعاً في المستقر الجديد بين إجراءات إدارية وملاحقة تفاصيل الحياة اليومية.
هل كانت رسائلنا ستختلف لو كان زمن وصولها إلى المستقبل أبطأ؟ لا أعتقد ذلك، بل يمكننا القول إن زمن انتظار الجواب كان يعطي الزمن الضائع إيقاعاً من نوع ما، فيما هو اليوم يوحي أن كل ما نعيشه آني وسريع وسيمضي، كما الرسائل التي نتلقاها ونرسلها دون تدقيق أو تأمل.
أكره الانتظار، ولا يمكنني تخيل نفسي وأنا أفتح صندوق البريد عشرات المرات في اليوم الواحد بعدد المرات التي أفتح فيها هاتفي للتأكد من رسائلي.
أتخيل كتابة الرسائل في الماضي على مسودة، نشطب منها ونعيد ترتيب مقاطعها ونصحح جملها، تعجبني الفكرة، ولكنني بالمقابل أكره الانتظار، وأتخيل نفسي وأنا أفتح صندوق البريد عشرات المرات في اليوم الواحد بعدد المرات التي أفتح فيها هاتفي للتأكد من رسائلي، فأقلع عن إعجابي بفكرة المراسلات البريدية.
لعل انشغالنا بنوع التكنولوجيا الذي نستخدمه أنسانا أن المحتوى الذي نتبادله بقي ذاته، وأن المسافات التي تفصل بيننا وبين أحبتنا هي نفسها التي كانت وستفصل منفيين غيرنا في المستقبل الذي لا يبدو بحال من الأحوال وكأنه يحمل منافي أقل قسوة أو أكثر عدالة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...