"هنا لندن" الجملة الشهيرة التي تتبعها دقات ساعة بيغ بن، والتي ظلت مألوفة لدى المستمع العربي لهيئة الإذاعة البريطانية منذ العام 1938، لن تُسمع بعد اليوم وستغيب عن الأثير. إذاعة الـ"BBC" الأقدم عربياً والتي عاش معها الإنسان العربي أغلب أحداث القرن العشرين السياسية والثقافية المختلفة ستغلق مايكرفونها وستنقل العربية إلى الخدمات الرقمية حصراً ضمن عدد من اللغات.
كبار السن حزنوا أكثر
بغض النظر إن كنا من محبي أو كارهي سياساتها، فأذن المواطن العربي لا سيما كبار السن ستفتقد الصوت الوقور لميكروفون الإذاعة التي نقلت له بلغته أحداث العالم، قبل أن تنتشر الإذاعات فالتلفزيونات وأخيراً ثورة الاتصالات في العالم كله، وذلك بعد أن أعلنت هيئة الإذاعة البريطانية إغلاق الخدمة العربية نهائياً عقب 84 عاماً. السبب المعلن هو توفير النفقات مع تبني إستراتيجية جديدة للتركيز على تطور وسائل الإعلام الرقمي.أعلنت هيئة الإذاعة البريطانية إغلاق الخدمة العربية نهائياً عقب 84 عاماً. السبب المعلن هو توفير النفقات مع تبني إستراتيجية جديدة للتركيز على تطور وسائل الإعلام الرقمي
أحداث كثيرة عرفها العرب من خلال الـ"BBC" العربية بدءاً من الحرب العالمية الثانية والصراع العربي الإسرائيلي بمختلف حروبه، مروراً بحربي الخليج وتبعاتهما وليس انتهاءً بسنوات الربيع العربي.
تعد هيئة الإذاعة البريطانية بالعربية هي الأقدم من بين أكثر من 40 لغة مختلفة تقدم المؤسسة الإعلامية الضخمة نشراتها من غير الإنجليزية، وعلى الرغم من ارتباط المواطن العربي بها وبأصوات المذيعين، واجهت تحدياً كبيراً ومعارضة من الأنظمة السياسية العربية طوال أكثر من ثمانية عقود.
يعتقد البعض أن نشأة خدمة هيئة الإذاعة البريطانية باللغة العربية كانت للرد على راديو "باري" الإيطالي الذي قدم خدماته باللغة العربية عام 1934، والذي كان يدعم الفاشية وينتقد سياسات بريطانيا في فلسطين علناً باللغة العربية.
"هنا لندن... هيئة الإذاعة البريطانية"
كانت هذه الافتتاحية التي ألقاها المصري أحمد كمال سرور أول مذيع يقرأ النشرة العربية عام 1938، أي قبل نشأة إذاعة الشرق الأوسط بثلاثة عقود تقريباً، وقبل ولادة إذاعة مونت كارلو العربية بأربعة عقود، استبدلت بعد ذلك بالافتتاحية الشهيرة في التسعينيات "هنا لندن: BBC".حسن الكرمي العالم اللغوي الفلسطيني هو الصوت الذي احتل قلوب المستمعين ببرنامجه الشهير "قول على قول" والذي ظلّ يبث لمدة 30 عاماً، إذ كانت تصله رسائل من كل العالم العربي يسأل فيها المستمعون عن قائل بيت شعر أو قصة من التاريخ العربي أو مناسبة مثَل، وقد نتجت عنه موسوعة بنفس الاسم من اثني عشر جزءاً.
نشأة خدمة هيئة الإذاعة البريطانية باللغة العربية كانت للرد على راديو "باري" الإيطالي الذي قدم خدماته باللغة العربية عام 1934، والذي كان يدعم الفاشية وينتقد سياسات بريطانيا في فلسطين علناً باللغة العربية.
قدمت الإذاعة للمستمع العربي الكثير من المذيعين من أصحاب المعرفة الواسعة والذين اعتادت عليهم آذان كبار السن قبل الصغار، مثل إبراهيم عبدالله، عيسى صباغ، مديحة المدفعي، أفتيم قريطم، ماهر عثمان جورج مصري، نورالدين زروقي...
إرث إذاعة بي بي سي العربية أيضاً انعكس على أحد أشهر المشاهد الكوميدية في تاريخ المسرح المصري "مرسي ابن المعلم الزناتي اتهزم يا رجالة Mens" وهي الجملة التي قالها الفنان الراحل سعيد صالح في مسرحية مدرسة المشاغبين وظلت متداولة حتى اليوم.
لم تحبها الحكومات العربية... وأحبتها الشعوب
عاصرت إذاعة بي بي سي العربية أحداث الحرب العالمية الثانية، وقيام دولة إسرائيل والعدوان الثلاثي، وهنا لا بد من تذكر الصدام الأكثر شهرة بين الزعيم المصري جمال عبدالناصر وهيئة الإذاعة البريطانية."البي بي سي بتقول عليّ كلب.. إنتوا ولاد ستين كلب" هكذا هاجم عبد الناصر بريطانيا عبر سب إذاعتها الأشهر في إحدى خطبه التي حظيت بتأييد شعبي واسع.
المعلن والواضح أن الـ"BBC" لا تعارض مصالح بريطانيا أو الكومنولث، رغم اتجاهها الحيادي الذي طالما تغنى به محبوها، وحتى رغم صدامها مع أفراد العائلة المالكة البريطانية أحياناً، تموّل هيئة الإذاعة البريطانية من ضرائب الشعب البريطاني، فلا تحارب أبداً مصلحة مموليها.
الصدام بين الـ"BBC" والحكومات العربية التي يرفض معظمها وجود الصوت المعارض استمر لعقود، في التسعينيات دعمت السعودية إطلاق قناة تلفزيونية للـ"BBC" باللغة العربية والتي بُثت بتمويل من شركة أوربت قبل أن تقطع أوربت بثها بعد إنتاج التلفزيون لبرنامج عن حقوق الإنسان في السعودية عام 1996، بعد ذلك عادت القناة التلفزيونية للبث منذ عام 2008 حتى الآن.
الخلاف بين الحكومات العربية و الـ"BBC" وصل إلى ذروته في سنوات الربيع العربي وما بعدها، وذلك بسبب سياسة هيئة الإذاعة البريطانية التي دعمت الأصوات الحرّة ضد الأنظمة الحاكمة مع حرصها على إبداء جميع الآراء ووجهة النظر المضادة، وهو ما خلق مصداقيتها عند المستمعين.
"البي بي سي بتقول عليّ كلب.. إنتوا ولاد ستين كلب" هكذا هاجم عبد الناصر بريطانيا عبر سب إذاعتها الأشهر في إحدى خطبه التي حظيت بتأييد شعبي واسع.
تقول الصحافية ومراسلة "BBC" سالي نبيل عبر حسابها على تويتر: "سمعت الكثير من سجناء الرأي في مصر أن راديو "BBC" عربية كان صلتهم الوحيدة بالعالم، فالبرنامج يبث داخل السجون ليبقيهم على معرفة بما يجري خارج أسوار السجن". هذا ما كانت هذه الإذاعة للمعارضة العربية، فهي من الإذاعات القليلة التي تبث من خارج الوطن العربي والتي تعالج القضايا العربية بشكل محايد، وتشكل في نفس الوقت منبراً يستطيع المعارض العربي البوح فيه بأفكاره، والمصدر الوحيد الذي يكشف لهم الحقيقة من غير الميل لطرف دون الآخر.
الحياد الإعلامي الصارم
اتبعت "BBC"عربية بمختلف وسائلها لغة الحياد أيضاً في المقاطعة الخليجية العربية لدولة قطر، وكانت من المصادر القليلة التي رفضت الانحياز لطرف على حساب الآخر.إحدى الجدليات التي تسببت بها سياسات الإذاعة كانت تلك التي أثارها المدير السابق لمكتب "BBC" في القاهرة أكرم شعبان إلى حد اتهامه بالتطبيع بعد حوار أجراه مع السفير الإسرائيلي في القاهرة، الأمر الذي دفعه للظهور في قنوات مختلفة للدفاع عن سياسة المؤسسة التي يعمل بها، والتي تلتزم الحياد، ولا مانع لديها من إجراء حوار مع سفير دولة يُعترف بها في الأمم المتحدة، ما دام ليس زعيماً لمنظمة محرمة أو كيان غير معترف به.
التزام الإذاعة حيادها رغم غضب الحكومات العربية ظلّ صارماً، فعلى سبيل المثال رفضت سياسات التحرير ذكر كلمة "شهيد" في قاموسها، فكلمة شهيد قد تختلف من شعب لآخر، والشهيد عند دولة ما قد يكون إرهابياً عند دولة أخرى، والشهيد في ديانة ما لا يعتبر شهيداً لدى أنصار ديانة أخرى.
رفضت الـ"BBC" استخدام كلمة "شهيد" في قاموسها، فالشهيد عند دولة قد يكون إرهابياً عند دولة أخرى، والشهيد في ديانة ما لا يعتبر شهيداً لدى أنصار ديانة أخرى
الكلمة كانت شرارة خلاف كبير بين الحكومة المصرية وهيئة الإذاعة البريطانية عندما بثّت خبراً عن إحدى الهجمات المسلحة في سيناء ووصفت القتلى بالضحايا"، هذا رغم اعتراف الحكومات الأوروبية ومنها البريطانية بوصف بعض الحوادث بالـ"إرهابية"، إلا أن كلمة "شهيد" ظلت غير مستخدمة.
وقد وصل الخلاف مع الحكومة المصرية إلى ذروته في عام 2018، عندما نشرت "BBC" تقريراً عن اختفاء قسري لفتاة تدعى زينب واتهمت الداخلية المصرية بالمسؤولية، فأرسلت هيئة الاستعلامات المصرية تحذيراً شديد اللهجة لمكتب الإذاعة في القاهرة، وعانى العاملون فيه من تضييق أمني عند عملهم في الميدان، وظل كابوس إغلاق مكتب الجزيرة بالقاهرة يحوم حول الصحافيين في القاهرة، خاصة بعد الهجوم الشديد من وسائل إعلام مصرية على "BBC" رداً على تقرير زبيدة.
في مسلسل هجمة مرتدة الذي بُث على القنوات المصرية والعربية في عام 2020، ألمحت الحلقات بشكل غير مباشر إلى ميل قنوات مثل "BBC" إلى إشعال الفوضى وتخريب المنطقة، وهي الرؤية التي تسعى الأنظمة العربية لزرعها في نفوس شعوبها، بينما يسعى المواطن العربي الحر دوماً إلى سماع وجهة النظر والرأي المضاد، والذي لا يكاد يجده إلا من ميكروفونات مثل الـ"BBC" الذي سينتهي بثه نهائياً بنهاية العام الجاري.
لماذا لم يعد الجمهور العربي مهما للـ"BBC"؟
إغلاق إذاعة بي بي سي العربية بعد 84 عاماً يطرح سؤالاً هو هل لا تزال بريطانيا حالياً تكترث للرأي العام العربي وتحاول المساهمة في تشكيله، أم لم يعد لديها ما تود قوله للعرب؟يجيب على هذا السؤال لرصيف22 أحد الصحافيين في مكتب "BBC" العربية في القاهرة والذي فضل عدم ذكر اسمه احتراماً لسياسة المؤسسة التي يعمل بها: "بريطانيا اليوم لا تكترث بالرأي العربي بها، ومع توجهات الحكومة البريطانية السابقة برئاسة بوريس جونسون ربما لا تكترث بريطانيا كثيراً بالرأي العالمي بها، وتود الإغلاق على نفسها وأكبر دليل على هذه السياسة الجديدة هو الـBrexit".
ويضيف: "بوريس جونسون كان لا يحب مؤسسات مثل الـ"BBC" وتوجهه بشكل عام كان إلى الداخل لا الخارج حتى داخل مجلس العموم، وتقليل إنفاق المؤسسات البريطانية على كل ما هو غير بريطاني، ومنها هيئة الإذاعة البريطانية باللغات الأخرى التي يصل عددها إلى 40، لتحدث حالياً أكبر حركة لتخفيض النفقات في تاريخ الـ"BBC" بأكمله".
بريطانيا اليوم لا تكترث بالرأي العربي بها، ومع توجهات الحكومة البريطانية السابقة برئاسة بوريس جونسون ربما لا تكترث بريطانيا كثيراً بالرأي العالمي بها، وتود الإغلاق على نفسها وأكبر دليل على هذه السياسة الجديدة هو الـBrexit".
ويكمل أن جونسون صرح بشكل أو بآخر بأن وصول صوت البريطانيين للشعوب غير الناطقة باللغة الإنجليزية حالياً لا يفيد بريطانيا بشيء، ليقنع مجلس العموم بالموافقة على تخفيض ميزانية الـ"BBC" لحوالى 258 مليون جنيه استرليني أي حوالى 288 مليون دولار، نصيب الخدمة باللغة العربية منها يقدر بثلاثة ملايين جنيه إسترليني هذا العام وهو ما يعادل 3.3 مليون دولار.
ويرى أن هذا التوجه لا يكترث بالعاملين لدى المؤسسة من غير الناطقين بالإنجليزية، مع عدم تعويضهم عن فقدان وظائفهم، الأمر لا يقتصر على العرب فقط، بل على الخدمات الأخرى التي أعلنت "BBC" عن إيقافها، وقدوم ليز تراس لم يغير شيئاً لأن مجلس العموم كان قد وافق على الميزانية.
واختتم تصريحه قائلاً: "بريطانيا لا تكترث حالياً بالرأي العربي، كانت من قبل الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس فكانت من مصالحها مخاطبة العرب وغيرهم من الشعوب، أما الآن فهي تهتم بدول الكومنولث فقط، ولا ترغب في الإنفاق على شيء لا يفيد مصلحتها العليا حالياً".
وداعاً للـ"BBC" أحدث ضحايا التطور السريع لوسائل الإعلام والتحول الرقمي والتضخم المالي والسعي وراء الربح المادي وتقليل الخسائر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 16 ساعةمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 3 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ أسبوعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي