كان الراديو منذ دخوله إلى سوريا العنصر الأهم في المقاهي، وهو سيد المواقف وحوله يجتمع السوريون في المقاهي ليسمعوا أخبار العالم أو يتمتعون بالطرب الأصيل. استطاع الراديو أن يحل بكل بساطه محلّ "كركوز" و"عيواظ"، و من ثم مكان الحكواتي؛ ففي السابع عشر من شهر نيسان/أبريل عام 1946 تأسست أول إذاعة وطنية سورية، وافتُـتحت يوم الجلاء باحتفالاتٍ أقيمت بهذه المناسبة، واستمر البث ست ساعات متواصلة، وكانت تعمل هذه الإذاعة بقوة 7.5 كيلو واط على الموجـات القصيـرة.
اشترك في اختراع الراديو أربع شخصيات. الأول هو ماكسويل من إسكتلندا، وكان هو أول من تنبه لانتقال الشرارة الكهربائية الضوئية، وكان ذلك عام 1855؛ الثاني هو هرتز الألماني، الذي اكتشف انتشار الموجات وتحركها، ونجح في استقبالها من مسافة لا تزيد عن 30 متراً.
والثالث هو ماركوني الإيطالي، أشهر اسم ارتبط باختراع الراديو، واستطاع أن يواصل التجارب التي سبقته واستقبل الموجات الصوتية على بعد آلاف الكيلومترات، وكان لذلك أهمية كبيرة، فأهم شيء في الراديو هو وصول الموجات إلى أبعد مسافة ممكنة، ونجح ماركوني في هذا الاكتشاف عام 1895. ولكن إيطاليا لم تهتم كثيراً بهذا الاكتشاف، فسافر ماركوني إلى إنكلترا، وكانت والدته إيرلندية، وعرض على الإنكليز اكتشافه واستطاع أن يؤسس شركة ماركوني للبرق والتلغراف سنة 1900.
كان الراديو منذ دخوله إلى سوريا العنصر الأهم في المقاهي، وهو سيد المواقف، وحوله يجتمع السوريون في المقاهي
أما الرابع فهو لي فورست، الذي ارتبط اسمه بالراديو أيضاً، فقد توصل لطريقة صنع الصمامات في سنة 1907، وبواسطتها أمكن تحويل الذبذبات الكهربائية إلى تيار مستمر، وبذلك أصبح الحديث في الراديو ممكناً، وكان أول إرسال إذاعي من محطة في هولندا عام 1919.
أما إستديو البثّ فقد كان عبارة عن غرفة من دائرة مصلحة البريد، وكانت هذه الإذاعة تابعة إدارياً إلى مديرية البريد والبرق والهاتف، واستمرت الإذاعة بعد ذلك دون أن يكون لها نظام ثابت في البث سوى المناسبات، وكلها وطنية وقومية. وفـي أول شهر رمضان بعد الجلاء بدأت أول فترة بثٍّ ثابتة في الإذاعة السورية، حيث بثت يومياً لمدة ساعتين متواصلتين برامج رمضانية بمناسبة الشهر.
و لكن ذلك لا يعني أن البث الإذاعي بدمشق كان عام 1947، فقد سبق ذلك إنشاء إذاعات محلية؛ على سبيل المثال عرفت دمشق إنشاء إذاعة محلية في عام 1936، وذلك خلال معرض الصناعات الوطنية الذي أقيم في مدرسة التجهيز، وعمل في هذه الإذاعة الصحفي العريق نشأت التغلبي، الذي كان له دور في ما بعد بتأسيس الإذاعة الوطنية، ومن خلال هذه الإذاعة ظهر المذيع الأمير يحي الشهابي على الهواء لأول مرة.
وبعد ذلك بعدة سنوات عرفت دمشق البث الإذاعي، وعُرفت حينها بإذاعة دمشق الفرنسية، و كانت الغاية من إنشاء هذه الإذاعة ترويج الدعاية لقوات الحلفاء، وكانت تبث برامجها باللغة العربية عدا نشرات الأخبار، حيث كانت تبث بالفرنسية والإنكليزية، وكانت تذيع أخبار معارك الحرب العالمية آنذاك، وتأسست عام 1947، وكان من المؤسسين الصحافي العريق سامي الشمعة، و هو صحافي سوري وناقد مسرحي، ولد بدمشق عام 1910 وتوفي عام 1950، وعمل سامي الشمعة مراسلاً ومحرراً لعدد من الصحف السورية واللبنانية كما عمل سكرتيراً لصحيفة الأيام الدمشقية الشهيرة، وأسس عدداً من الصحف السورية منها "الدستور"، و"السياسة" و" آخر دقيقة".
تذكر المصادر أن أول راديو دخل مدينة حلب كان عام 1930 بواسطة التاجر الحلبي المشهور آنذاك نعيم جنبرت، الذي كان يملك محلاً تجارياً في شارع بارون، و لم نعثر على تاريخ محدد لدخول الراديو إلى دمشق، ومن أدخله.
ويروي نبيل الشويري قصة طريفة عن عدد أجهزة الراديو بدمشق عام 1940، فيقول إنه في صيف عام 1940 صدر أمر من المندوب السامي الفرنسي بمصادرة أجهزة الراديو في الشام، فجمعوها ووضعوها في معهد اللاييك الفرنسي الذي أصبح اسمه اليوم معهد الشهيد باسل الأسد، ولم يزل هذا المعهد قائماً حتى الآن في شارع بغداد، وذلك عقب سقوط باريس بيد الألمان.
كان عدد أجهزة الراديو بدمشق آنذاك نحو عشرين جهازاً أغلبها في المقاهي حيث كان الرجال يجتمعون حولها للاستماع إلى الأخبار. وكان عدد سكان دمشق حينها لا يتجاوز 350 ألف نسمة، أما مساحة دمشق فكانت تمتد من "بوابة الله" في آخر الميدان إلى آخر "المهاجرين"، حيث يقع القصر الجمهوري وتنتهي سكة التراماي، ومن الشيخ محي الدين بن العربي إلى القصاع الذي ينتهي في باب توما.
حاول أصحاب المقاهي إدخال التلفزيون إلى مقاهيهم من أجل استعادة زبائنهم ولكن محاولتهم باءت بالفشل
أما المزة و دمر و برزة، فكانت قرى تابعه لدمشق. وكان حي القصّاع محاصراً بنهرين من أنهار بردى؛ هما تورا في شماله، ونهر قليط عند باب توما. وكانوا يسمّونه "قليط" لأن فضلات المنازل والمتاجر كانت ترمى فيه. أما شارع بغداد والذي يقع الآن في قلب دمشق كان عبارة عن جنائن وبساتين. وحي القصّاع وحده كان فيه أربع جنائن تقام فيها سهرات الصيف. في حين كانت منطقة المالكي وأبو رمانه كلها بساتين.
بدأ انحسار رواد المقاهي وخاصة في المساء، وتم إغلاق عدد كبير منها، وذلك لعدة أسباب، لعل أهمها هو بداية البث التلفزيوني عند تأسيس التلفزيون السوري عام 1960، وانتشار أجهزة التلفزيون في المنازل، وقد حاول أصحاب المقاهي إدخال التلفزيون إلى مقاهيهم من أجل استعادة زبائنهم ولكن محاولتهم باءت بالفشل، ثم زاد انتشار جهاز الفيديو من هموم أصحاب المقاهي في منتصف الثمانينيات.
وفي التسعينيات شهدت المقاهي بعض الانتعاش، فقد ارتاد كثير من المثقفين والصحفيين الشباب عدداً من مقاهي المدينة، منها مقهى الروضة في شارع العابد ومقهى الكمال الصيفي في شارع المتنبي. وقد تضامن هؤلاء المثقفون عندما قرر صاحب مقهى الهافانا تحويله إلى محل لبيع الألبسة، فأعيد فتح المقهى بعد أن جهز بأحدث الديكورات، وأصبح معظم رواده من الأدباء والشعراء والصحفيين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...