"غزة: نريد فقط أن نعيش" (88 دقيقة)، فيلم وثائقي من إخراج الإيرلنديين غاري كين وأندرو ماكونيل، يكاد يختصر قصة الغزّيين مع الحروب المتتالية التي تحدث على أرض القطاع، وربما يكاد يختصر قصصهم مع الحياة نفسها، التي تأبى إلا أن تعاقبهم بثلاثة احتلالات كما يخلص الفيلم ببساطة.
قبل أن نضع الأيدي "النقدية" فوق هذه الاحتلالات التي تعكر صفو هذا الغزي، وذلك بإغرائه بإنجاب المزيد من الأطفال وإضافتهم على "الليستة" حتى يتمكن من تذّكر أسمائهم، أو "كرمى"، نجمة الفيلم بامتياز، تلك الصبية التي تعزف على الشيللو موسيقى يوهان سباستيان باخ وسواه، وتفكر بالحجاب كحلٍّ نهائي في حياتها عندما تصبح جاهزة لذلك، وكأن الحل أمامها بالحجاب، وليس بالموسيقى التي تسمح لها بالنفاذ من هذا الحصار السقيم. تقول كرمى إن البحر مفتوح أمامها، ولكنه يمثل في نفس الوقت حدوداً لا يمكن اختراقها بسهولة.
الحياة في غزة
الحياة هنا في غزة ليست يانعة وليست طازجة وليست مظلمة أيضاً في حضورها. أمّ كرمى القادمة من القدس لتقيم في القطاع، تشعر بالأسى والندم، وتتحسر على ماضي المايوهات على البحر، وتحلم بممرٍّ آمن لبناتها باتجاه فرنسا والولايات المتحدة، لأن عروض الأزياء التراثية التي تعمل عليها باتت مطلوبةً من جهات كثيرة في هاتين الدولتين وسواهما، وهي لا شك تمتلك علاقات تمكنها من فعل ذلك.
"غزة: نريد فقط أن نعيش"، فيلم وثائقي من إخراج الإيرلنديين غاري كين وأندرو ماكونيل، يكاد يختصر قصة الغزّيين مع الحروب المتتالية التي تحدث على أرض القطاع، وربما يكاد يختصر قصصهم مع الحياة نفسها
قبل الخوض في تفاصيل الفيلم لا بد من الإشادة بأجوائه لجهة صنعته (صورة وموسيقى وإيقاع)، لكن الفيلم الذي يكشف عن قصص مجموعة متباينة ومتناقضة من أهل غزة، لا يلتفت إلى مصائرهم كثيراً كما تفترض المعايشة الفيلمية التي يحددها ويرسمها الحصار الثلاثي الذي بات يمقته هؤلاء التائهون في هذه البقعة الجغرافية الأكثر ضيقاً في العالم (2 مليون يعيشون على مساحة لا تتعدى 25 ميلاً كما يقول سائق التاكسي الذي يؤدي دوره أمام الكاميرا، لا لشيء، إلا لأنه محظوظ أنه حي)، وقد تحوَّلت إلى سجن كبير ضاغط على الأعصاب، فلا يعود نزلاؤه يدركون ما هي الوجهة التالية، وإلى أين يكون المسير في اليوم التالي. هم يقضون كلَّ يوم بيومه، ولا بأس بتصحيح بعض الأخطاء التي تترسب في حياة كلِّ واحد منهم على حدة. من أين تأتي الأخطاء، وليست كل ضحية منزهة عن أخطائها؟
أبطال الفيلم
يقول لاعب الورق العجوز، الخيَّاط الذي يلعن انقطاع الكهرباء المتكرر، إنه سيقع على عمل كثير، حتى لو لم يكن هناك مصالحة (يقصد المصالحة التاريخية بين حماس وفتح).
يستمرئ الخيَّاط حالته، واضح أنه ابن قديم لحركة فتح، وهو يشعر بالحماس أكثر عندما يلتقي وجهاً لوجه بعدسة الكاميرا:"لو لم تكن حماس موجودة، لحُلَّت القضية الفلسطينية". يضيف وقد بان فمه على مجموعة من الأسنان النخرة. الزمن فعل فعله أيضاً، وليس الكهرباء فقط:"كل دول العالم تتآمر على غزة، لأن حماس موجودة فيها".
ماخلا ذلك لا حضور حقيقياً لحركة حماس في حياة الناس، باستثناء ظهور عرضي لعناصرها، ولبعض قيادييها، وذلك المشهد الاستعراضي الضخم الذي تغطيه الرايات الخضراء، فيما يعود الناس البسطاء إلى واجهة الفيلم مراراً، ليرووا قصصهم دون مواربة، ودون استئذان من أحد. وان شابها حياءُ الكشف، فلربما يعود سبب ذلك إلى عدم التوغل في العمق من قبل المخرجين الإيرلنديين أنفسهما اللذين لم يخفيا –بالمناسبة- تعاطفهما مع شخصيات الفيلم، وأهل غزة عموماً، فهما ينحنيان بحبٍّ أمام المأساة التي يعيشونها، ولكن دون نزول في العمق. أول شيء يقع على عاتق من يريد أن يصور فيلماً في غزة، هو أنه يجب أن ينسى كل ما صُوّر عنها، وهذه قاعدة ذهبية ليست تعليمية على أية حال.
الحياة الفانتازية مؤمنة، ولاتنقص غزة الغرائبيات التي تصنع كادراً جميلاً، لكن المعايشة التي تثمر عنها مثل هذه الأفلام شيء آخر. ربما لم تكن كافية إلى القدر الذي يتجاوز فيلم "غزة: نريد فقط أن نعيش" بعض تبسيطاته في الطرح، وهو ينشد نحو كليشيهات موضوعة على الطاولة، وتبدو مغرية لهما كأجنبيين بعيدين كل البعد عن فهم دوافع هؤلاء الأبطال النفسية على الأقل، التي تحركهم أمام الكاميرا، طالما أنهما قد غرقا في تناول الموضوع الذي يحاكيانه بالفيلم.
يقارب الفيلم حياة الفتى أحمد، والفتاة كرمى، وأمها التي تتحسر على ماضي غزة التي لم تكن تعرف سوى الانفتاح، وربّ العائلة محمد بكر، الذي يحار بأسماء أولاده العشرين، وزوجاته الثلاث، ولولا سوء حظه وظروفه الصعبة لتزوّج الرابعة. وهناك سائق سيارة التاكسي الذي يتقن اللهجة المصرية، ويدور بسيارته على غير هدى في أرجاء القطاع. تارة يشرب قهوة على البحر، وتارة يقلّ شخصية من شخصيات الفيلم. صار واضحاً أن من يقلهم سيظهرون تباعاً أمام الكاميرا، وكلّ واحد منهم لديه قصة. كلّ أهل غزة لديهم قصص سينمائية، وصاروا يمتلكون سحناتٍ مناسبة للتصوير الفوتوغرافي (فوتوجينيك)، لكن كيف يمكن لكل واحد فيهم أن يروي قصته؟ هنا يكمن السؤال، وهنا تكمن البراعة في السرد.
السائق قصد القطاع قبل عشرين عاماً دون أن يحدد الفيلم ماضيه، من أين أتى وكيف. ونفهم أنه سجن عشرين شهراً بسبب فواتير، وتقابل في السجن مع ستة وأربعين من رجال الأعمال الكبار، وفهم حينئذ معنى الحياة، ووحشيتها من هؤلاء المسجونين. واضح أنه سجن عند حماس، لكنه لا يقول ذلك صراحة. هو يترك المشاهدين على سجيتهم ليستنطق حلاً معقولاً لمأساته.
كثيرون هم أبطال الفيلم الذين يتحركون بحرية نسبية أمام الكاميرا، فيما تغص الخلفيات بصور غارات الطيران الإسرائيلي. صيادو السمك الغزّيين الذين ليس أمامهم سوى معبري رفح وإيريتز، الأول من جهة مصر، والثاني من جهة إسرائيل، وكلا المعبرين مغلقان معظم شهور السنة. هناك البحر طبعاً حيث يولون وجوههم، بقوارب متهالكة، وغالباً تطلق الطرادات الإسرائيلية نيران رشاشاتها عليهم.
هناك سائق التاكسي الذي يتقن اللهجة المصرية، ويدور بسيارته على غير هدى في أرجاء القطاع. تارة يشرب قهوة على البحر، وتارة يقلّ شخصية من شخصيات الفيلم. صار واضحاً أن من يقلهم سيظهرون تباعاً أمام الكاميرا، وكلّ واحد منهم لديه قصة
هناك شخصيات أخرى تتحول إلى عبء أيضاً على المشاهدين والفيلم، وبدلاً من أن تشكل رافعاً درامياً لهم، تتحول بنتيجة عدم المعايشة الصعبة مع الشخصيات التي يمكن تفسيرها درامياً إلى دقائق صعبة وممطوطة، أكثر مما هو الزمن ممطوط في غزة نفسها.
بين الأعوام 2014-2018 تغيّرت حياة الناس في قطاع غزة جذرياً. يستذكر السائق ذو اللهجة المحكية المصرية وهو حائر بين عبوس كلماته ومحياه الساخر: "كانت الناس تضحك، وفجأة توقفت عن كل هذا". إنه يلمس هذا التغير الدراماتيكي من خلال فقدان أهل القطاع قدراتِهم على الضحك.
بالطبع عام 2014 كان مقتلة هائلة في حياة الغزّيين استمرت خمسين يوماً. لا يمكن رأب التصدعات إلا بمعاجلة الأسباب التي أدت إلى ذلك. الفيلم لا يغفل حبَّ الناس للحياة، وللغناء، وللفرح على قلة حضوره، لكنه لا يعفي الأقدار ذاتها من تلويث هذه الحياة بصدف القهر والحروب المتتالية التي تدشنها الاحتلالات الثلاثة التي يمضي إليها الفيلم: أين كل هؤلاء البشر من قهر اسرائيل، ومصر، وحماس لهم؟!
وإذ يتناوب الفيلم بالتوازي على حكاياتهم، لن يبتعد المشاهدون بذاكرتهم عن أفلام أخرى صُوّرت في القطاع، وهم يحاولون أن ينزلوا في العمق، ليكتشفوا مسببات محنة هؤلاء البشر، بل سيكتفون بأن يكونوا أسرى للصورة، والإيقاع، والزخم البصري الذي يؤمنه المخرجان لفيلمهما الجيد في تكويناته وأحاسيسه وطروحاته التي تجتهد لترسم صورة إنسانية لأناس تقطعت بهم السبل في بقعة جغرافية مستحيلة.
لا يتوقف الفيلم أبداً عن أن يشكل إيقاعاً بصرياً متماسكاً حتى الدقيقة الأخيرة، إلا أنه يخلص إلى النتيجة نفسها التي يعيها المشاهدون منذ الدقائق الأولى، وربما تكررت في أفلام كثيرة عن قطاع غزة تحديداً: عندما يدور الحديث عن احتلالات ثلاثة هناك، فإن الجميع بات يدركون ما هو المقصود. والحياة نفسها ليست حلاً "فوتوجينيكاً" فقط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينعظيم