أن تولد خارج وطنك، هو أمر "اعتيادي"، ومن الطبيعي أن تحصل على هوية قومية فور عودتك مع عائلتك، أو ربما يتم استخراج هوية وطنية عن بعد في دول عديدة، لكن هذا لا يتحقق في فلسطين، بسبب تعنت الاحتلال ومزاجيته المستمرة، التي تحيل حياة الفلسطينيين إلى مأزق، وطريق شاق أو حاجز عصي على التدارك، فلا يحق للفلسطيني المولود في الشتات أن يحصل على هوية فلسطينية، ولا يحق له المغادرة لو دخل فلسطين، وعليه العيش ببطاقة تعريف، تبقيه دائماً بإحساس "النكرة" في أبسط المعاملات اليومية.
كثيرة هي العائلات الفلسطينية التي بقيت ممزقة لزمن طويل، بسبب هذه القرارات المجحفة التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي بالقوة على الحكمين القائمين في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولا يملك أي منهما تغيير الواقع، بالرغم من أحقية مطالب السكان في المجتمع الفلسطيني، من أجل حياة اجتماعية هادئة ومستقرة.
قرار قسري ظالم
هذا القرار القسري، مضى الاحتلال في تنفيذه منذ حزيران/ يونيو عام 1967، بإصدار قانون بمنع حصول الفلسطيني المقيم خارج قطاع غزة والضفة والداخل الفلسطيني على هوية، بحيث تمنح الهويات فقط لمن كان يقيم آنذاك داخل فلسطين، وعقب تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994، بعد اتفاقيّة أوسلو، وافق الاحتلال على "لمّ شمل" آلاف العائلات الفلسطينية العالقة. لكنّها عادت وأوقفت العمل بقرار "لمّ الشمل"، في عام 2009، بعد تولي بنيامين نتنياهو، زعيم حزب الليكود، سدة الحكم في إسرائيل، فيما صادق الكنيست الإسرائيلي، الخميس 10 آذار/ مارس عام 2022، على "قانون المواطنة" في القراءتين الثانية والثالثة، وهو القانون الذي يحتوي في بنوده على منع لمّ شمل العائلات الفلسطينية.
وفي تموز/ يوليو عام 2021 فشل الكنيست في تمديده العمل بخطوة لم الشمل للفلسطينيين، إذ صوتت ضده أحزاب المعارضة اليمينية وعلى رأسها الليكود، وذلك في إطار استمرار الصراع السياسي بين الأحزاب الصهيونية، وفي محاولة لإحراج الحكومة التي تضم ائتلافاً موسعاً بين اليمين واليسار، في محاولة من أجل تقويض استقرارها.
خوف من الاعتقال والترحيل
أما التفاهمات بين السلطة الفلسطينية ونظام الاحتلال، التي أعلن عنها في أغسطس/آب 2021، كانت تشمل فقط وكمرحلة أولى "تسوية أوضاع المواطنين" بموجب تصريح زيارة أو تأشيرة فيزا وذلك في إجراء شكلي. وهذه الفئة عاشت بشكل دائم على كف عفريت، فكانوا معرضين في أي وقت للاعتقال على أيدي قوات الاحتلال وترحيلهم إلى خارج فلسطين.
كذلك يحرم منع لم الشمل هؤلاء من السفر وحقوق أخرى عديدة، أو أنّه يعقدّها على أقلّ تقدير، كالحقّ في العلاج والتعليم والمعاملات المصرفية والوثائق الرسمية الحكومية، فهم في حالة قلق دائم في حال احتاجوا أي معاملة رسمية، إنهم فلسطينيون… لكنهم لا يتمتعون بأي حال بحقوق المواطنة الفلسطينية.
يحرم منع لم الشمل من السفر وحقوق أخرى عديدة، أو أنّه يعقدّها على أقلّ تقدير، كالحقّ في العلاج والتعليم والمعاملات المصرفية والوثائق الرسمية الحكومية، فهم في حالة قلق دائم في حال احتاجوا أي معاملة رسمية، إنهم فلسطينيون… لكنهم لا يتمتعون بأي حال بحقوق المواطنة الفلسطينية
كما شملت الإجراءات وقتها "حملة الهوية الفلسطينية" لكنهم يقيمون في المحافظات الشمالية (الضفة) فيما يسجل عنوانهم في الهوية، كتابعين للمحافظات الجنوبية في قطاع غزة، وهؤلاء يتم الإشارة بخصوصهم إلى تعديل مكان سكنهم، والغريب هو عدم توفر إحصائيات رسمية من وزارة الشؤون المدنية الفلسطينية حول عدد الفلسطينيين المتقدمين لنيل حق لم الشمل، أو الحصول على الهوية الفلسطينية، في حين أن هنالك آلاف الحالات المنادية بتعجيل إنهاء هذا الملف، فقد حصل مؤخراً ما يقارب خمسة آلاف شخص على الهوية الفلسطينية، بعد تفاهمات بين السلطة وإسرائيل، لكن تبع ذلك تجميد إسرائيلي لمنح لم الشمل لأشخاص آخرين، لتتجدد المعاناة مرة أخرى.
منبوذة في وطني
تقول نجلاء أبو خضرة، 40 عاماً، لرصيف22: "إحساس مخيف أن تكون بلا بطاقة إثبات شخصية كغيرك من الناس، وأن تتملكك مشاعر النبذ في كافة المرافق الحكومية وحتى بعض المؤسسات والبنوك، ويتم رفضك فقط لأنك نازح، فالجميع يقول لك نريد الهوية، وحين أحاول أن أتوسل لأي منهم بأني فلسطينية وأقسم لهم بالله بذلك، يشيرون إلى بالرفض بملامح قاسية".
وتضيف: "هذا الشعور يتحول مع الوقت إلى قهر وعدم إحساس بالأمان في كل شيء في الحياة، فأنا لم أستطع الحصول على وظيفة حكومية، بالرغم من نجاحي في مجال التكنولوجيا، وتوافر عدد من الفرص في الشاغر الوظيفي الحكومي".
وتكمل أبو خضرة: "كان حلم حياتي أن أحصل على منحة لإكمال الماجستير في الإدارة الإلكترونية والمعلوماتية، لتطوير عملي، لكنني للأسف، دائماً ما أصطدم بحاجز منع السفر، فلا أستطيع مغادرة قطاع غزة، لأنني لا أمتلك هوية، فالجميع لا يعترفون بي، وهم يعلمون بأنني فلسطينية، ولا يريدون إنقاذي من هذه المعاناة، وطموحي يتوقف عند حد ما دائماً، وكأنني إنسان درجة أدنى من الآخرين. لقد عدت إلى قطاع غزة مع أهلي للزواج من أحد أقربائي، ومنذ ذلك الحين حصلت على بطاقة تعريف، لا تسمن ولا تغني من جوع، هي بطاقة تكاد تكون بلا قيمة، فأنا محبوسة هنا في غزة ولا أستطيع السفر أو حتى رؤية أهلي".
وحول زواجها في غزة، تقول أبو خضرة: "قبل ثلاث سنوات مرض أبي المقيم في الكويت. قال لي إنه ندم لأنّني تزوجت في غزة، وإنه لم يكن يتوقع أن أبقى سجينة في هذا المكان، قال لي وهو مختنق الأنفاس: "مشتاقلك يابا ونفسي أحضنك قبل ما أموت"، لقد كسرني هذا الشعور وقتها، كانت هذه أقسى لحظة في حياتي، ولعنت كل الظروف التي تحط من مكانة الإنسان وتقيد حريته، وتمنعه من التنقل للقاء أحبته، لتعنت الاحتلال الذي وقف حجرة عثرة في كل مرافق حياتي".
حياة خربة
ولطالما كانت قصص الموت هي الأكثر سينمائية في قطاع غزة، بفعل الأزمات المتكررة، والأحوال غير الاعتيادية التي يعيشها المواطن هناك. فالحدث النوعي المسيطر على حياة الناس لا يتوقف عن جعل الحياة خرِبة، ولا جدوى من استمرارها.
يموت الناس من الحروب وهم ملتفون بعضهم حول بعض، ويكونون جميعاً في عداد النسيان، لكن أن يموت شخص ويبقى الآخر، فتلك كارثة وجودية. لكن الحرب لا تتوقف، وإن توقفت الصواريخ والقنابل، فهنالك حروب صغيرة يشنها الاحتلال ضد كل عائلة فلسطينية وحدها. حرب في الخفاء، حرب أعلى أصواتها النحيب والصراخ الإنساني، تلك الحرب التي تجعل الإنسان على ضفة، وأحد أحبته أو كلهم على الضفة الأخرى، بختم "ممنوع من السفر".
عن هذا تقول نجلاء أبو خضرة: "لقد مات أبي بعد جملته تلك بأسبوعين، وكان من الممكن أن أسافر وألامس حضنه وأحقق له أمنيته قبل الموت، فقط لو أن الحياة عادلة. ولو أنني أعيش في وطن حر، ولي قيادة حرة، لم يكن ليحدث هذا البؤس، إنني أعيش الآن بعقدة ذنب لم أقترفها، أعيش على ذكرى تلك اللحظة، التي لم أكن فيها بجانب أبي في شدته ومرضه، لقد ذهب أبي دون أن يودعني، ودفنت أمنيته معه في قبره، كم هي لئيمة هذه الحياة، تعز على رجل مسن يشعر بالخوف من الموت، أن يضع ابنته في حضنه في لحظات وداعه لها".
هنالك حروب صغيرة يشنها الاحتلال ضد كل عائلة فلسطينية وحدها. حرب في الخفاء، حرب أعلى أصواتها النحيب والصراخ الإنساني، تلك الحرب التي تجعل الإنسان على ضفة، وأحد أحبته أو كلهم على الضفة الأخرى، بختم "ممنوع من السفر"
وفي الوقت الذي تقوم دولة الاحتلال بمنح لاجئيها الوافدين لأول مرة من أوروبا والعالم، بطاقات قومية، وإقامة مواطن، خلال أيام من دخول الأرض المحتلة، فإنها تحجر على الفلسطيني المولود في الشتات. فهي ترى في ذلك مسلكاً آخر بديلاً عن حق العودة، الذي لطالما طالب به الفلسطينيون في المفاوضات السلمية، لكن دولة الاحتلال ترفض ذلك بشكل قاطع.
حياة مجمدة
ميرفت جبور، 36 عاماً، وهي الفلسطينية المولودة في الأردن، والتي عادت منذ ثمانية سنوات للضفة الغربية، لرعاية أمها المنفصلة عن أبيها منذ أكثر من عشرين عاماً، تعاني الأمرين، بعد عودتها لأرض فلسطين، وتجمدت بها الحياة عند تلك اللحظة التي اعتقدت بأنها ستكون لها ولادة جديدة، لكنها اكتشفت بأنها دخلت مقبرة بلا أبواب. تقول لرصيف22: "اللحظة الحاسمة في حياتي كانت عودتي إلى هنا، لأكون غريبة بالرغم من أنني كنت في قمة لهفتي لرؤية وطني الذي لطالما حدثني عنه أبي، لكن أنا بالفعل غريبة، فلا يحق لي أبسط الحقوق في المرافق اليومية، وعانيت كثيراً في إتمام الإجراءات، لعلاج أمي أو لعلاجي، فكلتانا لا تمتلك بطاقة هوية فلسطينية، بفعل تعنت الاحتلال".
وتكمل ميرفت:"عدت لأرض فلسطين، لأنني اشتقت لأمي التي تعاني من مشاكل صحية تمنعها من الحركة بشكل اعتيادي، وقد كانت آخر لحظة سابقة جمعتني بها وجهاً لوجه، قبل ثمانية عشرة عاماً. كما صار علي واجباً أن أعود لرعايتها بعد وفاة أخيها الوحيد، الذي كان يتكفل بذلك".
وتضيف:"مأساة كبيرة أن لا أستطيع السفر مرة اخرى من هذا المكان، ومأساة أكبر أعايشها في اليوميات، فأنا لا أستطيع الاستفادة من الخدمات البنكية، ولا أملك حساباً بنكياً في أي من البنوك الفلسطينية، وبالنسبة للحوالات المصرفية، فإنني أذوق الويلات حتى أحصل عليها، كما أضطر دائماً للاستعانة بإحدى الصديقات من أجل استلام مبلغ مالي من الخارج أو تحويل المال من خلالي للآخرين. أنا أرى أمي المسكينة أمامي متعبة لا تتعدى خطواتها في اليوم عشر خطوات، ولا أستطيع السفر بها أو معها، فكلتانا ممنوعتان من السفر والتنقل، خاصة أن أمي بحاجة لمتابعة صحية ونخشى إدخالها للداخل الفلسطيني للعلاج، فتتعرض للترحيل مرة أخرى بحجة عدم حيازة هوية".
وتستدرك ميرفت:" العجز شعور بشع، إنني عاجزة عن فعل أي شيء تجاه أمي، التي حرمت منها منذ نهايات طفولتي، وكنت أحلم باللحظة التي نلتقي بها معاً، ونعيد ذكريات الماضي الجميلة، لكن وجدتها بحالة صحية سيئة، تعكر صفو يومياتنا… أكون في قمة الرعب عند المرور من الحواجز الإسرائيلية خلال تنقلي، تخيل أن هذا الموقف يتكرر بشكل شبه يومي، حينها أشعر بأن أعصابي تحترق، وقت خضوع المارين للتفتيش على الحاجز، كما أخاف من هواجسي بأن يكتشف الجندي بأنني لا أحمل هوية، ويصدر على إثر ذلك قراراً بمغادرتي فلسطين، ماذا سأفعل حينها بأمي المريضة، التي لا تملك سواي لرعايتها، كما أنها لا تريد مغادرة وطنها الذي حرمت منه لسنين طويلة".
وتتساءل: "أليس من حقي كفلسطينية أن أعيش في وطني بكرامة وبأمان، لماذا يجب علي أن أبقى أدور في دائرة الخوف وعدم الأمان؟ كيف لنا أن نقول إن هذه حياة وهي ليست بحياة!".
أنماط كثيرة ومتنوعة من المعاناة، وقصص مختلفة، يمكن جمعها في إطار ملف لم الشمل للعائلات الفلسطينية التي تقف إسرائيل في وجه إنهائه بالكامل، ومنح الفلسطيني الراغب في العودة لدياره هذا الحق، في إجراء عنصري يكشف عن اتباع الاحتلال بشكل متعسف كل ما يعيق حياة الفلسطينيين، ويعاكس الرواية الإسرائيلية حول كون هذا النظام يعمل وفق القانون الإنساني الدولي، فتلك الأشكال المختلفة لمآسي العائلات الفلسطينية، تتحدث لتعبر عن رداءة الأخلاق الإنسانية التي يتباهى بها العالم، وبما يحدث من تغاضٍ على ممارسات دولة الاحتلال بحق الفلسطيني كل يوم من إقصاء وتدمير لذاته، ومنعه من أدنى حقوقه وأبرزها حصوله على هوية إقامة في وطنه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين