منذ العام 1948 والاحتلال الإسرائيلي يحاول تمزيق النسيج المجتمعي الفلسطيني بشتى الوسائل. كان أهمها جعل الفلسطينيين يعيشون في مناطق منفصلة، ووضع العراقيل والصعوبات لمنع تواصلهم مع بعضهم البعض، حتى أصبح لدى الفلسطينيين الذين يعيشون في فلسطين اليوم مكانات قانونية مختلفة، فمن يعيشون في فلسطين المحتلة (مناطق 48) يحملون هويات وجوازات سفر إسرائيلية، ومن يعيشون في القدس يحملون هويات اسرائيليّة لكن دون جنسية ودون جواز سفر، فيحملون "وثيقة سفر" إسرائيلية وجوازات سفر أردنية تسمى "جوازات سفر مؤقتة". من يحمل هذا الجواز لا يعد مواطناً أردنياً. فهذه الجوازات بلا جنسية أو رقم وطني أردني. أما من يعيشون في الضفة الغربية وقطاع غزة فيحملون جنسيات فلسطينية أي هويات وجوازات سفر فلسطينية.
رغم هذه الوضعية القانونية المشتتة للفلسطينيين، إلا أنهم كانوا تزوجوا من بعضهم البعض حتى عام 2003، حين أصدر الكنيست قانون المواطنة والدخول إلى إسرائيل، الذي يمنع لم شمل العائلات الفلسطينية الذي يحمل فيها أحد الأزواج الهوية الفلسطينية والآخر الهوية الإسرائيلية، وجعل حياتهم مليئة بالصعوبات والعراقيل.
أن تولد بلا جنسية
"في بداية زواجنا كانت، الصعوبات مقتصرة على المشاوير والرحلات التي لا يستطيع زوجي مرافقتي فيها. لكن بدأت العراقيل تثقل كاهلي عند حملي بابني آدم"، هكذا بدأت جمانة (اسم مستعار) كلامها، الأخصائية الاجتماعية التي تحمل الهوية الإسرائيلية، والتي تعرفت على زوجها محمد الذي يحمل الهوية الفلسطينية أثناء دراستهما في جامعة بيرزيت.
تقول جمانة لرصيف22: "حين كنت حاملاً، أخبرتني إحدى صديقاتي بأن عليّ التسجيل، منذ الشهر السابع، في المستشفى من أجل الولادة، ذلك لأن هوية زوجي مختلفة عن هويتي. حين توجهت إلى مستشفى هداسا في العيسوية من أجل التسجيل للولادة رفضوا تسجيلي عند رؤية هوية زوجي. وأخبروني بأن عليّ التوجه إلى مركز التأمين في الناصرة. وحين ذهبت إلى هناك أخبروني بأنهم سيجرون فحصاً قبل أن يجيبوني. أقمت في الناصرة لمدة شهرين أنتظر رد التأمين الوطني لكنهم لم يجيبوا أبداً. وحين أصبحت في الشهر التاسع، عدت إلى مكان سكني رام الله. بينما قام موظفو التأمين بالقدوم لمكان إقامتي في الناصرة لثلاث مرات ولم يجدوني، مما جعلهم يطلبونني للتحقيق. في التحقيق، سألوني أسئلة صعبة عن مكان وجودي في تواريخ معينة وكنت في شهر حملي التاسع ومتعبة جداً، فقد ضغطوا عليّ نفسياً، وشعرت بإنذار كاذب للولادة من شدة الضغط النفسي والتعب. نزعوا مني بعدها تأميني الصحي، واضطررت للولادة في مستشفى المقاصد في القدس على تكلفتي الخاصة".
تسترجع خوفها من ولادتها في الطريق أو على الحاجز الإسرائيلي الذي يفصل الضفة الغربية عن القدس. كان هاجس يتملكها بأن ابنها قد يولد بلا أي جنسية، ويحرم من حقوقه كإنسان
تتذكر جمانة يوم ولادتها، وتسترجع كمية المشاعر المتخبطة والتوتر الذي كان يتمكن منها وهي تضع يدها على بطنها متوجهة إلى المستشفى، تسترجع خوفها من عدم قدرتها على الوصول إلى المستشفى في الوقت المناسب بسبب حركة السير الخانقة في الطريق الواصل من رام الله بالقدس. تسترجع خوفها من ولادتها في الطريق أو على الحاجز الإسرائيلي الذي يفصل الضفة الغربية عن القدس. كان هاجس يتملكها بأن ابنها قد يولد بلا أي جنسية، ويحرم من حقوقه كإنسان. "غريزة الأمومة كانت تجعلني أقاتل لأصل المستشفى، وحالما وصلت كنت متعبة نفسياً ولم تكن لديّ طاقة للولادة. بعد الولادة انهالت عليّ الصعوبات. كان عليّ أن أحمل طفلي وآخذه إلى الناصرة من أجل تسجيله، ثم كان عليّ توكيل محام لكي أسترد تأميني الوطني وتأمين طفلي"، تقول جمانة، وتضيف: "ثم وجدت عملاً في القدس واستطعت أن أثبت بأنني أقيم في القدس كي لا أخسر أنا أو ابني أياً من حقوقنا. كان وما زال عليّ فعل كل شيء لوحدي، لأن زوجي لا يستطيع الدخول لإسرائيل".
تعزيزاً لنظام الأبرتهايد
توضح سوسن زهر، نائبة مدير عام مركز عدالة؛ المركز القانوني لحقوق الأقليات العربية في إسرائيل، بأن إصدار قانون منع لم شمل العائلات الفلسطينية هذا تزامن مع بناء جدار الفصل العنصري في الأراضي الفلسطينية. والغاية المُعلنة لبناء الجدار كانت ذاتها المعلنة لإصدار هذا القانون؛ لدوافع أمنية، أي لمنع الفلسطينيين من القيام "بعمليات أمنية" في إسرائيل. وبيّنت زهر لرصيف22 بأن مركز عدالة قدم التماساً للمحكمة العليا الإسرائيلية ضد هذا القانون بعد يوم واحد من صدوره. وبعد حصولهم على الكثير من المعلومات من المحكمة تبيّن بأن هدف هذا القانون هو ديمغرافي وسياسي وليس أمنياً، كما تدعي دولة الاحتلال. حيث أن من بين مئتي ألف طلب للم الشمل، والتي قدمت في العشر سنوات التي سبقت هذا القانون، كان هنالك 26 حالة فقط لهم علاقة بعمليات تفجيرية في إسرائيل. لكن لم يقدم ضد أي منهم لوائح اتهام، أي أن هذه العلاقة قد تكون قرابة دم فقط. هذا يؤكد بأن هدف هذا القانون لم يكن أمنياً، بل كان ديمغرافياً فقط، يعمل على تعزيز الانفصال بين الفلسطينيين ونظام الأبرتهايد الإسرائيلي.
لو نقلوا إقامتهم إلى الضفة الغربية سيعرض نفسه وأولاده لخطر تجريدهم من هويتهم المقدسية. وهذه سياسة ممنهجة تعتمدها دولة الاحتلال من أجل تهويد القدس وإفراغها من أهلها الفلسطينيين
لقد تزوج المقدسي سعيد (اسم مستعار) 32 عاماً، ويعمل في تحليل البيانات، منذ عشر سنوات من سيدة من الضفة الغربية تحمل هوية فلسطينية. يتحدث سعيد لرصيف22 عن الصعوبات التي تواجههم كعائلة، مثل عدم قدرة زوجته على السواقة في القدس على الرغم من حصولها على رخصة قيادة دولية، وعدم قدرتها على العمل في سلك التعليم في القدس مع أنها تحمل البكالوريوس والدبلوم من جامعات معترف بها. كما لا يسمح لزوجته السفر من مطار بن غوريون في تل أبيب إلا إذا كان لديها تصريح سفر. وتصريح السفر هذا يقدم قبل السفر بأيام قليلة فقط، لذا من المحتمل ألا تحصل عليه وبذلك تخسر تذكرة سفرك. كما أشار سعيد للإجراءات السنوية المتعبة التي عليهم القيام بها لكي تحصل زوجته على تصريح سنوي للإقامة في القدس. بينما لو نقلوا إقامتهم إلى الضفة الغربية سيعرض نفسه وأولاده لخطر تجريدهم من هويتهم المقدسية. وهذه سياسة ممنهجة تعتمدها دولة الاحتلال من أجل تهويد القدس وإفراغها من أهلها الفلسطينيين. فبحسب القانون الإسرائيلي "المقدسي الذي لا يعيش في القدس ما يقارب السنتين، تُنتزع منه هويته المقدسية".
وحول ذلك توضح المحامية زهر بأنه وقبل العام 2003، كان يُسمح لمن يحملون الهوية الفلسطينية ويتزوجون ممن يحملون الهوية الإسرائيلية بلم شمل عائلاتهم، وكانت تحتاج هذه العملية لما يقارب الأربع سنوات ونصف. وحين صدر القانون تم "تجميد مكانة" من قدّموا للم الشمل؛ فمن لديه تأشيرة مؤقتة بقي على وضعه ومن أخذ الجنسية حافظ على وضعه.
قانون ينتزع الهوية والمكان والحق
تشير زهر إلى أن المحكمة العليا، ونتيجة الالتماسات التي قدمها مركز عدالة ومراكز حقوقية أخرى، قامت في العام 2007 بإجراء تعديلات على القانون، كان أهمها زيادة الاستثناءات على القانون ليسمحوا بالتقدم بتصريح سنوي بدخول إسرائيل لحملة هوية الضفة الغربية من النساء اللواتي تجاوزن الـ25 عاماً وللرجال الذين تجاوزا الـ35 من العمر. أما من يحملون الهوية الغزاوية فلقد منع دخولهم من أي أعمار، نتيجة فوز حركة حماس في العام 2006 بانتخابات المجلس التشريعي في غزة. كما وأضافوا دول عربية وإسلامية أخرى لهذا القانون، مثل لبنان وإيران وسوريا والعراق، حتى ولو كان هؤلاء يحملون جنسيات أجنبية أخرى. "لو كنت أعيش في لندن وتعرفت على رجل من أصل لبناني مثلًا، فإنني لا أستطيع الزواج منه والعيش في مدينتي حيفا، حتى إن لم يكن قد ولد أو عاش في لبنان، فقط لأنه قد يحمل جنسية لبنانية من والديه" تقول سوسن، التي تؤكد إن هذا ينتهك حقوقها الدستورية كمواطنة، ويساهم في التمييز القومي والإثني بين المواطنين.
لو كنت أعيش في لندن وتعرفت على رجل من أصل لبناني مثلًا، فإنني لا أستطيع الزواج منه والعيش في مدينتي حيفا، حتى إن لم يكن قد ولد أو عاش في لبنان
أما الصحافية المقدسية راما يوسف فلقد تعرفت على زوجها عرفات أثناء عملها، وهو أسير محرر حمل الهوية الفلسطينية. تقطن راما مع عائلتها الصغيرة في كفر عقب، فزوجها لا يستطيع حتى الحصول على تصريح لدخول القدس لأنه أسير سابق. تقول راما بأن الصعوبات بدأت حتى قبل أن يتزوجا. فلكي يتعرف أهله على أهلها، كانت على عائلتها أن تزور عائلته، لأن عائلته لا تستطيع الدخول إلى القدس، وهذا يتناقض مع العادات والتقاليد في فلسطين التي تفترض بأن عائلة العريس هي من تزور عائلة العروس في البداية. ثم بدأت مصاعب اختيار مكان الخطوبة ومكان السكن، ثم صعوبات تسوية أوضاعها مع التأمين الصحي وعملها في القدس. أخبرتنا راما عن عدم قدرة زوجها رؤية منزل عائلتها في حارة السعدية في البلدة القديمة في القدس. فتقول: "يؤثر اختلاف الهوية على حياتنا كثيراً، فالانفصال الجغرافي أدى إلى اختلاف في العادات والتقاليد، وهو ما يحتاج إلى جهد إضافي من أجل أن نتأقلم فيما بيننا، كأننا من ثقافات مختلفة".
تتحدث راما عن الصعوبات التي تواجههم في تسجيل ابنهم، الذي يبلغ تسعة شهور وما زال لا يملك رقماً وطنياً، إضافة إلى أنه مسجل باسمها بلا أب، بسبب مماطلة التأمين الوطني الإسرائيلي في تنفيذ إجراءاتهم.
"زواجي من رجل يحمل هوية فلسطينية يجعلني أعيش في خوف وتوتر لا ينتهيان، مع أنني أحب زوجي وأؤمن بقضيتنا الفلسطينية العادلة وبحق كل إنسان باختيار شريك حياته وبحق الفلسطيني بأن يتزوج من أي منطقة من بلاده دون عوائق. أخاف أن أفقد هويتي المقدسية، أخاف ألا أستطيع في يوم زيارة بيتي وحارتي في القدس. أخاف أن أفقد حريتي في الحركة والتنقل في كامل بلادي. أخاف أن أفقد حقي بأن أعيش حياة طبيعية دون خوف، أو أن تسيطر عليّ فكرة بأن هنالك ورقة ثبوتية ناقصة. كل هذه الأشياء متعبة ومقلقة وتستنزف وقتي وطاقتي وجهدي. رغم كل ذلك، أنا متأكدة من شيء واحد؛ لو عاد بي الوقت سأعيد هذه التجربة بحذافيرها وسأختار زوجي." تؤكد راما.
منع لم شمل العائلات الفلسطينيّة في إسرائيل هي إحدى سياسات دولة الاحتلال الممنهجة من أجل ترسيخ نظام الأبارتهايد أو الفصل العنصري الذي تمارسه بحق الفلسطينيين، وتقييد المواطنة العربية في إسرائيل بواسطة نظام الدولة الإثنوقراطي ومشروع التهويد المهيمن والاستعماري المرافق له. فإسرائيل تسعى لتقليل عدد الفلسطينيين فيها تحقيقاً ما يسمى بالدولة القومية اليهودية، وهو ما يناهض جميع الاتفاقيات الدولية بشأن مناهضة التمييز الإثني والقومي الموقعة عليها إسرائيل، وهو ما يفنّد أيضاً ديمقراطية إسرائيل المزعومة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين