شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
عن

عن "اللا قانون" وحيرة التضامن في قضية "منى برنس"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن وحرية التعبير

الأحد 18 سبتمبر 202204:17 م

لا تخبرنا قضية منى برنس وعزلها النهائي عن التدريس بجامعة قناة السويس شيئاً عن القانون، بل عن اللا قانون الذي يتربص بالحريات الشخصية وحرية الإبداع في مصر، كأن كل نجاة لتلك الحريات تحدث بمحض الصدفة فقط، وليس وفق القانون الرسمي، بل وفق المزاج الشخصي للقاضي أو وكيل النيابة أو الضابط.

كل الحالات التي صدرت ضدها أحكام رجعية مؤخراً، كعزل الأستاذة الجامعية والروائية منى برنس، أو حتى حبس الروائي والصحافي أحمد ناجي قبل بضعة أعوام، سبقها تاريخ من حالات مماثلة خاصة في مجال الحريات الأكاديمية كان المتهم يحصل فيها على البراءة ثم فوجئ بحكم صادم بعد أن ظن أن القضية انتهت، بل أن ناجي نفسه حصل على حكم براءة في الدرجة الأولى من التقاضي.

 ربما لا تحظى القضايا التي ناصر فيها القضاء الحريات بالشهرة التي تحوزها مثل تلك الحالات التي يحكم فيها بالإدانة، وتستدعي مثل ذلك الذعر المستحق. ولعل أشهر تلك القضايا التي وقفت بجوار الحرية هي محاكمة طه حسين عام 1926، التي أنقذت فيها مذكرة النائب العام محمد نور، عميد الأدب العربي من الإدانة، وكانت حيثيات حكمه مناصرة للموقف العلمي وحرية البحث العلمي، ويحفل تاريخ القضاء الإداري بسلسلة من تلك الأحكام المناصرة التي تقف بجوار الحريات الأكاديمية، إلى جوار تاريخ مخز أيضاً.

لكن اللافت والخطير في حيثيات حكم منى برنس، ليس فقط أنه لم يعد يعبأ بمسألة حرية البحث، بل يضيق المسألة للتفتيش في الضمائر وحرية الأستاذ الجامعي الشخصية خارج حرم الجامعة، فكل ما فعلته منى هو الرقص في منزلها.

حيثيات المحكمة جاء فيها "الحرية الأكاديمية لا تعني إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة"، وهي جملة تنسف فكرة تدريس الفلسفة في مصر من أساسها، وتجعل أي أستاذ جامعي – يُدرسها بجدية- يعمل تحت رحمة مزاج قاض أو بلاغ من مواطن

في مصر لا يوجد قانون واضح لتجريم رقص أستاذة جامعية في منزلها، أو تجريم الرقص بشكل عام، وكذلك لا يوجد نص يجرم حرية الإبداع كما في حالة أحمد ناجي على سبيل المثال، كما أن في مصر لا يوجد قانون لتجريم تدريس الفلسفة، والتي لا يمكن تدريسها في الأساس من دون مناقشة الدين كثابت، وهو ما يناقض حيثيات المحكمة التي جاء فيها "الحرية الأكاديمية لا تعني إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة"، وهي جملة تنسف فكرة تدريس الفلسفة في مصر من أساسها، وتجعل أي أستاذ جامعي – يدرسها للطلبة بجدية- يعمل تحت رحمة مزاج قاض أو بلاغ من مواطن يؤمن أنه بارتكابه لأفعال المخبرين؛ يدافع عن الوطن أو الدين أو مبدأ، أو أنه يمارس فعلاً متسامياً بينما يخفي تحت هذا الفعل المتسامي بؤس أفكاره وحياته، كما علق الكاتب أحمد ناجي، وأتفق معه، على تفاخر مقدمة البلاغ ضد منى برنس على حسابها على تويتر، وهي تظن أن ما فعلته ليس منحطاً، بل نصرة للحق.

إذن يمكن في أي وقت تكييف النص القانوني لإصدار حكم إدانة إذا كان مزاج القاضي رجعياً. الأحكام المماثلة الصادرة عن القضاء، تشترك فيما بينها - وكما في قضية نصر حامد أبو زيد وطه حسين- أن محركها مواطن عادي، وصل بلاغه إلى مواطن عادي آخر يحوز سلطة: وكيل نيابة في حالة ناجي، وقاضي في المحكمة الإدارية العليا في حالة برنس، ورغم أني لست رجل قانون، إلا أن حيثيات الحكم تشرح أنها حيثيات شخصية أكثر منها مرجعية قانونية، وكل ما تستند إليه هو عدم وضوح القانون، لا وجوده، أو مواد دستورية فضفاضة، في التحليل الأخير: كل الأفعال مُجرَّمة ويمكن إدانتها، هذا لا يصلح أن يكون جوهر للقانون بل لابتزاز وتهديد دائمين.

الأحكام المماثلة الصادرة عن القضاء، تشترك فيما بينها - وكما في قضية نصر حامد أبو زيد وطه حسين- أن محركها مواطن عادي، وصل بلاغه إلى مواطن عادي آخر يحوز سلطة في القضاء أو النيابة العامة

الخطير أن مثل تلك الأحكام لا علاقة لها بعهد معين، قد تحدث في ظل دولة مبارك أو السيسي، أو حتى في ظل رئيس منتخب بشكل ديمقراطي، لأن الجذر نفسه الذي صار إليه مزاج الشعب وممثليه في السلطات المختلفة، قد أصابه العفن، لأن المواد الدستورية والقانونية لا تنتصر صراحة للحريات الشخصية أو تجرمها، ليس لأنها غير قادرة أو لا ترغب؛ بل لأن مساحة النفاق دائماً أكثر رحابة. ولأن السلطة، أي سلطة، تفضل ملاعبة جمهورها على مواجهته، وتفضل أن نظل تحت سيفها على أن نحيا بكرامة، وأن يظل التهديد عالقاً فوق رؤوسنا، لأن من يقاومه في الأساس يفتقر إلى أصالة الموقف.

المقموع الآن يعود، وقد توحد مع القامع، وبات يملك القوة على النفي والحبس، لأن صانع القمع الأساسي لم يُدَن، بل أُشيح عنه الوجه بدعوى التنوير

ولا يفوتني أن أشير إلى ملاحظة باسل رمسيس التي ذكَّرنا فيها بموقف منى برنس نفسها من حبس علاء عبد الفتاح للمرة الأولى لمدة خمس سنوات، إذ أيدت الحكم الصادر ضد علاء وكان مبررها في ذلك كونه "قليل الأدب". وكذلك موقفها الغريب الذي يحمل شيئاً من الاعتزاز المعلن بإسرائيل في مقابل شيء من التحقير للفلسطينيين، لا لشيء إلا لأن إسرائيل في نظرها نموذج لدولة غربية، أي متحضرة بالضرورة، رغم أنها دولة احتلال قمعية وعنصرية، وهو ما يشير إلى أن مطالبة السلطة بالقمع هو عين ما أراده بعض رموز أو دعاة التنوير المصريين، ظناً أن ذلك القمع لن يطالهم، وكذلك الافتتان الدوجمائي بالغرب المبني في الأساس على احتقار الذات، ونفي ذلك الاحتقار عنها، هو استلاب ينسى كذلك أن فقر أو جهل دولة ما، جزء منه معلق في رقبة دولة أغنى. كما أن لعبة التنوير تخلت عن جوهرها لتصير مجرد لعبة يمكن عبرها تقديم التحية العسكرية للقامع المتربح من الجهل والدعاية الإسلاموية ضد دولته، لأن المقموع بكل جهله ليس في موقف قوة في الأساس، لم يكن في زمن ما قادر على حبسها، لكنه الآن يعود، وقد توحد مع القامع، ويملك القوة على النفي والحبس، لأن صانع القمع الأساسي لم يُدَن، بل أُشيح عنه الوجه بدعوى التنوير.

عين ما أرادته منى هو شأن ما يفعله كثير ممن يسمون أنفسهم بمحاربي الجهل في مصر: استعراضاً مبتذلاً باسم القضية، لا دفاعاً حقيقياً عنها. مجرد تنمر على أطراف بائسة، وابتذال يمنح انحطاط المخبرين مزيداً من الشرعية البائسة للتفتيش في الضمائر

تشككني تلك المواقف في إيمان منى برنس نفسها بالحريات، ويدفعني لتأمل - لا يمنعني عن فحصه بعمق أكبر إلا أنها الآن في موقف الضحية-، أن عين ما أرادته منى هو شأن ما يفعله كثير ممن يسمون أنفسهم بمحاربي الجهل في مصر، استعراضاً مبتذلاً باسم القضية، لا دفاعاً حقيقياً عنها. مجرد تنمر على أطراف بائسة، وموقف لن يُعبَّر عنه بذلك الابتذال من مثقف حقيقي كطه حسين، إنه ابتذال يمنح انحطاط المخبرين مزيداً من الشرعية البائسة للتفتيش في الضمائر.

بل على العكس أقارن موقفها مثلا بموقف أحمد ناجي الشاب، الذي أصدر بعد تجربته في الحبس بتهمة خدش الحياء، واحداً من أهم الكتب التي صدرت أخيراً "حرز مكمكم"، وهو كتاب سيعيش طويلاً، لأنه أدرك وهو يكتبه أن ما يواجهه أقوى من مجرد مواطن قدم فيه بلاغاً، بل منظومة حكم كاملة، حاول أن يقبض على جذر العفن والكمكمة، ولم يلتفت كثيراً لذاك المواطن الذي قدم فيه بلاغه، لم يفكر مثلاً أن الأمر كان موجهاً ضده هو بالذات عقاباً على شيء. لقد أدرك وهو يقبض على صورة للوطن كحرز مكمكم، أنه ليس هو من يُحاكم، بل الدولة كلها.

لا أملك إلا مساندة منى برنس، ليس من منطلق شجاعة أو تفضُّل نبيل؛ لا يمكن لأحد أن يدعي الشجاعة أو النبل أصلاً في مستنقع. بل لأني أساند نفسي وأحميها

في النهاية، لا أملك إلا مساندة منى برنس، لأن الحكم موجه بالفعل ضد الحرية، حرية الإبداع والسؤال وتدريس الفلسفة، ويضعنا جميعاً ككتاب ومثقفين تحت نصله. على العكس، ربما مما يقال عن كونه عقاباً على ترشحها للرئاسة عام 2018، وكلنا نعرف أن تلك الانتخابات التي جاءت بعد 4 سنوات من حكم راسخ للسيسي لم تكن إلا مسرحية، المشارك فيها في الأساس لا يبغي سوى شيئين، إضفاء شرعية على مشهد فاسد دعماً للقامع، لا  لإعلان موقف منه، أو هوس جذب الانتباه، خاصة مع انعدام فرصها، فهي في النهاية مجرد أستاذة جامعية بلا ظهير سياسي أو شعبية من أي نوع.

لا أملك إلا مساندة منى برنس، ليس من منطلق شجاعة أو تفضُّل نبيل؛ لا يمكن لأحد أن يدعي الشجاعة أو النبل أصلاً في مستنقع. بل لأني أساند نفسي وأحميها، لأن عيني لم تعمَ عن سبب إصدار مثل هذا الحكم عليها، وهو أن العفن متجذر في مفاصل القانون، والدولة، في مرجعية وكيل نيابة شاب، وهو ما أدركه ناجي بذكاء.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

معيارنا الوحيد: الحقيقة

الاحتكام إلى المنطق الرجعيّ أو "الآمن"، هو جلّ ما تُريده وسائل الإعلام التقليدية. فمصلحتها تكمن في "لململة الفضيحة"، لتحصين قوى الأمر الواقع. هذا يُنافي الهدف الجوهريّ للصحافة والإعلام في تزويد الناس بالحقائق لاتخاذ القرارات والمواقف الصحيحة.

وهنا يأتي دورنا في أن نولّد أفكاراً خلّاقةً ونقديّةً ووجهات نظرٍ متباينةً، تُمهّد لبناء مجتمعٍ تكون فيه الحقيقة المعيار الوحيد.

Website by WhiteBeard
Popup Image