أسدلت المحكمة الإدارية العليا المصرية الستار على الفصل الأخير في المسيرة الأكاديمية لأستاذة الأدب الإنجليزي بجامعة قناة السويس منى برنس، بتأييد حكم سابق بعزلها من وظيفتها، بعد قضائها أربع سنوات في صراع قضائي للبقاء في وظيفتها التي أُقيلت منها بسبب ممارسات شخصية لم تخرج عن حقوقها الفردية المكفولة دستورياً بارتداء الملابس التي تروقها، أو حتى الرقص أعلى سطح منزلها.
ورأت محكمة القضاء الإداري - التي كان من المعروف عنها الانتصار المتكرر للحقوق والحريات التي يكفلها الدستور وتنظمها القوانين- في حكمها الصادر أمس الإثنين 12 سبتمبر/ أيلول، أن رقصة الأكاديمية والروائية المصرية تحديداً مخالفة تحط من قدرها كأستاذة جامعية، وتنال من هيبتها أمام طلابها، وتجرح شعور طالباتها، وتمس كبرياء زميلاتها رفيقات دروب العلم.
وجاء في منطوق الحكم الذي نشرته برنس عبر صفحها الشخصية: "لا يجوز لأستاذ الجامعة ولو خارج نطاق الوظيفة أن ينسى أو يتناسى أنـه تحوطه سمعة الدولة، وترفرف عليه مُثلها، وأن الكثير من تصرفاته الخاصة قد يؤثر في حسن سير المرفق الجامعي وسلامته أو يعوق سيره ويضر بسلامته" هكذا جاءت حيثيات المحكمة بخصوص عزل منى برنس من وظيفتها بشكلٍ نهائي.
منى برنس، المولودة في 1970، كاتبة وروائية ومترجمة وأكاديمية، حاصلة على الدكتوراه في الأدب الإنجليزي، وعملت في التدريس الأكاديمي في كلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم في كلية التربية بجامعة قناة السويس، وهي آخر محطاتها المهنية على المستوى الأكاديمي بعدما تم عزلها من وظيفتها بشكل نهائي.
رأت محكمة القضاء الإداري - التي كان من المعروف عنها الانتصار المتكرر للحقوق والحريات التي يكفلها الدستور وتنظمها القوانين-، أن رقصة الأكاديمية والروائية المصرية تحديداً مخالفة تحط من قدرها كأستاذة جامعية، وتنال من هيبتها أمام طلابها
السبب الأول الذي أقصى برنس هو نشرها فيديوهات وهي ترقص أعلى سطح منزلها مصحوبة بصور لها بملابس البحر، أما المخالفة الثانية التي وردت في حيثيات الدعوى القضائية، فهي "الخروج على التوصيف العلمي للمقررات الدراسية، ونشر أفكار هدامة تخالف العقائد السماوية والنظام العام، لما ألقته على الطلاب بأقوالها في المحاضرات بالطعن فى ثوابت الدين بقولها "لقد تعرض إبليس للظلم وأنه هو الشخصية الأفضل لأنه عبر عن إرادته بحرية ودافع عن اختياره بإرادته دون أن ينساق للتعليمات والأوامر كما فعل القطيع، وأن مسألة المصير الاُخروي محل نقاش"، ونصحتهم بعدم الالتزام بالتقاليد، وما تشمله من أديان لأنها تؤدى إلى التخلف".
وطوال أمد التقاضي الذي امتد منذ قرار عزلها عن منصبها في 2017، حرصت برنس على إعلان تمسكها بحقوقها الشخصية، وكتبت مراراً أنها لا تنفي الاتهام الأول فهي "تحب الرقص كسيدة شرقية تربت على أن الرقص ليس عيباً"، وكذلك لا ترى في الثانية اتهاماً حقيقياً كونها تقوم بتدريس مادة فلسفية قائمة على مناقشة الأفكار مع طلابها، وهو صلب حرية العمل الأكاديمي الذي لا يراه الكثير من الأكاديميين جريمة".
طوال أمد التقاضي الذي امتد منذ قرار عزلها عن منصبها في 2017، حرصت برنس على إعلان تمسكها بحقوقها الشخصية
ما الذي جعل الدولة طرفاً؟
دائما ما تثار نقاشات حول حدود ممارسة العاملين بالدولة حقهم في التعبير الحر عن آرائهم داخل المرفق العام.
إلا أن الجامعة المصرية منذ نشأتها حرص مؤسسوها وأساتذتها على استقلالها عن الدولة ونظم الحكم وخاضوا صراعات حسموها خلال العهد الملكي لصالح الفصل التام بين "الدولة" كأجهزة ومؤسسات وبين الجامعة التي يعد استقلالها عنصراً رئيساً من كفاءتها الأكاديمية والعلمية، إلا أن ذلك الفصل الواضح أخذ في التضاول عقب 1952 وأطيح عقب إنهاء حكم الإخوان المسلمين في يونيو/ حزيران 2013، عبر ملاحقة الأصوات الاكاديمية الباقية الحريصة على استقلال الجامعة والتي تمثلت في حركة 9 مارس التي تلاشت تماماً عقب احتجاز السلطات لأبرز قياداتها بتهم تتصل بالإرهاب والانتماء لجماعة محظورة.
بحسب منطوق الحكم الذي أصدره المستشار محمد عبدالوهاب خفاجي، اعتبرت المحكمة منى برنس موظفة بالدولة، وتنسحب تصرفاتها الشخصية على صورة الدولة وهيبتها، وهو ما يعد سابقة في منطوق حكم قضائي.
منذ نشأتها، حرص مؤسسو الجامعة المصرية وأساتذتها على استقلالها عن الدولة ونظم الحكم وخاضوا صراعات حسموها خلال العهد الملكي لصالح الفصل التام بين "الدولة" كأجهزة ومؤسسات وبين الجامعة، التي يعد استقلالها عنصراً رئيساً من كفاءتها الأكاديمية والعلمية
وتواجه السلطات المصرية على اختلافها التصرفات التي تراها "تمس هيبة الدولة" بحسم، من خلال اتخاذ إجراءات وتوقيع عقوبات صريحة ومُقنَّعة على العاملين بالدولة "لدواعي الخوف على سير العمل داخل المرفق"، وما يؤكد على ذلك حالة التنوع التي نجدها في الأحكام الصادرة عن المحاكم التأديبية والمحكمة الإدارية العليا، والتي بحثت أمورًا عديدة تتعلق بتفسير نصوص الدستور والقوانين واللوائح المُنظمة المتعلقة بحدود حرية التعبير داخل المرافق العام.
رقصة تفتح باب الجحيم
في إبريل/ نيسان 2017، أحالت جامعة السويس الدكتورة منى البرنس الأستاذ بكلية الآداب بجامعة السويس إلى التحقيق بسبب “النشر على حسابها بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك من مقاطع وفيديو، والظهور في عدة قنوات تلفزيونية دون إذن الجامعة والإدلاء بتصريحات مخالفة للقانون والقيم الجامعية”، انتهت الاتهامات بعد استمرار التحقيق لمدة 14 شهرًا إلى عزل الدكتورة منى من وظيفتها بالجامعة.
لمنى برنس تاريخ أطول من عمر واقعة الرقص التي تسببت في إنهاء عملها، إذ اتهمتها جامعة السويس التي تعمل بها بازدراء الأديان في 2013، بعد شكاوى تقدمت بها بعض الطالبات إلى إدارة كلية التربية، لحديثها عن الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين في مصر بعد أيام من اشتباكات بين شبان مسيحيين غاضبين ومسلمين خارج الكاتدرائية المرقسية بحي العباسية في شمال القاهرة الشهر السابق على تاريخ التقدم بالشكوى.
حصلت برنس في هذه القضية على البراءة، وترتب عليها التفكير في الخروج من البلاد، من خلال حصولها على منحة أمريكية تقدم للأكاديمين المضطهدين.
"سنة 2013 جامعة السويس اتهمتني بازدراء الاديان، والحمد لله طلعت براءة. وقتها قدمت على منحة لأمريكا للاساتذة المضطهدين وسافرت كاستاذ زائر في كاليفورنيا سنة 2014/ 2015، وكانت أحسن سنة اشتغلت فيها كأستاذة. وأنا هناك اتعرض عليا إني اقدم طلب لجوء لأمريكا بسبب الاضطهاد اللي اتعرضت له. وأنا رفضت رفض تام ونهائي. ولحد انهاردة وبعد قرار المحكمة برضه مش هقدم طلب لجوء أبداً. أنا مصرية و هفضل مصرية و مش هخرج من مصر مهما يحصل لي".
وواصلت منى برنس في منشور ضمن عدة منشورات كتبتها عبر حسابها الشخصي على فيسبوك تعليقاً على الحكم: "أكيد طبعاً، إنه غير ممكن وغير واقعي في مصر إن أكاديمية، كاتبة، مترجمة، فنانة خزف، رشحت نفسها لرئاسة مصر في 2012 و 2018، وبتحب الحياة وبتستمتع بها، ترجع تدخل قاعات محاضرات وتقابل طلبة و تدعوهم للتفكير والنقاش الحر العقلاني من خلال النصوص الأدبية. غير ممكن طبعاً إن المحكمة تحكم بعودتي الى عملي كأستاذة في جامعة مصرية، وتحكم بعزلي النهائي من العمل في الجامعات المصرية المحترمة".
الحظر الأكاديمي طال أعمال منى برنس الأدبية ونشاطها الثقافي داخل مصر: "الحظر اللي معمول عليا في مصر سواء نشر أعمالي أو أخبار عن أعمالي الأدبية أو المشاركة في برامج ثقافية أو مؤتمرات أدبية، بيضحكني و الله، دة حتي الأخبار اللي كانت عن ترشحي للرئاسة في 2018 اتشالت من على النت في مصر".
تكريس محاصرة الحريات الشخصية
أزمة الأكاديمية والروائية المصرية منى برنس كانت ضيفاً دائماً في تقارير مؤسسة حرية الفكر والتعبير، المتهمة بالحريات الأكاديمية في مصر، وهي الجهة التي تولت الدفاع عنها في مناسبات مخلتفة لإعادتها إلى علمها من جديد.
تقول فاطمة سراج، المحامية والحقوقية بمؤسسة حرية الفكر والتعبير، إن الحكم القضائي الأخير الخاص بعزل برنس من وظيفتها لم يراع الحقوق الشخصية والحياة الخاصة لسيدة تعمل في الحقل الأكاديمي وتعامل كأنها شخصية واحدة لا تتمتع بأي حقوق.
تضيف سراج لرصيف22 أن الحكم يكرس لتجاوز الحياة الخاصة للأكاديميين ويرسي لقاعدة أخلاقية ستفتح الباب لمحاسبة وعقاب أعضاء هيئة التدريس وفقاً لكود أخلاقي حسب الأهواء الذاتية للمجالس الجامعية.
"الحياة الشخصية ملك لأصحابها ولا يجب الخلط بين ما هو خاص وما هو عام، وهذا يختلف عن الدور الأكاديمي لعضو هيئة التدريس فهو مسؤول عما يقدمه من مواد علمية داخل الحرم الجامعي، وهيبته يستمدها من عمله وعلاقته بزملائه وتلاميذه داخل محيط الجامعة وليس خارجها"
"الحياة الشخصية ملك لأصحابها ولا يجب الخلط بين ما هو خاص وما هو عام، وهذا يختلف عن الدور الأكاديمي لعضو هيئة التدريس فهو مسؤول عما يقدمه من مواد علمية داخل الحرم الجامعي، وشخصيته هيبته يستمدها من عمله وعلاقته بزملائه وتلاميذه داخل محيط الجامعة وليس خارجها" تتابع سراج.
تعتقد سراج أن منى برنس ضحية عمليات استهداف شخصي مستمر لآرائها الليبرالية ونشاطها السياسي والثقافي، خصوصاً بعدما أعلنت ترشحها للانتخابات الرئاسية في 2018، غير أنها ليست المرة الأولى التي يتم إيذاؤها بسبب مواقفها بعد اتهامها من قبل بالإساءة للدين الإسلامي في 2013.
تتعجب الدكتورة ثريا عبدالجواد، العضوة في حركة 9 مارس لاستقلال الجامعات، من تتبع مجالس تأديب الجامعات حسابات ومنابر أعضاء هيئة التدريس على مواقع التواصل الاجتماعي وما ينشرونه من محتوى شخصي أو آراء عامة في القضايا الحياتية
اللافت أيضاً أن نموذج إقصاء برنس بسبب كود أخلاقي يرتسم ملامحه ليس معتاداً في ملف الحريات الأكاديمية، فخلال السنوات الماضية توسعت الحكومة في إقصاء أعضاء هيئة تدريس بسبب آرائهم السياسية، لكنها لم تقتحم من قبل الملف الأخلاقي رغم وجود شكاوي من وقائع تحرش تورط فيها أعضاء بهيئة التدريس، حسبما توضح فاطمة سراج المسؤولة بحرية الفكر والتعبير.
تتعجب الدكتورة ثريا عبدالجواد، العضوة في حركة 9 مارس لاستقلال الجامعات، من تتبع مجالس تأديب الجامعات حسابات ومنابر أعضاء هيئة التدريس على مواقع التواصل الاجتماعي وما ينشرونه من محتوى شخصي أو آراء عامة في القضايا الحياتية، معتبرة أن منى برنس يتم عقابها بشكل غير قانوني على ممارسات ليس لها علاقة بالعمل الأكاديمي.
برأي عبدالجواد، برنس ضحية لخلط العام بالخاص في مصر وتأثير النزعة الدينية في تحديد القيم الشخصية والأخلاق المجتمعية، فالحريات الشخصية مرتبطة بقيم المجتمع.
لا تتبنى عبدالجواد ما فعلته أستاذة كلية التربية بجامعة قناة السويس وتصفه بأنه خروج عن المألوف لأكاديمية بارزة مثلها، لكنها ترفض أن يستخدم القضاء كأداة للنيل من الحريات الشخصيات وتسليط الرقابة على حياة أعضاء هيئة التدريس إلى هذا الحد: "لست مع أفعالها لكن المسائل الأخلاقية يتحمل وزرها الشخص نفسه ليس القضاء ولا هيئة التأديب".
تشير عضوة حركة استقلال الجامعات في حديثها لـرصيف22 إلى أن المجالس التأديبية في الجامعات تتسم بالطابع العقابي في تعاملها مع القضايا التي تحال إليها، لذا كان متوقعاً أن تعزل جامعة قناة السويس منى برنس من وظيفتها، بينما تغض الجامعات في مصر الطرف عن وقائع فساد وسرقات علمية تعج بها الجامعة، فهم لا يعاملون بنفس الصرامة ولا يحالون للتحقيق من الأساس.
في الوقت نفسه، تؤكد أستاذة علم الاجتماع بكلية آداب المنوفية أن بعض المهن في مصر تتطلب ممارستها ميثاقاً أخلاقياً معيناً، فالقاضي مثلاً يلتزم بعدم خدش الرونق ولا نعتاد رؤيته في أماكن عامة يدخن النارجيلة، وكذلك الأمر بالنسبة للأكاديمي، فإن المجتمع يحكم عليه ويستهجن سلوكه لكنه لا يقصيه من عمله.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...