لا بد أن يذكرنا عنوان فيلم "الإفطار الأخير"، للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد، وهو آخر أفلامه، بالعشاء الأخير للسيد المسيح وتلامذته، حيث تكون المائدة آخر ما يجمع بين الأرواح المحبة المتآلفة أو العاشقة. ولكن في فيلم "الإفطار الأخير"، ربما يكون الحب هو من سيموت بقذيفة هاون عشوائية، في يوم ممطر بالقذائف من يوميات العاصمة السورية، مثلما شهدت أياماً كثيرة أخرى مشابهة. قد يكون الحب هذه المرة هو من سيعلَّق على صليب الحرب والانتظار ويترك صرخات الفقد تتطاير عبر الهواء، ومن جهة أخرى، إذا كان ثمة من قيامة، فلا بد أن تكون قيامة هذه البلاد نفسها، فهي من صار لزاماً عليها أن تقوم من بين الأموات، و من بين ركام الحرب، وتنبعث من جديد بعد سنوات طويلة من الدمار والانتظار.
عن الفقد كتجربة
يتحدث الفيلم في طبقته الظاهرة النافرة على الشاشة عن الفقد كتجربة، ولكن ليس الفقد العادي، بل الفقد المأساوي بنكهته التراجيدية، والفقد العاطفي، حيث منذ بداية المشهد الأول تتنبأ "رندة" (كندا حنا) السيدة الجميلة والحالمة بموتها، وهي على مائدة الإفطار مع زوجها، حيث كانت تحضر المائدة بكل حب و أناقة، من غير دموع، بل بوصايا عاطفية بأن يتزوج رجلها امرأة أخرى هي "جمانة" (راما عيسى) صديقتهما التي كانت تكنّ لزوجها حباً قديماً، طالبة منه بكل جدية أن يرتبط بها بعد وفاتها، معلنة عن شعورها، بأن اليوم هو يومها الأخير، حيث شعرت أنها ستموت بسبب كثافة القذائف في ذلك اليوم، الذي لا نعرف تاريخه على وجه التحديد، من سنوات الحرب الطويلة.
يودع "سامي" (عبد المنعم عمايري) الخياط الماهر والمتقن لعمله، زوجته بقبلة عاطفية أو بالأحرى هي من بادرت بقبلةٍ على فمه، كأنها أرادت أن تتذوق الحب للمرة الأخيرة، لكن سامي لم يكترث كثيراً لكلام زوجته عن الموت و ما إلى ذلك، على الرغم من أن اضطراباً معيناً قد بدأ يسري في جسده و هو يهم بالمغادرة إلى عمله مثل سائر أيام حياته. لم يكن على يقين أن زوجته جادة في شعورها، وربما يقينها بدنوّ أجلها، واقترابها من الموت إلى أقرب درجة، وهو فعلاً ما يحدث حيث تتحقق نبوءتها، وتسقط قذيفة قربها وهي تحضر الغداء لزوجها، ربما على أمل أن يخطئها الموت، ويمنحها يوماً آخر أو أياماً أخرى قرب الرجل الذي تحب.
في يوم عاديّ ممطر بالقذائف من يوميات العاصمة السورية، تتنبأ زوجة بموتها وتوصي زوجها بأن يتزوّج امرأة أخرى. تتحقق نبوءتها، وتسقط قذيفة قربها وهي تحضر الغداء لزوجها تاركة له أصعب مصير، ليواجه غيابها وحيداً... فيلم "الإفطار الأخير"
لكن الموت لا ينتظر، فتسقط مضرجةً بدمائها، ويسقط زوجها مضرجاً بصدمته وصمته، حين يعود إلى البيت مسرعاً، بعد محاولة باءت بالفشل للاتصال بزوجته التي سقطت على أرض المطبخ، تاركة له أصعب مصير، ليواجه غيابها وحيداً، هو الذي يجدها حاضرة في كل مكان، وفي كل تفاصيل حياته، وفي كل ركن من بيتهما.
مواجهة الرحيل القاسي
هذا هو الخط العريض للفيلم، لتبدأ معها معارك الزوج بين اليقظة والخيال، أو بين الصحو والنوم، لمواجهة هذا الرحيل القاسي، حيث تستحوذ صورتها كلياً على فكره إلى درجة أنه يصبح يرى الخيال واقعاً؛ فزوجته التي دفنها في الصباح، يجدها في الليل في البيت تسأله عن سبب تأخره وأين قضى كل ذلك الوقت، ثم يصير يراها في كل غرفة، وفي الصالون، والمطبخ، وفي غرفة النوم أمام المرآة، حتى يقتنع بوجودها وعدم رحيلها. لا أحد غيره يسمعها ويراها، لكنها تحيط بكل حياته، حتى أصبحت تطارده في كل مكان؛ فعندما يقرر مغادرة البيت، وينام في الفندق، يجدها على السرير في الفندق ذاته و الغرفة ذاتها، تطلب منه أن يعودا معاً إلى البيت، وعندما يقرر أن يذهب ليغير عن نفسه عند والد صديقه، الذي يعمل في مكتب المسؤول الكبير، بناءً على نصيحته، في تلك الضيعة الهادئة الجميلة، يجدها بجانبه، على مقعد السيارة، تتحدث عن جماليات السفر معه، لتصبح تماماً امرأة مطبقةً على حياته.
في الفيلم الذي يعود بنسبه لـ"عراب السينما السورية"، كما يطيب للبعض بتسمية المخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد، صاحب أفلام، مثل "رسائل شفهية" بطولة فايز قزق، و"قمران وزيتونة"، و"نسيم الروح" بطولة بسام كوسا، الفيلم الذي لا يمكن نسيانه، وأفلام أخرى كثيرة، ثمة كوميديا محببة، ولمسة خفيفة لا تجرح المعنى ولا تجرح النص، لا سيما عندما يمثل المخرج نفسه في الفيلم ببعض المشاهد الجميلة، حين يزوره سامي (عبد المنعم عمايري) في ضيعته (ضيعة أبو يوسف).
هو الرجل الوحيد و الكبير في العمر، لكنه صاحب ظل خفيف وروح لطيفة في تلك الضيعة حيث الطبيعة الجميلة والماء والشجر والهدوء الذي لا يعكر صفوه شيء إلا بعض الصواريخ التي تسقط بين الحين والآخر في تلك القرية، وأحياناً تشاء المصادفة أن تسقط تلك القذائف على مقربة من منزل أبو يوسف الذي قصده سامي للاستجمام وليخفف عن روحه عناء الأيام الأخيرة، فتسقط بعض الصواريخ أو القذائف، حيث يُظهر المخرج بعض الدعابة، ربما ليخفف من تراجيدية الفيلم، فيجري على لسانه هو (أبو يوسف في الفيلم) بعض الكلمات والضحكات اللطيفة، وكثير من الاستخفاف بالموت والاستخفاف بتلك القذائف التي تسقط بين الحين و الآخر.
يعود سامي من نقاهته الاختيارية، عازماً على التقدم لجمانة بناء على نصيحة الرجل (الضيعجي) له بالزواج وإنجاب الأطفال، وهو ما يفعله فعلاً بعد عدة محاولات، فيتزوج سامي فعلاً ويقرر أن ينفذ وصية زوجته، بمشاهد لا تخلو من الطرافة والقبل التي أثارت حفيظة شريحة كبيرة من الجمهور.
تستحوذ صورة الزوجة كلياً على فكر زوجها إلى درجة أنه يصبح يرى الخيال واقعاً؛ فزوجته التي دفنها في الصباح، يجدها في الليل في البيت تسأله عن سبب تأخره، ثم يصير يراها في كل غرفة، وفي الصالون، والمطبخ، وفي غرفة النوم أمام المرآة، حتى يقتنع بوجودها وعدم رحيلها
تنتهي حياة سامي الخياط أو خياط المسؤولين، الذي لم يتوان يوماً عن مساعدة جيرانه وأهل الحي الذي يعيش فيه، بقنبلة موقوتة مزروعة في سيارته، بعد ليلة واحدة من زواجه الثاني، حينما تنفجر سيارته بعد ركوبها بلحظات، ليهرع كل الجيران لمحاولة إطفاء سيارته التي اشتعلت فيها النيران.
ثمة مشهد جميل ومؤثر عندما تركض جمانة زوجته الجديدة، حاملة بيدها دلو الماء، بقميص نومها الأحمر، لإنقاذ زوجها الذي انتقل إلى العالم الآخر، العالم الذي يجد فيه زوجته وحبيبته الأولى رندة، تنتظره فيه على مائدة الطعام.
ليس هناك مقولات سياسية بالمعنى المباشر للفيلم، بل إشارات صغيرة، عندما يتم التطرق للمسلحين الذي حملوا السلاح ضد الدولة، وفي انفجار سيارة سامي، الغامض، الذي لا يمكن ربطه إلا بجاره الذي لم يستطع مساعدة قريبه الضليع بتهم كثيرة، برغم محاولة سامي المساعدة.
تلفت الانتباه في الفيلم الصور الجميلة والألوان الزاهية، والمشهد الأول الملفت بجماليته، ومشهد الطبيعة الخلاب في ضيعة أبو يوسف، إضافة إلى حركة الكاميرا الرشيقة المريحة للبصر وإحساس النص، وأيضاً الأداء المتـميز لكل من كندا حنا و عبد المنعم عمايري. لكن من بعض المآخذ عليه برأيي الشخصي، بعض الملل في تكرار نفس الأحداث في الربع ساعة الأولى، وإظهار المثقف "نبيل" (كرم الشعراني) بمظهر لا يخلو من الهبل والسذاجة، فلا يجوز تصدير صورة المثقف بهذا الشكل، ولكن ربما كان المقصود إضفاء مسحة من الكوميدية على حساب قيمة الصورة لدى المتلقين.
قبلة الفم شبه محرمة
وكعادة شريحة كبيرة من الجمهور، في السنوات الأخيرة، الذي ترتعد فرائصها من مشهد قبلة أو مشهد عاطفي في أي عمل درامي عربي، فبعد أن أصبحت قبلة الفم شبه محرمة (درامياً و سينمائياً) في السنوات الأخيرة في العالم العربي، وفي مصر على وجه الخصوص، بعد أن كان لا يخلو فيلم مصري من قبلةٍ (كما توصف بالجريئة) سواءً داخل الفيلم أو في نهايته كعادة الكثير من أفلام الأبيض الأسود وحتى أفلام السبعينيات والثمانينات، فقد أصبحت القبلة اليوم تثير حفيظة الكثير من الجمهور العربي، وذلك ما حدث تماماً في فيلم "الإفطار الأخير"، ونعني في هذا قبلة كندا حنا لعبد المنعم عمايري، أو العكس، و ذلك ما دفع الفنان عمايري ليرد على تلك الأصوات التي تركت كل رسائل الفيلم، ولم يستفزها سوى قبلة امرأة لزوجها، و هي تشعر أنها ستراه للمرة الأخيرة.
علق عبد المنعم عمايري على ذلك أنه كان ذلك المشهد لضرورة درامية. وأضاف: لماذا لم تحدث الضجة حول القبلة في السينما في فترة السبعينيات على سبيل المثال؟ مرجعاً ذلك إلى السوشال ميديا، بما أتاحته من فرصة للتعبير عن الآراء، متابعاً: لا أستطيع أن أتنازل عن أفكاري، ولا أستطيع أن أصنع فقط ما يتوافق مع مزاج المشاهدين. أنا أعمل وفق قناعاتي، وليس وفق ذائقة الجمهور، فالفن راقٍ ليس له حدود، و هو محترم ويقدم رسائل، ولا يمكن تقديم فن دون مساحة حرية. أما كندا حنا فقد عقبت أنها لم تتوقع كل تلك الضجة التي كانت فوق التصورات من أجل قبلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...